فرانكو كارديني
عزالدين عناية
لا تزال مدينة القدس من أكثر مدن العالم حضورا في قلوب المُؤمنين، لكنَّ العرب ومن ورائهم المسلمين يبقون الأكثر تعلقا بهذه المدينة، لواقعية الجغرافيا التي تشدهم إلى أرض فلسطين وإلى ميتافيزيقية الموروث الديني التي تذكّرهم بقدسية الأرض المباركة، بيت المقدس، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وكلا العنصرين: الجغرافيا والميتافيزيقا كفيلان بتنبيه الغافلين وإرشاد السالكين، حاضرا ومستقبلا إلى مركزية القدس في المخيال الإسلامي. لكن المدينة التي اجتاحها الغزاة في أكثر من مرة، ودمرها الظلم في أكثر من مُناسبة، هي في الأصل مدينة للإيمان، مشرعة الأبواب، كما أرادها الأنبياء والرسل، لأنها مدينة الله لا غير التي تأبى الاحتكار والاستحواذ.
نتابع في هذا المؤلف "القدس.. تاريخ مدينة"، وهو كتاب تاريخي اجتماعي، أو بالأحرى هو كتاب يمزج بين السيرة الذاتية وأدب الرحلة بخصوص علاقة كاتب بالمدينة المقدسة، وهو للباحث والأستاذ الجامعي الإيطالي فرانكو كارديني. (ففي تصريح للكاتب بشأن مؤلفه يقول: إن العنوان الأصلي للكتاب، الذي ألغاه الناشر، كان "القدس قصّة حبّ"). لذلك الكتاب ليس تأريخا بالمعنى التوثيقي والتسجيلي للأحداث التي ألمّت بهذه المدينة المُقدسة، وإنما هو قصة ولع مؤرخ بمدينة. يشرح لنا كارديني في عمله رؤيته وعلاقته بهذه المدينة الآسرة التي شدته على مدى عقود طويلة. لكن تجوال كارديني في ربوع هذه المدينة ليس بمفرده، نصادف في الكتاب زهاء 500 شخصية تاريخية ترافقه في نصّه، يُحاول من خلالها أن يمسك بتاريخ المدينة وأطوارها وتحولاتها. وهي شخصيات مُؤثّرة، طبعت تاريخ المدينة عبر العصور، صنعته ووجهته. لذلك إن يكن المؤلَّف كتاب أوتوبيوغرافيا لصيقا بالمدينة المقدسة، فهو كتاب في السيرة الذاتية لآخرين أيضا وعلاقتهم بالمدينة. والكتاب، في واقع الأمر، يكتسب قيمته من كونه يعيد صاحبه قراءة تاريخ القدس، كيف تجلى في الضمير المسيحي الغربي مع الرحالة والحجيج والمبشرين والغزاة أيضًا.
يبدأ المؤرخ كارديني في حديثه عن المدينة المقدسة بالانطلاق من تاريخها القديم وإلى غاية حاضرها الراهن. ويمتزج الحديث عن الأطوار التاريخية التي مرت بها وبمآلاتها التي تشهدها في الراهن، ثم يختتم كتابه بقلق على مستقبلها الشائك والصعب في ظل الاحتكار ومحاولات التملك. وعلى هذا الأساس فكتاب فرانكو كارديني هو قصة مدينة تاريخية تعيش في الراهن، يتمازج فيها التاريخ بالأسطورة، وتتعايش فيها الرسالات الدينية لمختلف الأتباع. ولكنها في التاريخ الحالي لا تزال تتزاحم فيها أديان عدة وتُهيمن عليها قوة سياسية واحدة تتحكم بمصيرها. هكذا يرصد كارديني التدافع السياسي الاجتماعي المحتدم في هذه المدينة والتنازع عليها بين ورثة إبراهيم عليه السلام في ظل مخططات سياسية لا تهدأ. وعبر نصه المكتظ بالوقائع والأحداث والنزاعات والحروب، يتتبع الرجل مسارات الأمل واليأس التي تطفو وتخبو، ويرصد وطأة التاريخ التي تثقل كاهل هذه المدينة. يسحبنا المؤرخ أحيانا نحو الماضي ويعيدنا إلى الراهن. فلم يكتب كارديني الكتاب بالصرامة العلمية المعهودة لديه في نصوصه التاريخية الكثيرة حول الحروب الصليبية، وحول تاريخ المسيحيين في القرون الوسطى، وكذلك حول تواصلهم مع المسلمين؛ بل جاء الكتاب ليبوح فيه صاحبه عن علاقة كاثوليكي مؤمن بقداسة المدينة ودورها الرسالي للبشرية جمعاء حسب منظوره. فهو يُبرز حينا كيف تتراءى له، وآخر كيف يرى الساعين إليها، فأيّ فهم وأي علاقة وأي تواصل بين كل هؤلاء وبينها؟ وبالتالي القدس، مدينة القداسة، أو المكان المُفعم بالروحانيات كيف يراها كاريدني في تاريخها القديم وفي حاضرها الراهن ذلك فحوى الكتاب.
يرصد كارديني ما شهدته المدينة عبر تاريخها الطويل من فترات سلام ونزاع، وبحسب تقديره فقط مع القرون الأربعة، إبان الحقبة العثمانية، يمكن الحديث فيها عن سلام نسبي خيَّم على المدينة، لكن القدس حينها كانت في أفول وتراجع وفق نظرته وقد فقدت شيئًا من مركزيتها. فكأنّ قدر المدينة مجبول على الصراع، وهي كلّما اشتد عليها التنازع، فيها وحولها، تعود إلى ألقها وسحرها. ذلك ما حدث مع النبيين داود وسليمان، وكذلك إبان الحقب اللاحقة. فقد تهدّمت القدس على رؤوس ساكنيها في العديد من المناسبات، لكنها واصلت إغواءها لعشاقها وحجيجها وفاتحيها. يأتي الكتاب بمثابة رسالة مفتوحة موجهة إلى أتباع الأديان الثلاثة أن هذا المكان هو عنوان التآخي والتحاور والتعايش، وأن إنقاذها في الوعي بتاريخها وبرسالتها.
صيغ الكتاب على مراحل، وهو عبارة عن وقائع رحلات متكررة إلى المدينة، جاءت موزعة على فترات عدة قام بها الكاتب في مناسبات مختلفة. وعلى ما يصرّح به كارديني هناك هوى متبادل بين الكاتب وهذه المدينة، هناك رغبة عارمة لازمته في التوغل في أسرار المدينة، أجبرته على الإقامة فيها في العديد من المناسبات والرحيل عنها مكرهًا. حيث يتجول كارديني في أرجائها، وحيدا أو برفقة غيره، وهو يستحضر المحطات التاريخية المغرقة في القدم التي شهدتها، والراهن المتوتر الذي يلفها، والمستقبل الغامض الذي يخيم عليها. ولا شك أنّ كتابات عدة تطرّقت إلى مدينة القدس، تناولتها من أوجه عدة، دينية وتاريخية وروحية وسياسية، ولا نظن أن المؤرخ كارديني فاته ذلك، ولعل ذلك ما دفعه إلى صياغة كتاب موجز وشامل لأنماط كتابية عدة، تجمع بين النفس الصوفي والصرامة التاريخية والمسحة الأدبية أيضًا. فالكاتب يُبرز بالخصوص كيف أن هذه المدينة لا تزال تغوي المؤمنين من أديان شتى، ومن حضارات مختلفة، ولعل ذلك رصيد قوتها وجاذبيتها كما يخلص.
وفي استعراض كارديني للمحطات التاريخية الكبرى التي شهدتها المدينة، من تاريخها القديم إلى عهدها الراهن، يقلقه أن تتحول إلى عاصمة أبدية وتاريخية إلى دين بعينه وشعب دون غيره، وكأن ذلك نكران فاضح لمسارها الألفي المنفتح. يقلقه كيف أنّ العنصر المسيحي العربي الأصيل يتراجع منها بشكل متسارع، وكيف غدت مقفرة من أتباع المسيح إلا من جاءها حاجا أو سائحا. ومع أن المدينة باتت محطة سياحية جذابة ونشطة، فإنّ ذلك لم يلغ سحرها الديني والروحي. فالكتاب فيه اكتشاف للقدس في بعديها الماضي والحاضر، وهو محاولة لمراجعة ما شهدته من تحولات وتغيرات. فلا تستطيع هذه المدينة أن تكون، وفق كارديني، سوى مدينة للسلام والإخاء، مدينة حج روحي للمؤمنين جميعا دون أي تفرقة بينهم. لكن هذه المدينة هشة وعرضة للتقلبات، فهي تختزن الأسرار الروحية للأديان الثلاثة، مع ذلك ظلّ هذا المكان المفعم بالقداسة، في غالب الأوقات، عرضة للصراعات السياسية، وإن بقيت محجّا للمؤمنين.
وكما يلوح بيّناً للمؤرخ: ليس عرضا التصارع على القدس، وليس جديدا أن تتزاحم التقاليد الدينية فيها، وأن يأتيها الناس من كل صوب بحثا عن السكينة الروحية. فهي كما يرى مدينة معاناة لعديد الأنبياء (على ما يرد في الإنجيل والتوراة)، وهي حافز من حوافز الحروب الصليبية، ومحطة متقدمة للإمبريالية العالمية، مع ذلك تأبى المدينة أن تتخلى عن رسالتها الدينية كمدينة أبدية للسلام والإيمان.
نشير إلى أن فرانكو كارديني هو من أبرز مؤرخي التاريخ الوسيط في إيطاليا، وهو باحث يقف على أرضية بحثية اشتركت فيها الأديان الثلاثة تآلفا وتصارعا وتقاربا وتباعدا. وإلمام الرجل بما يجمع الأديان الثلاثة ويفرقها، جعله على دراية عميقة بالعديد من القضايا التاريخية والاجتماعية لليهودية والمسيحية والإسلام. لذلك تجده في مؤلفه "القدس.. تاريخ مدينة" يطرح سبل تعايش أتباع هذه الأديان داخل هذه المدينة المقدسة التي تأبى الاحتكار.
وكما أشرنا آنفا تتركز اهتمامات كارديني على فترة العصور الوسطى بالأساس، فقد سبق أن تُرجم له إلى العربية كتاب "أوروبا والإسلام.. تاريخ من سوء التفاهم" دار شرقيات، 2008. وقد صدرت له في إيطاليا الكثير من المؤلفات نذكر منها: "صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد" (1999)؛ "إخوة في ظلال النبي إبراهيم.. موجز تاريخي لليهودية والإسلام" (2000)؛ "نحن والإسلام.. هل ثمَّة لقاء محتمل؟" (2001)؛ "الحروب الصليبية حول الأراضي المقدسة" (2003)؛ "الأراضي المقدسة.. الحجيج الإيطاليون بين القرون الوسطى ومطلع العصر الحديث" (2005)؛ "التاريخ الطويل لمحاكم التفتيش" (2005)؛ "لورانس العرب" (2006)؛ "الصليب والسيف والمغامرة.. مقدمة في تاريخ الحروب الصليبية" (2009)؛ "الأتراك في فيينا.. تاريخ الحصار الكبير 1683" (2011)؛ "المسيحيون مضطهِدون ومضطهَدون" (2011)؛ "المجتمع في العصور الوسطى" (2012)؛ "فرنسيس الأسيزي" (2013).
في كتابه الذي نتولى عرضه لم يعتمد المؤلف على مصادر عربية في روايته لقصة المدينة المقدسة، سوى بعض الأعمال المتناثرة المترجمة إلى الألسن الغربية. وعموما لا يحضر النص العربي في مؤلفات الإيطاليين فهناك غفلة واضحة، متأتية عن مركزية غربية لا تزال تحضر بقوة حتى لدى كبار الكتّاب والمؤرخين. ورغم هذا النقص في الاطلاع على المصادر العربية لدى المؤرخ كارديني، فهو يسعى في مؤلفه، قيد العرض، إلى التأسيس إلى رؤية متسامحة بين الأديان الثلاثة. فالرجل على وعي وإدراك لما تحوزه مدينة القدس من قداسة في قلوب أتباع اليهودية والمسيحية والإسلام، وبالتالي يحرص على توزيع هذا الميراث بالتساوي بين أتباع النبي إبراهيم عليه السلام.
ولو شئنا التدقيق في تصنيف مؤلف كارديني لقلنا: ليس الكتاب مؤلفا تاريخيا، بل هو مؤلف لمؤرخ كاثوليكي غربي يشرح من منظوره تصور المدينة المقدسة ورسالتها، كيف يراها في ماضيها البعيد وفي حاضرها القريب. وربما تتأتى أهمية هذا الكتاب من كونه صادرا عن مؤرخ وعن مؤمن بوحدة التراث الإبراهيمي، يعبّر فيه عن نظرته لهذه المدينة وكيف يعيها الضمير المسيحي. فالكتاب لا ينبني على منهج تاريخي علمي صرف أو ما شابهه، وإنما هو كتاب من منظور ذاتي يروي فيه صاحبه قصته مع مدينة تاريخية مقدسة زارها مبكرا في مطلع شبابه، ثم تكرّرت زيارته وإقامته فيها على مرّ السنين.
والمؤلف كارديني يدرك جيدا كيف يُغازل قارئه ولا يثير الضجر لديه. فهو لا يثقل عليه بالرواية التاريخية الباهتة أو الإحالة المملّة، بل تجده يوجز في حديثه عن وقائع وحوادث دون إهمال أو إسفاف. ومن هذا الجانب فالمؤلف كاتب قدير ومتمرّس، على إلمام واسع ودقيق بموضوعه، وهو ما لا يتأتى إلا لمن تخصّص وتعمّق في حقله. هناك دقة لدى الكاتب في نقل الوقائع التاريخية وتوظيفها ومقارنتها أيضا بما يحضر في الراهن وبما يتطلع إليه في المستقبل.
نشير إلى أن الكتاب قد تضمّن فهارس عدة، منها فهرس للأعلام، وفهرس للأماكن، إضافة إلى جرد بأهمّ الوقائع التي شهدتها مدينة القدس منذ تاريخها القديم وإلى عهدها الحالي. بالإضافة إلى ذلك قائمة بالمراجع الغربية. وعلاوة على ذلك تضمّن الكتاب جملة من الرسوم والخرائط، ناهيك عن صور لمواقع تاريخية وأثرية لغرض التوضيح. واللافت أن الصحافة الإيطالية قد تناولت كتاب كارديني باهتمام، ولعل ذلك عائد إلى توفيق المؤرخ في إعادة الوجه المسالم والجميل للمدينة، كما أرادها الله، بعيدا عن الصراعات التي تحجب صورتها الحقيقية. وهو بمنظور عام كتاب قيّم جدير بالترجمة وإن لم ينقل إلى العربية جزئيا أو كليا. وهو وإن يندرج بين كتب الرحلات والسيرة والتاريخ، فهو يبقى نصا يروي علاقة الكاتب بهذه المدينة بعد رحلات عدة جاءت على فترات عدة وفي مناسبات كثيرة. ولما تضمّنه من قلق على مستقبلها وخوف على مصيرها فالمؤلف غير مرتاح لوضعها الحالي. وربما الشيء المهم في هذا الكتاب وهو فحوى نظرة مؤرخ غربي معاصر إلى مدينة القدس، كيف يراها؟ وهو ما نحتاج إليه لندرك من جانبنا كيف تحضر هذه المدينة المقدسة في مخيال مثقف مسيحي غربي.
تفاصيل الكتاب:
الكتاب: القدس: تاريخ مدينة.
تأليف: فرانكو كارديني.
الناشر: دار إيل مولينو (مدينة بولونيا -إيطاليا) "باللغة الإيطالية".
سنة النشر: 2022.
عدد الصفحات: 311 ص.
