السياج كـ"توازن" للقوى

السياج.jpg

فاليري سافتشوك

فكتوريا زاريتوفسكايا*

لم يكتسب مفهوم "السياج" والمفاهيم الأخرى المرتبطة به -كالجدار أو الحاجز- الاهتمام الواجب من قِبل علماء ومنظِّري وفلاسفة الثقافة، لكنه أصبح موضوعا للدراسة التي نشرها معهد الفلسفة التابع لجامعة سانت بطرسبورغ الحكومي. ينطلق فاليري سافتشوك من حقيقة أن لهذه المفاهيم أصولا ثقافية، إضافة إلى ارتباطها بطقوس التضحيات والطقوس الجنائزية التي تعود إلى أزمنة قديمة أو بتداخلها بمختلف فروع الفنون. يقول الباحث إن هذا مفهوم السياج الفريد ما فتئ يفصل بين الثقافة والطبيعة، بين المصطنع والحقيقي، النظام والفوضى، المقدس والدنيوي وبين الداخلي والخارجي.

 

يُقدم الكتاب صورة كاملة عن تطوُّر فكرة السياج الذي ترتسم به الحدود كمؤشر لتطور البشرية. وتتدرج فكرة السياج فيتشبه بادئ ذي بدئ بصورة الجنة، ثم القلعة، ثم السجن، فالمدينة وبعدها الدولة، ثم يمر عبر أسوار شفافة أو مصبوبة وأسوار من الأسلاك الشائكة والجدران الزجاجية المضادة للرصاص حتى نصل إلى "جدران" وسائل التواصل الاجتماعي في المنتديات والمواقع الإلكترونية، وكل خطوة من تطور فكرة السياج تتضمن انعكاسا للأخلاق وللحالة الاقتصادية والسياسية وحقوق الإنسان وثقافة البلدان والمناطق.

ومن الدوافع الأوَّلية لكتابة هذا البحث هناك الاهتمام بحالة الأسيجة والأسوار بأنواعها وذلك ضمن البيئة المعمارية الحديثة وتأثيرها الخطير على نوعية الحياة بشكل عام والبيئة البصرية بشكل خاص. يحلل الكاتب أعمال الفنانين المعاصرين الذين يستنبطون ظاهرة السياج بوسائلهم الخاصة . كما تبرز بصورة جلية الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية لبناء السياج. وأخيرًا يستعرض الكاتب الأسوار والجدران من الزاوية الإعلامية المعاصرة.

ومن المنظور التاريخي والثقافي ارتبط السياج (السور، الجدار) بداية الأمر ارتباطًا وثيقًا بالحديقة والجنة التي كانت البشرية تسعى إلى محاكاتها في الأرض. ويقترب أصل كلمة سياج أو مأوى في العديد من اللغات الأوروبية من كلمة حديقة. كل الأعمال المرتبطة بالحديقة تهدف إلى تقريبها من جمال الجنة الغامض، ومن ينسّق حديقة فلا بدَّ له أن يرسم حدودها ويطوقها بالسياج، فبهذه الطريقة فقط يمكن حماية الجمال وإدارته. كما أن الحديقة المسورة تمنح شعورًا بالهدوء والرفاه: رشقات النافورة اللطيفة وروائح  الأعشاب الشرقية والزهور وغناء الطيور ونعمة الاسترخاء.

وباللجوء إلى العديد من الأمثلة التاريخية، يوضح المؤلف أن وظائف السياج والجدران اللاحقة كانت متناقضة ومتغيرة دائما. إنها للحماية من الأعداء الخارجيين، وهي لحجز البعض في السجن، ولخلق ظروف مناسبة لتطوير الحرف اليدوية والفنون والمحافظة عليها في ربقة الحياة المعتادة المستديمة. ولطالما ظلّ التهديد الخارجي حقيقيًا، فإن استخدام الوظيفة الدفاعية والوقائية لجدران القلاع تظل أساسية، ولكن، مع انجلاء الخطر، تظهر الوظيفة الجمالية في المقدمة، مع أن هذه الوظيفة لا تمنع من تحويل القلعة إلى سجن قاس لو تطلب الأمر. يستنتج المؤلف أن التاريخ يقدم لنا خيارين لوظيفة السياج، الأولى كونه جدار حماية، أي لخلق ظروف حقيقية للازدهار الثقافي وتطوير الحرف والفنون والبحوث العلمية وتكوين أشكال جديدة متطورة من المجتمع الاجتماعي والثانية لإنهاء العنف في بعض الحقب التاريخية. وفي مراحل مختلفة من التاريخ تتفوق إحدى هاتين الوظفيتين على الأخرى. تنشأ الحاجة إلى السياج كحامٍ عندما يكون الجيران فقراء وأضعف اقتصاديا وكذلك إذا كانوا محاربين يهددون جيرانهم بغاراتهم وعمليات سطوهم. لقد شكّل الأجنبي والغريب خطرا وتهديدا مباشرا  لمجتمع القلعة أو المدينة. يذكر الكاتب ما تم التواطؤ على تفسيره لبناء سور الصين العظيم باعتباره حماية من هجمات البدو الشماليين، كما أقامت الهند جدران مع باكستان وارتفعت في الولايات المتحدة على الحدود مع المكسيك ومؤخراً بنت المجر جدارا بطول 155 كم وارتفاع ثلاثة أمتار على طول الحدود الصربية.

وبهذه الطريقة، تأمل المجر ودول البلقان في حل مشكلة اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين. حاليًا يتم تسييج ليتوانيا بسرعة وعزلها عن بيلاروسيا. يقول الكاتب: "في القرن الماضي كان الملعب ذو الجدران العالية، المبنيُّ حصريًا لأغراض سلمية أي منع الدخول بدون تذاكر إلى مباراة لكرة القدم أو أي حدث رياضي آخر، يتم تحويله بسهولة إلى معسكر اعتقال في الهواء الطلق، مثال على ذلك الملعب الوطني في تشيلي، والذي أصبح سجنًا لمدة شهرين من 12 سبتمبر إلى 9 نوفمبر 1973 وخلال هذه المدّة مرّ به ما بين 20 إلى 40.000 شخص" (ص:40).

 

وتناول أحد فصول الكتاب السياج بمفهومه الأكثر تطورا وتعقيدا وذلك باعتباره غشاءً حيويا يسمح بمرور العناصر الضرورية ومنع ما هو غير مرغوب فيه. يقول الباحث: "إن أساس رفاهية المدينة والمجتمع هو تكثيف العلاقات الثقافية والاقتصادية، ما يعني زيادة عدد التجار الوافدين المحملين بالمواد والسلع. كان يجب إيصال المنتجات المطلوبة وتصدير المنتجات المتوفرة التي يتم إنتاجها في المدينة أي داخل السور. وهنا يشير السياج إلى الملكية والعزم على التشبث بها بالأيدي والنواجذ" (ص:52-53). 

تُوصد البوابات في وجه البعض بقدر ما تشرع أمام البعض الآخر، مفسحة لهم الطريق بالرحب والسعة. في هذا السياق يبدو أن وظيفة أسوار المدينة لا تقتصر على صدّ الغارات فقط، بل هي إغواء للناس وجذب للمواد والسلع والمنتجات لتمر عبر بواباتها. فسور حول مدينة أو قصر أو حصن لا يمكن تصوره بدون بوابة. إن السور بهذا المعنى لا يعزل المدينة ويحميها فحسب، بل يفتحها أيضًا ويدعو الناس إلى إقامة الاتصالات كما ويجمع الناس حول شأنٍ مشترك أي التبادل بكل أنواعه. هذه هي بالتحديد وظيفة السياج التي استدل بها التاجر الروسي ورحالة القرون الوسطى أفاناسي نيكيتين الذي قام برحلة إجبارية غير طوعية إلى بلاد الهند وذلك عبورا بقلهات العمانية، وجاء ذكر الرحلة في مذكراته الموسومة "رحلة ما وراء البحار الثلاثة"، يقول الرحالة: "سبع بوابات تؤدي إلى قصر السلطان يجلس عند  كل بوابة مئة حارس ومئة كاتب، يسجل البعض من يدخل إلى القصر والآخرون من يغادرونه" (ص:59).

يُورد المؤلف نوعا مهما آخر من البوابات، وهي أقواس النصر التي يتم بناؤها في مكان مختلف لا يتضمن حدود المدينة ولها وظيفة رمزية أكثر تجريدا من البوابات الأخرى. تنطوي هذه البوابات على إشارة ضمنية إلى بوابات المدينة المهزومة. هنا يكمن المعنى الحقيقي لقوس النصر الذي يدل على السيطرة، وهو ما يجعل من أقواس النصر سمة ووسام شرفٍ للعديد من الثقافات. كما أن مرور الأفواج المنتصرة عبر القوس يضاعف من أهمية انتصارها ويثبت حقيقة إرادتها.

لم يستطع المؤلف إلا أن يتطرق إلى مسألة العولمة في سياق كتابه. فبقدر ما تنتشر أفكار العولمة التي تهدم الحدود وتدمر جدران الغربة وتؤكد على معايير الحياة بلا أسوار، فإن الاقتناع يزداد أيضا بأن رفض الأسوار يتطلب بالضرورة سياجًا مشتركًا موثوقًا به لرسم حدود المجتمع والدولة. في الداخل، تتطلب مثل هذه الدولة سياجًا من نوع جديد لُحمته المحرمات والقوانين والأعراف والقواعد الصارمة، التي هي سياج لا يقل قوة عن الخرسانات ولا يمكن اختراقه. إن الرفض الكامل للأسوار ليس سوى مشروع طوباوي، وتدمير الأسوار المادية يتطلب بالضرورة بناء أسوار أخرى غير مادية. وفي الوقت نفسه، فإن: "رغبة الغرب في جعل حياة مواطنيه شفافة وآمنة ومريحة ومزدهرة قدر الإمكان داخل حدودهم تتحول إلى حاجة لبناء جدار جديد يرسم حدود المليار الذهبي ويفصله عن مليارات البشر الآخرين،  يفصل الشمال عن الجنوب، وذلك يتعارض مباشرة مع المثل العليا للديمقراطية التي تحضّ على قبول اللاجئين من البلدان الأكثر فقرا وحرمانا" (ص:55).

 

ويطرح المؤلف صورة تعكس تأثير العولمة والتحولات الحديثة على التجمعات المعزولة كالقبائل المنغولية التي اتخذت في الماضي من السهوب سياجا لها. اليوم نرى سهوبا صفراء لا يحدّها بصر، فجأة تصادفنا خيمة منغولية وحيدة ولكنها مُسيَّجة. إن العائلات المنغولية التي تعيش في أماكن يصعب الوصول إليها تصبح نقطة جذب للمسافرين والسواح، وبه يتقلص العالم ويصبح صغيرًا، تماما مثلما بشرت به العولمة، ولكن، بالمقابل، فإن الخيمة التي كانت محمية فيما مضى بالسهوب الشاسعة، أصبحت بحاجة إلى سياج مشيّد يقيها اقتحام المركبات السياحية ويضمن لها السلامة من عبث الطرقات.

وتجسيد آخر للجدار، يطرحه الباحث، والذي يتمثل في جدار شاشة الكمبيوتر أو الهاتف المحمول. يتيح لنا هذا الجدار الذي يحمل الواقع الرقمي، التنقل فيه والتواصل معه ومشاهدة الأفلام ومقاطع الفيديو والتسلية بالألعاب، ولكن الحقيقة الأخرى أن هذا الجدار يسيّج المستخدم في بيته ومكان عمله وفي مركبات النقل وغيرها من الأمكنة الحياتية وسياقاتها. يقول المؤلف: "نظرًا لانتشار الرقمنة في كل مكان وارتباطها بجميع مجالات الحياة فقد أدى ذلك إلى اختزالنا في دائرة الكسل حيث نجد أنفسنا ضمن حضارة رقمية توّلد صورها التفاعلية، وحيث تكون النتيجة التي نتحسسها من الشاشة مبالغا فيها، ولا تغطي سوى جزء صغير من دواخلنا، بينما يظل العالم المحيط بنا في الظل. يتمّ جذب المستخدمين والتمسك بهم بفعل سحر الصورة ، أي بنفس القوة التي يَحتجزُ بها جدارُ السجن السجناء ويصدُّ بها سورُ القلعة غارات العِدى. تحلُّ تقنيات الشاشة الرقمية محل الواقع، ويبدأ الإنسان في التواجد في هذا الواقع الإعلامي ويتحول إلى كائن تواصلي أي إلى "شخص يتم توجيهُ المعلومات إليه فيقوم هو باستخدامها وتخزينها ونشرها، ونتيجة لذلك يفقد أي ميزات ذاتية"(ص:109).

وقد كُرس أكبر فصول الكتاب للإيكولوجيا المرئية، والتي تعدُّ أحدث اتجاه في العلوم الإنسانية والطبيعية. يتمتع هذا الاتجاه بصرامته في دراسة العلوم الطبيعية بأساليب كمية متطورة لقياس التلوث البيئي، ولكنه مع ذلك يفتقر إلى مفهوم البيئة الثقافية، الذي يلفت الانتباه إلى دور البيئة الفنية والثقافية في حياة الإنسان. لن نجد في هذا الفصل معايير كمية لتقييم حالة البيئة الثقافة، لذلك يلجأ الباحث إلى الحدس والذوق الفني أكثر من المعايير العلمية، كما يعتمد على استعارات من معايير قابلة للقياس لتقييم البيئة الثقافية، وذلك مع اقتباسات من ذاكرة البيئة الثقافية وثقافة العلاقات الإنسانية. يقول المؤلف محذرا: "أحسسنا في القرن العشرين بتأثير سلبي للحرمان البصري، أو بعبارة أخرى، للرتابة البصرية وفقر المرئيات. وكما يؤكد علماء البيئة ونقاد الهندسة المعمارية والباحثون في البيئة الحضرية، فإن نقص الإشارات المرئية ناجم عن الأسطح الرتيبة المستقيمة؛ حيث يؤدي المشي الطويل بمحاذاة جدران صمّاء تفتقر إلى القيمة الفنية إلى حالة من الضياع وشعور بالاضطهاد لدى الإنسان. مثال على ذلك ما يشعر به المستكشفون القطبيون الذين ينتابهم جوع غير عادي مصدره ذلك الفضاء الثلجي الأجرد وفقدانهم للصور المرئية المتجسدة. وليس مصادفة أن يتمّ إشباع المستكشفين عند عودتهم، ليس بالطعام وحده، وإنما  بصريا كذلك حيث يعرض لهم من ثلاثة إلى أربعة أفلام" (ص:117).

 

تفاصيل الكتاب:

الكتاب: السياج كـ"توازن" للقوى

المؤلف: فاليري سافتشوك

الناشر: أكاديمية البحث الثقافي، سانت بطرسبورغ، 2022، بالروسية.

عدد الصفحات: 259 صفحة.

* أكاديمية ومستعربة روسية

أخبار ذات صلة