نيكولا هينكس وبونوا ماجيروس
سعيد بوكرامي
يقدم كتاب "الأمراض العقلية والمجتمعات من القرن التاسع عشر إلى القرن الحادي والعشرين" مقاربة تاريخية لمظاهر الجنون وعلاجاته وتجارب المحللين النفسيين على مدى القرنين الماضيين في البلدان الغربية وفي المناطق الاستعمارية وما بعد الاستعمارية. تهتم الدراسة من جهة بالسؤال العلمي عن أسباب تغلغل الجنون في المجتمع، وعن مكانته الراديكالية في الخطاب الأكاديمي، ومن جهة أخرى بمسألة حدوده المنهجية والمعرفية التي شكلت سلسلة من المظاهر ذات الطبيعة المتنوعة، المستعارة من الدين أو الجماليات أو من الانحرافات الفردية والجماعية. كما شكل العلاج النفسي على مر التاريخ تحديًا للتصنيفات العلمية؛ فكانت أحد المحركات الرئيسية لتطوره. إن تداول الأفكار والمفاهيم النفسية والتوسع المُستمر لفئاتها يميل إلى الانتشار وبشكل متزايد في المجتمعات التي تتعرض للضغوطات النفسية والاجتماعية والاقتصادية. لهذا، شهدت نهاية القرن العشرين اهتماما كبيرا بالصحة النفسية وأسباب الجنون وطرق علاجه.
وفي هذا السياق، يسعى الكتاب أيضًا إلى وضع مقدمة تاريخية جديدة للجنون والطب النفسي الذي ظهر على مدار العشرين عامًا الماضية، فإذا كان هذا التاريخ يعتمد على التاريخ النقدي الذي ظهر نتيجة أعمال ميشيل فوكو والتاريخ الاجتماعي خلال السبعينيات، فإنه يتميز بتجديد الموضوعات والمشكلات التي أسهمت في إلقاء نظرة جديدة وعميقة على هذا التاريخ؛ مما أدّى إلى تجاوز الجدل العقيم الذي عارض التاريخ الأكاديمي والتاريخ المهني للطب النفسي، دون إغفال قضايا الرقابة الاجتماعية وأساليب التطبيع مع الأمراض العقلية؛ فإن الاهتمام بالثقافات المادية، وبناء الطبقات الاجتماعية، وتشكيل الخبرات الذاتية والحميمة، كلها أسئلة جديدة ستكون في قلب هذا الكتاب الفريد.
لطالما أعطت العلوم الإنسانية والطب النفسي صورة جذرية وغيرية عن الأمراض العقلية. ومع ذلك، فقد لعبا دورًا تأسيسيًا في المجتمعات الأوروبية المعاصرة، سواء كان ذلك تعبيرًا عن سلسلة من نقاط القصور الطبي والاجتماعي أو تمثيلًا مرتبطًا بالعبقرية والجريمة، فإنهما كشفا عن الاضطرابات والانقلابات الاجتماعية الكبرى التي عرفها الإنسان المعاصر. وبذلك يمكن القول إن الكتاب عبارة عن مقدمة لتاريخ علاقة مجتمعاتنا بالأمراض العقلية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين وخلاصة للإنجازات التاريخية في الأربعين عامًا الماضية، التي تبدأ بالتاريخ الاجتماعي والثقافي لتصل إلى العلم والتكنولوجيا. يجيب الكتاب عن تساؤلات عديدة منها: كيف تعاملت المجتمعات الغربية المعاصرة مع ظاهرة المرض النفسي منذ القرن التاسع عشر؟ وكيف قامت العلوم الإنسانية والاجتماعية، منذ السبعينيات بتحليل وتفسير علاقة مجتمعاتنا بالأمراض العقلية؟ من هذين السؤالين قام عالما الاجتماع نيكولا هينكس والمؤرخ بونوا ماجيرو ببناء دراستهما التاريخية لـ "تاريخ الأمراض العقلية وعلاجها الاجتماعي في الأزمنة المعاصرة" (ص 3). ولبلوغ مراميهما؛ اختار المؤلفان هيكلة الكتاب في أربعة فصول تتوافق مع الأبعاد الرئيسية الأربعة للعلاقة التي تربط مجتمعاتنا بالمرض النفسي: "الفضاءات" و"المعارف" و"الممارسات" و"التجارب".
يشير الفصل الأول، المخصص لفضاءات الطب النفسي، إلى أن رعاية المرض النفسي وتجربته ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالترتيبات المكانية والمؤسسية التي تجري داخلها عملية العلاج. في القرن التاسع عشر، كان المكان الرمزي لعلاج الجنون هو الملجأ. بناءً على نظرية العزلة، التي بموجبها تعمل مؤسسة اللجوء كوسيلة للعلاج والشفاء، وهي تبني استراتيجيتها على رؤية متفائلة لتحسين حياة الأفراد من خلال التربية المستوحاة من فلسفة التنوير، فأصبح الحجز أو العزل تدريجيا ممارسة مهيمنة في إدارة الأمراض العقلية في القرن التاسع عشر. لقد حقق المؤرخون على نطاق واسع في الاشتغال الداخلي لهذه المؤسسات، بين الانضباط والعلاج والحياة اليومية؛ من أجل تسليط الضوء على وظيفتها الشاملة، ودور الهندسة المعمارية في تصنيف الأفراد، وأهمية الوجود والأشياء في تجربة الجنون.
ومع ذلك، فإننا نلاحظ أن أول لحظة "مضادة للعلاج النفسي" في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ستشهد على ميلاد جغرافية نفسية جديدة تتجسد في ثلاثة فضاءات: الحديقة، والمدينة، والمستعمرات. تعمل الجهات الفاعلة الجديدة والفئات الطبية والنفسية والمؤسسات الجديدة على تطوير وإخفاء تفويض اللجوء، استنادًا بشكل خاص إلى موضوع أمراض الحضارة (المرتبطة بالحياة الحضرية، والحياة اليومية، وغير ذلك). منذ الخمسينيات من القرن الماضي، أصبحت الجغرافية النفسية أكثر تعقيدًا: فأصبح العلاج المؤسسي موضع تشكيك وتساؤل وظهرت العديد من التجارب (مثل العلاج النفسي المؤسسي). وبدأت تكتسب فكرة "إزالة الطابع المؤسسي" أرضية تدريجية، وبدأنا نشهد في الواقع تحولا في فضاءات وأساليب رعاية الأفراد، فصار الاستشفاء النفسي جزءا لا يتجزأ من حياة بعض الناس و أماكن الطب النفسي خففت الحجز والعلاج القسري، وبذلك انتقل الطب النفسي من الفضاءات المؤسسية الصارمة إلى نوع من "العلاج خارج المستشفى" أو نوع من "إعادة التأهيل".
يسعى الفصل المخصص للمعارف إلى فهم العلاقة بين إنتاج المعرفة حول الاضطرابات النفسية والسياقات التاريخية والاجتماعية التي تحدث داخلها. يذكرنا المؤلفان أنه إبان تأسيس المعرفة النفسية، انتشرت ممارسات التصنيف التي كانت تعم بين شبكات مختلف الفاعلين في المؤسسات المشرفة على العلاج النفسي. في القرن التاسع عشر، عملت التصنيفات كنظم محلية مرتبطة بالأطباء؛ مما مكنهم من بناء الدروس والتعليمات، وبذلك رسخوا شرعيتهم. في النصف الثاني من القرن العشرين، تطورت حالة التصنيفات واستخداماتها نحو نوع من المعايرة على المستوى الدولي،( على سبيل المثال الطبعة الثالثة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية الذي نُشر في عام 1980، حيث أدت كل مراجعة للكتاب إلى إثارة الخلافات التي تجاوزت بكثير حدود الطب النفسي.) ص 55. انطلاقا من وجهة نظر تاريخية، فإن الكتاب تناول العلاقات بين المجتمعات والأمراض العقلية من زوايا مختلفة، بين التاريخ الثقافي والمنظور البنائي ودراسة المعاني الاجتماعية للفئات. إن ثراء وتنوع هذا العمل يشهد على الصعوبة الشديدة في حل لغز دور العمليات الاجتماعية في تشكّل الظواهر المرضية. أما الجانب الآخر من هذا اللغز - البحث عن الأسس البيولوجية للأمراض العقلية - هو أيضًا يمثل قضية مركزية طوال الفترة الزمنية المدروسة، وقد طرحت الكثير من الفرضيات حول جينات الأمراض العقلية في مطلع القرن العشرين خصوصا مع النفوذ الجديد الذي اكتسبه علم الأعصاب في فجر القرن الحادي والعشرين. وقد تميزت هذه الفترة أيضًا بالإثبات، الذي أكد فيه بعض الممارسين والعلماء، إلى ضرورة أخذ العواطف والذاتية بعين الاعتبار، سواء من المنظور المعرفي أو العلاجي، أثناء ممارسة التحليل النفسي.
أما الفصل الثالث، المخصص للممارسات، فيركز على التطورات الحديثة في تاريخ الطب النفسي المستلهم من تاريخ التقنيات، ويضع في صميم أجهزتها البحثية المفاوضات والتوترات التي تكمن وراء العلاجات النفسية وتطورها. لهذا؛ يستثمر الكتاب مصادر جديدة، ولا سيما السجلات الطبية. لفترة طويلة، كان تاريخ الممارسات النفسية محصورا في بديل غير منتج، يرى في ممارساته إما أداة للعلاج والشفاء والتحرر، أو أداة للسيطرة الاجتماعية والقمع والضبط. ومع ذلك، فإنَّ المواجهة مع أنواع أخرى من المصادر غير خطابات الأطباء النفسيين والأطباء تجعل من الممكن إضاءة وتحديد أساليب ممارسة العلاج بالإكراه، حيث نظم هذا الأخير تدريجيا وبشكل صارم خلال القرن العشرين (وهذا تحت تأثير عوامل مختلفة، بما في ذلك الارتفاع العام في مستوى المعيشة، مما جعل العنف المؤسسي أقل احتمالا وقبولا) ص 67. أما فيما يخص مسألة الشفاء، فيبرز التاريخ خصوصية مجال الأمراض العقلية من حيث المعنى الذي يُعطيه الفاعلون لهذا المفهوم، بين التقييم الكمي (علم الأوبئة) وهدف إعادة الاندماج في المدينة. هذا المعنى الثاني، الذي ظهر في مطلع القرن التاسع عشر واستمر إلى اليوم مع حركة التعافي التي تهدف إلى استقلالية الناس وتقدير تجربة المرض العقلي بشكل إيجابي. فيما يتعلق بتطور العلاجات النفسية، تعتبر نهاية القرن التاسع عشر فترة غنية جدًا. تضاعفت الطرق (التنويم المغناطيسي، والعلاج بالإيحاء وغيرهما) ولم يصبح التحليل النفسي هو الأسلوب السائد إلا منذ الثلاثينيات؛ فقد شهدت نهاية القرن العشرين أيضًا ظهور تقنيات جديدة مثل(العلاج التحليلي والنفسي الديناميكي، والعلاج النفسي الديناميكي، والعلاج المعرفي السلوكي، و العلاج الإنساني، والعلاج المتمركز حول الشخص، وعلاج الجشطالت، والعلاج الجهازي،والعلاج المنهجي وعلاج المكافأة، وعلاج اليقظة...) التي تجاوزت الإطار الطبي، وكانت مع ذلك جزءًا من نسيج مؤسسي حدد بوضوح وبشكل متزايد من طرف معظم الدول. أخيرًا، تناول المؤلفان قضية الأدوية من خلال تحليل التحكم في تداول المنتجات وتأثيراتها على العقل. وفي هذا السياق، يعودان إلى دور علم الأدوية النفسي في تعريف مفهوم العلاج ذاته، بالإضافة إلى نتائج هذه الأخيرة على ممارسات العلاج، مع التذكير بالأزمات المختلفة التي أثرت على علاقة الطب النفسي بالأدوية منذ السبعينيات.
يركز الفصل الأخير على ("التجارب") ويهتم بوجهات نظر الأشخاص المتعددين الذي جاوروا المرض النفسي أو كانوا فاعلين في علاجه. لقد تطور هذا المنظور في سبعينيات القرن الماضي انطلاقا من ملاحظة أن هؤلاء كانوا ضحايا لتصورات ضعيفة أو حتى مشوهة تعتبر (المصحات ملتقى للبؤس الاجتماعي أو الجنون). ترتبط هذه الفجوة بعائق منهجي كبير: لا يمكن إطلاقا الوصول إلى تجربة الناس بشكل مباشر. ومع ذلك، حاولت بعض الأعمال التغلب على هذا الإحراج من خلال التأكيد على قدرة الأفراد على مقاومة التصنيف والتفاوض بشأن هويتهم، على الرغم من مجهودات مختلف الجهات الفاعلة والمؤسسات الحاضنة للرعاية النفسية.كما قام الكتاب بتحليل الممارسات الملموسة واليومية للأشخاص الذين يمارسون الطب النفسي، مستعيدة الدور المركزي للجانب العقائدي وتوثيق العمليات المختلفة لإضفاء الطابع المهني على طاقم التمريض خلال القرن العشرين. في الوقت نفسه، فرض المرضى وعائلاتهم حضورهم بشكل تدريجي كجهات فاعلة مستقلة مطالبة بتحسين الرعاية النفسية، مثل حركة "الناجين" للطب النفسي في أمريكا الشمالية، وهي الحركة التي أدمجت تدريجياً في النموذج الطبي.
هذا الكتاب عبارة عن حصيلة بحثيّة وافرة وديناميكيّة، تغنيك عن عشرات المراجع، حتى وإن كان تقسيم الكتاب إلى أربعة أبعاد مثيرة للاهتمام، فإنه يبدو في بعض الأحيان سطحيًا بعض الشيء؛ لأنَّ هذه الأبعاد في الواقع معقدة بالضرورة . لكن في المقابل، يوفر الكتاب للمهتمين بوصلة في منتهى الإفادة عندما يرغب الدارس على الخصوص استثمار عنصر يرتبط بهذه الأسئلة الشائكة. وبالتالي، فإن البحث في مجال الطب النفسي، على سبيل المثال، يتطلب قدرًا كبيرًا من الاهتمام بالمعرفة المنتجة، سلفا كما هو الحال مع الفضاءات التي يتداول فيها، ومع الممارسات التي يعتمد عليها، والتجارب التي يقوم بوصفها وتحليلها وعلاجها. يطور الكتاب أيضًا مقاربة تاريخية وصفية ونسبية، مع إبراز الصعوبات التي تواجه الدارس أحيانًا والمتمثلة في التمثلات المحرفة أو الساذجة أو القديمة عن تاريخ الطب النفسي. وبذلك يفرض الكتاب نفسه كمعيار ومصدر قيم لأي شخص يرغب في مواجهة هذا "التحدي الكبير" (ص 110) الذي يتمثل في محاولة الفهم التاريخي والاجتماعي والأنثروبولوجي للأمراض العقلية. وبدلاً من أن يعرض الكتاب تصنيفا "للأمراض العقلية"، وتعريفاتها على مدى القرنين الماضيين وما رافقها من تجاوزات علمية وعجز فكري، وفقًا للمصطلحات المستخدمة من قبل المتخصصين البلجيكيين والفرنسيين، فإنه يوفّر مقدمة لتاريخ الممارسات التي يضمها هذا التخصص الطبي المعروف بالطب النفسي، والذي يتغذى بدوره على مجالات أخرى من البحث مثل علم الاجتماع أو حتى على النشاط الفني. إن المقاربات العلاجية لـ "الجنون"، التي قُدِّمت على أنها اختلاف جذري منذ القرن التاسع عشر،ثم تطورت إلى أنواع عديدة من التدخل، تراوحت بين العزل وفتح أماكن الرعاية، وتأكيد الأسباب التشريحية، والنظر في العوامل الذاتية والحساسة، وبين القيود والأولوية الممنوحة للاندماج في المدينة. يتم ذلك في حدود التغيرات التقنية والأيديولوجية والسياسية التي ميزت هذين القرنين، ويبدو أنَّ طريقة فهم المرض النفسي ومحاولة علاجه والتفكير فيه كانت تعرف طوال سيرورتها مدا وجزرا بين التقدم والتراجع والثبات والتحول، والفشل والنجاح.
تفاصيل الكتاب:
الكتاب: الأمراض العقلية والمجتمعات من القرن التاسع عشر إلى القرن الحادي والعشرين
المؤلفان: نيكولا هينكس، وبونوا ماجيروس
الناشر: دار لا ديكوفيرت، باريس، فرنسا.
تاريخ النشر: 2022
عدد الصفحات: 110 ص
اللغة الفرنسية.
