دانييل كوهن
محمد الشيخ
قديماً قالت الصوفية: الصوفي ابن وقته، وقالت الفلاسفة: الفيلسوف ابن زمانه، له أن يحيي روح عصره بأفضل حياة تكون، لكن ليس له أن يقفز على عصره، فإِنْ هو فعل ذلك كان شأنه شأن من أراد القفز على ظله. والأَوْلى أن يكون عالم الاقتصاد ابن يومه. وهذا ما فعله عالم الاقتصاد الفرنسي ـ دانييل كوهن ـ بعد أن انتقل هو بنا في توصيف إنسان اليوم من كتابه السابق ـ "الإنسان الاقتصادي" ـ إلى كتابه الجديد ـ "الإنسان الرقمي".
استفتح الكتاب بالإلماح إلى حلقة من سلسلة تلفزيونية بريطانية لاقت نجاحا كبيرا اسمها "المرآة السوداء" تحكي عن قصة شابة فقدت زوجها بعد أن هلك في حادثة سيارة في اليوم نفسه الذي علمت فيه أنَّها حامل منه. وبفضل استقصاء الذكاء الاصطناعي محادثات زوجها المتوفى الهاتفية ورسائله، تمَّ إحياء الزوج إحياء كأنَّه حشر من قبره بنبراته وجواباته عينها عن الأسئلة التي أخذت زوجته تطرحها عليه ... يكمن مغزى هذه السلسلة في مقدرتها على استشراف عوالم المستقبل، وفي اقتدارها على استكشاف مقدرتنا معشر بشر اليوم على قبول استحواذ التكنولوجيا الجديدة علينا أكثر منه الوقوف على حدودها. والحال أن فكرة بعث الموتى هذه بعثا افتراضيا تُثير الذعر في النفوس، لولا أنها باتت فكرة قابلة للتحقيق بفضل برامج الذكاء الاصطناعي. ليس هذا وحسب، وإنما صار التوظيف في الشركات العملاقة يعتمد بدوره على الذكاء الاصطناعي في انتقاء المرشحين بالاطلاع على خوارزميات سائر تفاعلاتهم السابقة عبر الشبكات ورسم صورة مسبقة عمن يكونون. وقس على ذلك الحب الذي استحال صناعة برمجية وقد رُدَّ إلى غريزة الجنس ليس إلا، واختزل مرحلة التعارف إلى المباضعة، وقد استحالت العواطف والرغبات والهواجس المتعلقة بهذه العاطفة النبيلة إلى خوارزميات قلبت الصلات البشرية رأسًا على عقب.
ها نحن ذوو "الثورة الرقمية" التي أعقبت "الثورة الصناعية"، وهي ثورة غير مسبوقة في تاريخ البشر باتت تنحو إلى تغيير المجتمع وتمثلاته تغييرا جذريا؛ إذ في المجتمع الجديد الذي لاحت بشائره ما عاد الأمر يتعلق بشراء بضائع وآلات، وإنما باستهلاك استيهامات فردية أو جماعية. وهكذا، حسب عبارة المؤلف، باتت الثورة الرقمية "تُصَنِّع المجتمع الصناعي نفسه"؛ علما بأن المجتمع ما بعد الصناعي هو المجتمع الذي ما عاد يعتمد على فلاحة الأرض أو صناعة الخيرات وإنما على الاشتغال على البشر أنفسهم: أجسادهم ومخيالاتهم.
ومما طم الوادي على القرى جائحة كورونا؛ حيث بات الفائز في الأزمة هو الشركات الرقمية: أمازون وآبل ونيتفليكس ... وهي التي سمحت بالشغل عن بعد، وبتزويد الناس بالمستهلكات بدل رواحهم إلى المتاجر، وبالترفيه عليهم عوض ذهابهم إلى المسرح أو إلى قاعات العروض الموسيقية. وقد أدرك الجميع مقصد "الرأسمالية الرقمية": الإقلال ما أمكن من تكلفة التفاعل بين الأجسام، وتوفير جهد المواجهة وجها لوجه بينها، وإحلال الخوارزميات محل سلسلة تنظيم الشغل والإنتاج. فما عاد الأمر يقتضي تدبير الأجساد بأقصى تدبير يكون، كما كان عليه الأمر أيام الثورة الصناعية، وإنما بات تدبير الأنفس ... حيث أمست محركات البحث تقود الأفراد نحو مواقع لقاء أو آراء مواتية لهم، منشئة بذلك ضربا مما يسميه المؤلف "جيتوهات رقمية" جديدة.
وها هي الرأسمالية الجديدة ـ والتي يدعوها المؤلف "الرأسمالية الرقمية" ـ وقد كان الأصل في كل رأسمالية التدبير المعقلن، صائرة ـ ويا للمناقضة! ـ إلى خلق "إنسان رقمي" غير عقلاني وجموح ومندفع أحق وصف يوصف به هو "المتبلد الرقمي". وهكذا، بدل خلق "ساحة عامة" جديدة للنقاش العقلاني الحر ـ أو إنشاء "فضاء عمومي لتداول الأفكار" ـ ها قد طفقت الشبكات الاجتماعية تؤدي إلى إشاعة خطاب جذري يدعو إلى كراهية الخصوم ويحصد ملايين "اللايكات". وقد أظهر هذا أن المرء ما عاد يبحث في الإنترنت عن "أخبار" و"معلومات" وإنما عن "معتقدات" أمست تستهلك كما تستهلك أية بضاعة عادية، وبتنا أمام منطق مسرحية "لكل حقيقته".
ولكي نفهم هذه الظاهرة المستجدة، يدعونا المؤلف إلى استعمال الحس التاريخي. ذلك أن "الثورة الرقمية" عمدت إلى تفكيك مؤسسات المجتمع الصناعي: المقاولات، النقابات، الأحزاب، وسائل الإعلام ... والغريب في الأمر أن هذا "التفكيك" ثمرة مباشرة للصدمة الليبرالية لثمانينيات القرن الماضي التي رامت تمديد السوق والمنافسة إلى كل المديات الممكنة ـ وبلغة فيلسوف عمان الصحاري: "تبضيع" كل شيء ـ بلا أية واسطة. وما الشغل عن بعد إلا شاهد على تفكيك الشركات العملاقة لصالح المهام الخارجية والمكافآت الفردية. لكن ـ ويا للمفارقة! ـ هذا الوضع هو ثمرة أيضا لنقيض الثورة الليبرالية المحافظة؛ أي للثقافة المضادة التي شاعت في الستينيات من القرن الماضي ثائرة على السلطات والمؤسسات. وإذ هزمت الثورة الليبرالية المحافظة روح الستينيات المتمردة، ها هي هذه الروح تخيم كأنها شبح على الشبكات الاجتماعية من جديد، وقد دمغتها بدمغة معادية للنظام بينما أسست هذه الشبكات ـ ويا للمفارقة مرة أخرى! ـ للنظام عينه: "صوت ديلان [الثائر] ويد تاتشر [المحافظة]". وبهذا أصبح "الإنسان الرقمي" ينضوي على عش من المتناقضات: وحيد وحنيني، ليبرالي ومعاد للنظام. وقد أمسى فريسة سهلة لمجتمع اختُزل إلى تجمع لأفراد يريدون الانفلات من عزلتهم بتكوين جماعات وهمية. مع تقدم العلم أن الأواصر الافتراضية لا تغني عن الرغبة في العيش الحي الحق ـ عيش بشر بين بني البشر ـ وما أمكن اختزال الحياة في ثرائها إلى لعبة فيديو ليس إلا.
لكن، وكما قال الشاعر الألماني: "حيثما المهلكة، فثمة المنجاة". تلك كانت النذارة، أما البشارة فتكمن في أننا لا نعيش في حلقة سلسلة خيال علمي؛ إذ ما استولت التقنيات على كل حياتنا بعد، وإنما توسعت سطوتها وتمدد سلطانها، ونفعت بقدر ما هي أضرت. وقد نفعت من حيث قطعت مع كل خطابات السلطة المتعالية، مفجرة بذلك ينابيع طريقة عيش مستحدثة لا سابق لها في تاريخ الحضارات، طريقة عيش أفقية ودنيوية من دون عمودية المجتمعات الصناعية وتراتبيتها، ومن دون دينونة المجتمعات الزراعية. وإن الطريق لطويل لفهم ما الذي تعنيه هذه اليوطوبيا. على أنه يمكن رسم بعض معالمه في خلاصات أساسية:
يتألف الكتاب من بابين اثنين: الباب الأول عنوانه "الوهم الرقمي"، والباب الثاني عنوانه "عودة الواقع". وكأننا ننتقل هنا عكسيا من الوهم الذي صنعه العالم الرقمي إلى الواقع العيني والمأمول.
في الباب الأول: الوهم الرقمي
يعمد المؤلف في الفصل الأول إلى تبين السمات التي تميز "الإنسان" عن كل من "الحيوان" و"الآلة" بالاستناد إلى أبحاث في الأنثربولوجيا التطورية والفلسفة الحيوية. وينطلق من ملاحظة أن الإنسان حوّل عهد الثورة الصناعية إلى آلة، أما في الثورة الرقمية فالآلة تتحول إلى إنسان. لكن ينبهنا إلى حدود هذه المماثلة؛ وذلك بذكر أن الإنسان يقتدر على ما لا يقتدر عليه أي حيوان، فضلا عن آلة، وهو أن ينشئ نظريات حول كل هذا الذي يحيط به. ثم إن الإنسان لا يفكر وحيدا، على نحو ما قد تقتدر على فعله "الآلة"، بل يفكر في إطار الجماعة من البشر. ومن بين ما يفكر فيه صناعة "التخييل" التي لا يقتدر عليها غيره. ولهذا، لا جماعة بشرية وُجدت، خلاف سائر الحيوانات، بلا دين، بلا محرمات، بلا نسابة، بلا حكايا، بلا سحر، بلا تاريخ، بلا لجوء إلى المتخيل؛ أي بلا تخييل. وهذا يؤكد على سمة الإنسان من حيث كونه يقتدر على تخليق عالم لا يوجد، وتلك عظمته ومأساته في الوقت نفسه؛ ومن هذه الجهة أوتي هو يوم ابتدع العالم الرقمي. وعلى خلاف ديكارت، ما كان العقل وحده الذي يجعل الإنسان يقتدر على ابتداع المستقبل، وإنما ـ والحق هنا إلى جانب اسبينوزا ـ العواطف هي التي تفعل ذلك بالأولى. وما هذه العواطف سوى انفعال للجسد. هذا مع العلم أن الآلة لا جسد لها، ولا عواصف، ولا ذهن؛ فلا تملك بذلك مقدرة البشر على التخيل الخلاق؛ وهي أشبه شيء بالنمل منه بالبشر. وذكاء الخوارزميات ذكاء غبي، إذ يمكنها أن تقتل إنسانا وتروح لتجلب إليه كأس قهوة؛ إذ لا تعي هي ما يحيط بها ولا تقتدر على تخيله. أكثر من هذا، الذكاءات الاصطناعية أقل ذكاء من قطة ينضوي دماغها على 760 مليون عصبون، و10000 شبكة تواصل، ومن كلب يملك 2.2 مليار عصبون. وبالجملة؛ يملك الإنسان ما لا يملكه الحيوان، فضلا عن الآلة، المرونة والتكيف مع المحيط. ولهذا من شأن تعويل الإنسان على الآلة التعويل الكلي أن يرتد به إلى الخلف.
وفي الفصل الثاني يستنتج المؤلف النتائج المترتبة عن التعويل على الآلة الرقمية، ليلاحظ أنه وعلى عكس الموعود، فإن التحول الجاري اليوم من شأنه أن ينشئ فردا يتسم بالسذاجة وبغياب الحس النقدي، وهو أمر ناقضته الطباعة وعززته التلفزة والشاشة. إذ ما أن يبلغ الطفل السنة الثانية من عمره حتى يمضي ثلاث ساعات يومياً وأزيد أمام الشاشة الرقمية، ويمضي الأطفال (بين 8 و12 عاما) خمسَ ساعات، و(بين 13 و18 عاما) سبعَ ساعات؛ بما يعني أن المراهقين يمضون أربعين في المائة من حياتهم اليقظة أمام الشاشة الرقمية. وقد باتوا يعانون من تقلبات في المزاج رهيبة، ومن إدمان خطير؛ بما في ذلك على المواقع الإباحية. ويعتبر المؤلف وكأن الأمر دبر بليل من لدن أصحاب فيسبوك وغيره طلبا للربح من تدبير الأرواح فضلا عن الأجساد. وفضلا عن هذا، بتنا أمام ما يسميه "رأسمالية المراقبة": أنت مراقب. على أنها رقابة من جنس جديد، لا لتكميم الأفواه، بل بالعكس لإنطاقها؛ أي لدفعها إلى التعبير عن رغباتها وحاجاتها وميولاتها إلى الاستهلاك؛ بحيث يتم إحصاء كل شيء عليك: اهتمامك ببرنامج تلفزي، وطريقة سياقتك، ونظام غذائك ...
وفي الفصل الثالث يعرض المؤلف إلى ظرفية جائحة كوفيد وكيف عززت إدمان "الإنسان الرقمي" على الشاشات الرقمية، متحدثا عما يسميه "تكاملا مذهلا" بين ظهور الفايروس والرأسمالية الرقمية. ويدعونا إلى التمتع بالحس التاريخي لتجلية الأمر: ثمة منزع عميق لدى الإنسان الحديث لإتيان فعل يتربب به: أن يخلق إنسانا اصطناعيا ـ خوارزميا ـ على صورته. وتلك مغامرة منه غير محسوبة العواقب ولا معلومة الثمرة. وأشد الأمور اشتكالا نوعية المجتمع الذي سوف ينجم عن هكذا مغامرة.
وفي الفصل الرابع يتحدث المؤلف عما يسميه: المنطق الذي ينضوي عليه الفضاء الرقمي. ذلك أن المفترض في هذا الفضاء تحسين ظروف عيش المجتمعات المتقدمة، لكن المتحصل منه "تفقير" الناس؛ لا سيما الطبقة الوسطى. إذ لَئِنْ أفاد من هذه الثورة الرقمية المضاربون في البورصة، ولاعبو كرة القدم، ومنتجو الخوارزميات، فإن مقدمي الخدمات الحساسة غُمطوا حقهم، بل الأنكى من ذلك أُفقروا؛ مما نجم عنه خيبة أمل كبرى، وازدياد منسوب العنف لدى الضحايا. وقوّى ذلك من "جماعات سياسية" غير نظامية سعت إلى ملء الفراغ الذي تركته الأحزاب التقليدية وضعف المؤسسات والمقاولات والنقابات التي كانت حاضرة إبان الثورة الصناعية في الفضاء الاجتماعي. على أن الفضاء العمومي الذي وعدت به الثورة الرقمية سرعان ما جعلها تتحول إلى فضاء كراهية ومشاقة وبهرجة معادية للديمقراطية. وما عاد يهمها "الخبر" وإنما المعتقد" الذي يدغدغ العواطف، بل ويخلق عالما حسب رغباتنا. فإذا ما نحن كنا من أصحاب نظرية المؤامرة، فإن العالم الرقمي يخاطبنا: أبشروا، فأنتم بالملايين، وسوف أنسق بينكم حتى تبيتوا ملة واحدة.
الباب الثاني: عودة الواقع
في مقدمة هذا الباب يلخص المؤلف ما انتهى إليه في الباب الأول: حملت بشائر الإنترنت وعودا بذكاء جماعي جديد، وبمنصة ديمقراطية مستحدثة. لكن بدل هذا، نشأ عن الشبكات الاجتماعية تبليد عجيب للحياة السياسية وتنامٍ للشر الذي أتت لعلاجه: العزلة الاجتماعية. كيف انقشع هذا الوهم؟ انقشع "الوهم الليبرالي" الذي اعتقد أن إنشاء مجتمع بدءا من حشد أفراد معزولين، بلا واسطة ولا طقوس عبور ولا هيئات توسطية، أمر ممكن شريطة تمكين هؤلاء من "التواصل". والحال أن تاريخ المجتمعات البشرية يشهد على ضرورة المؤسسات، من دور عبادة وأحزاب وطوائف ومقاولات، تؤثر في الضمير الجمعي وتمنح الأفراد فرصة السمو على الشبكات التي ينتجها تجمعهم. ثم يستأنف المؤلف تحليله بالقول إن هذه اللحمة المؤسسية هي ما ينقص الثورة الرقمية بالذات. ولَئِنْ نحن وضعنا العالم الرقمي في سلم تاريخ البشرية ونظرنا في كيفية تجمَّع البشر في مجتمعات، لميزنا بين محورين: أولا؛ من وجهة نظر التفاعلات بين الأفراد، يمكن أن تكون المجتمعات من الصنف العمودي أو الأفقي حسبما إذا هي انتظمت على أساس مبادئ تراتبية أو تعادلية. وثانيا، يمكن لهذه المجتمعات أن تكون دينونية أو دنيوية تبعا لانتظامها على أساس نواميس غيبية أو بشرية؛ مما ينجم عن تآلفه أربعة أنواع من المجتمعات: تعادلية-دينونية، وتراتبية-دينونية، وتراتبية-دنيوية، وتعادلية-دنيوية. وجديد المجتمعات الرقمية أنها تعيش فترة مخاض ولادة هذا الصنف الأخير من المجتمعات. وهو صنف مستجد في تاريخ البشرية؛ بحيث باتت المجتمعات الرقمية ترسي معالم مجتمع تعادلي لا يؤمن اللهم إلا بنفسه، بلا سلطة مرجعية متعالية، أكانت دينية أو حتى مدنية. لكن طريقة تحقق هذا المجتمع من شأنها أن دمرت آليات الإدماج التي وضعها المجتمع الصناعي. ومن ثمة تكمن مفارقة العالم الرقمي المعاصر في أن التفاعل البيني سائد، وهو تفاعل ينجز إنجازا ضيقا وعد العمودية الذي سعى إلى تحقيقه جيل الستينيات الثائر، لكنه يؤدي ـ ويا للمفارقة – إلى خلق نقيضه الذي هو التفاوتات في غياب وساطات اجتماعية مؤسسية تقليدية. وفضلا عن هذا، من شأن هذه المجتمعات أن تؤدي إلى ازدياد العزلة الاجتماعية وترسيخ مجتمع الارتياب من الغير. وهذا التفسخ الاجتماعي ينتج ذهنية جديدة: ثقافة تفاعل بيني، لكنها قَبَلِيَّة المنحى، ونشأة عالم ما بعد الحقيقة، عالم القبيلة الجديدة؛ حيث كل فرد يروي "مروياته" على الشبكة. وتلك هي مفارقة المجتمع الرقمي المركزية: تاق هو إلى نقاش مفتوح، لكن أعلن عن عجزه عن تنظيم المواجهة بين الأفكار المتعارضة؛ وأحيا رغبة إنشاء مجتمع عمودي ودنيوي، لكنه سجن كل شريحة اجتماعية في قمقمها، وذلك في غياب وساطات اجتماعية. على أن لا مجتمع إدماجي من غير التوفيق بين مطلب العمودية ومطلب الانسجام؛ وإذا ما حقق المجتمع الرقمي هذين المطلبين، فسوف يبين آنَها عن أنّ الأدوات الرقمية صارت مجدية.
يختم المؤلف كتابه بالقول التالي: ينبغي أن نقاوم ضد تذويب العالم الرقمي صلتنا مع الغير ومع الواقع. على أننا لن نبعث الموتى، لا ولن نهاجر إلى كوكب آخر: وإنما علينا أن نقبل العيش رفقة الأحياء وعلى هذا الكوكب.
ثمة ثلاث سمات تميز هذا الكتاب: أولا؛ يعج الكتاب بآراء مقتبسة من فلاسفة وعلماء سلوك حيوان وعلماء اقتصاد وسياسة وإعلام رغم أنه قد يجنح أحيانا إلى السرد على حساب التحليل، وتحكمه هواجس داروينية جديدة في التحليل الاجتماعي، وقد يتيه أطوارا التيه في تفاصيل ... ثانيا؛ أراد صاحب هذا الكتاب أن يكون تحليلا اقتصاديا واجتماعيا لما سماه المجتمع الرقمي، وفي نفس الوقت تعليقا على أهم الأحداث التي عشناها في الفترة الأخيرة؛ بما فيها أزمة كوفيد والحرب الروسية الأوكرانية. ثالثا؛ الكتاب عبارة عن تلخيص لكتب واختصار لنتائج دراسات وعرض لنظريات ... فهو جولة علمية ونزهة أدبية حتى وإن تخللتها طورا بعض الأدغال والمتاهات. لا بأس.
تفاصيل الكتاب:
عنوان الكتاب: الإنسان الرقمي: الحضارة الآتية
اسم المؤلف: دانييل كوهن
دار النشر: ألبان ميشيل
سنة النشر: 2022
