الصحة الاجتماعية

الصحة الاجتماعية.jpg

نيكولا دوفو وناديج فيزينا

سعيد بوكرامي

أظهرت الأزمة الصحية العالمية وجود صلة بين الصحة والتفاوتات الاجتماعية وديناميات التمييز، بحيث قدمت لنا هذه الأخيرة دروسا صادمة، دعت الجميع، دولا غنية أو نامية أو فقيرة إلى إعادة اكتشاف الوضع الصحي الهش الذي راهن على التقسيم القوي للأبعاد الاجتماعية والصحية في الرعاية والحماية اللتين توفرهما المؤسسات.

إذا كان الأمر يتعلق بتوفير رعاية أفضل وتنفيذ نظام أكثر مساواة وفعالية، فإن الانفتاح على الرأسمال الليبرالي ليس مرغوبًا فيه بالتأكيد. وإذا كانت مسألة إنفاق أفضل (بدلاً من إنفاق أقل)، فلابد من الاعتراف بأنه سيكون من الضروري أيضًا إنفاق المزيد في البلدان النامية، حيث يتزايد عدد السكان كما أن متوسط ​​العمر المتوقع آخذ في الازدياد. هناك أيضًا مجموعة من الاحتياجات الصحية غير المنجزة حتى الآن، والتي تتطلب - لكنها خيار مجتمعي - تكريس حصة أكبر من الثروة المحلية للنظام الصحي، وتخصيص المزيد من الموارد للصحة في المستقبل لتفادي الأزمات الصحية والبيئية القادمة.

 

لنقاش هذه القضايا يقدم الكتاب الجديد الصادر عن سلسلة بيف المتمحور حول الرعاية الصحية الاجتماعية دروسا رئيسية  لإعادة اكتشاف الأزمة الصحية ومنظومتها الهشة. لهذا يقترح مؤلفوه فهم كيفية الانتقال من الطب إلى الصحة الاجتماعية موضحين أن هذه الأخيرة تعتمد مقاربة علاجية ووقائية جماعية وفردية؛ تشرك الرعاية بالحقوق الاجتماعية، بحيث توضع الصحة في قلب التضامن الاجتماعي والإنساني. وقد ساهم في هذا العمل الجماعي كل من ماوريسيو أراندا، وجان شارل باسون، ونيكولا دا سيلفا، ونيكولا دوفو، وماريز غادرو، وإيغور مارتيناش، وناديج فيزينا.

وقد ركزت كل المداخلات على دور الرعاية والمراكز الصحية ونقاط الوصول إلى الرعاية الصحية والمقاربة المجتمعية في خلق حماية وعدالة واستقرار اجتماعي. ويتمثل  الهدف المشترك في تنفيذ مبادئ الصحة الاجتماعية. على عكس الصحة العامة، التي تقوم على منطق علاجي بحت، بينما تدافع الصحة الاجتماعية عن مفهوم الرعاية المهتمة بالتشابك بين الهشاشة الاجتماعية والصحية. ويضم هذا الكتاب الموجز الذي نسقه نيكولا دوفو وناديج فيزينا خمس مساهمات تحلل هذه المبادرات وتشير إلى التحسن الحالي في الوصول إلى الرعاية الصحية. في العتبة التمهيدية، يرسم نيكولا دوفو وناديج فيزينا صورة اجتماعية وتاريخية لظهور الصحة الاجتماعية كفئة للعمل العمومي. إذا كان اكتشاف "السؤال الاجتماعي" في القرن التاسع عشر قد فرض معالجة مشتركة للقضايا الصحية والاجتماعية، فإنَّ هاتين المسألتين أصبحتا مستقلتين جزئيًا خلال القرن العشرين. وتتوسم مبادرات الصحة الاجتماعية الحديثة إعادة دمج المجتمع في الرعاية من خلال إعادة التأكيد على الترابط المتبادل بين أفراد المجتمع، فضلاً عن الأصل الاجتماعي للمرض. وتهدف هذه الأنظمة في المقام الأول إلى ربط الدعم الاجتماعي بالعلاج، بحيث ترتكز المتابعة الطبية على مراعاة الظروف المعيشية والمادية للمرضى.

من جهة أخرى، فإن الصحة الاجتماعية تحرص على ألا يقتصر الاهتمام بوصفة الأدوية فقط، ولكن أيضًا على تقديمها دورا رئيسيا لتعزيز هذه الصحة. وهاتان الضرورتان - الانفتاح على الحقوق الاجتماعية والوقاية الصحية - يرتكزان على مقاربة "الوصول" إلى السكان المستهدفين، مع مراعاة بعدهم الجغرافي المعتاد عن النظام الصحي. وهنا، تتجسد فاعلية مبادرات الصحة الاجتماعية، لأنها جزء من "توزيع الرعاية الصحية" بالإضافة إلى تكريس"حكامة نوعية ومخصصة للجمهور المستهدف" (ص 23)، ولهذا يدعونا مؤلفو الكتاب إلى مراقبة التأثيرات المتناقضة على المجتمع نتيجة عدم المساواة في الصحة. وبدون أن نحصر المبادرات في حدودها المثالية، فإن هذه الأجهزة تستحق الاهتمام الكامل، لأنها تحمل في حالة انعدامها "تخمّرًا لزعزعة استقرار التوافقات والتعاقدات المؤسسية والاجتماعية" (ص 24).

 

يتتبع الفصل الأول تطور العلاقة بين الطب الليبرالي والتضامن الوطني. يقوم نيكولاس دا سيلفا وماريز جادرو بتحليل الطريقة التي ارتبط بها أطباء المدينة بأهداف الصحة العامة طوال القرن العشرين. في الفترة الأولى، بين نهاية القرن التاسع عشر وفترة الثمانينيات، أتاحت التنشئة الاجتماعية لتمويل الاستشارات إلى زيادة الطلب على الصحة وبالتالي توسيع نطاق الوصول إلى الرعاية؛ إذ كافح الأطباء لفترة طويلة "ضد تدخل طرف ثالث في الرعاية الاجتماعية" (ص 30)، وبذلك فإن مبدأ التضامن الوطني قد انتصر مع المراسيم الصادرة والقوانين التشريعية بشأن إنشاء الضمان الاجتماعي، ثم امتد ليشمل جميع أفراد المجتمع والأقاليم. في قانون 12 مايو 1960، والذي ينص على سداد 80٪ من تكاليف رعاية المدينة وتحديد معدل التعويض الاجتماعي المتفق عليه. لكن في مطلع التسعينيات، أفسح المجال لتنظيم الأسعار والممارسات الطبية، وبذلك انسحبت الدولة من تمويل الرعاية الصحية لصالح سوق التأمين الخاص، وقامت بتطبيع النشاط الطبي من خلال فرض أهداف للممارسة الطبية المحددة. وهكذا هيمنت حجة جودة الرعاية على فكرة توسيع نطاق الوصول إلى الرعاية الصحية، التي لم يعد طب المدينة قادرًا على توفيرها.

 

أما الفصل الثاني، فيشدد على مهام المراكز الصحية البلدية لتحسين إمكانية الوصول إلى الرعاية - على عكس نكسات الطب الليبرالي. وهنا عاد إيغور مارتيناش وناديج فيزينا أولاً إلى الموارد والتنظيم والميزانية المتاحة للبلديات لتنفيذ الإجراءات الصحية. من بين الأدوات التي تستخدمها البلديات لتنفيذ "مفهوم معين للصحة العامة" (ص 51)، تعمل المراكز الصحية بمثابة "الرائد في سياسة الصحة المحلية" (ص 54). ويتيح الشكل التنظيمي الهجين الذي اتخذته هذه المراكز إلى توفير رعاية شاملة للأشخاص. مع راتب متباين للمهنيين، من خلال عملها الجدي على تقديم نفسها كمنظمات ذات طابع إنساني، ومن خلالها تتحقق المساواة في الحصول على الصحة الاجتماعية.

 

يعرض الفصل الثالث خصوصيات المراكز الصحية متعددة التخصصات، والتي تتموقع بين طب المدينة التقليدي والمراكز الصحية، التي تتميز "بأبعادها المهنية المتعددة والتزامها بمشروع صحي" (ص 59). توضح ناديج فازينا، مؤلفة الفصل، أن هذه المنظمات، على الرغم من كونها متحررة وموزعة بشكل غير متكافئ في الإقاليم، إلا أنها تمكنت من جعل الرعاية متاحة ومستمرة وشاملة. وهي بذلك توجه العمل في دور رعاية المسنين من خلال نشاطين: النشاط الطبي الجماعي بدلاً من النشاط الطبي الفردي، وتنسيق الرعاية بين مختلف المهنيين الصحيين. وبالتالي فإن دور رعاية المسنين تعوض "النقص الصارخ في الحصول إلى الرعاية الصحية" (ص 70).

 

بينما يركز الفصل الرابع، الذي كتبه ماوريسيو أراندا ونيكولاس دوفو، على أماكن الإقامة للحصول على الرعاية الصحية  التي بينا أنها إحدى نتائج "توسيع المساعدة في النظام الصحي" (ص 73). وتعد جوازات المرور جزءًا من الأنظمة التي طورت منذ الثمانينيات من أجل السكان الذين لا يتمتعون بحقوق اجتماعية ولا موارد. إن غياب جواز المرور ناتج عن عدم وجود غطاء الضمان الاجتماعي لمعظم المستخدمين. وبالتالي، فإن الدعم الاجتماعي المقدم ضمن التصاريح يشكل "بوابة لدراسة تحولات الحماية الاجتماعية" (ص 86) كما يبين تراجع حقوق المؤمن وضرورة تطوير شبكات المساعدة للمستبعدين. وهنا استحضر الفصل مفارقة الحكامة المتمثلة في أن: "الدولة تهاجم الإقصاء، بينما تزيل الأسوار التي تمنع اتساع التفاوتات" (ص 86).

 

أما الفصل الخامس والأخير الذي كتبه جان شارل باسون فقد اهتمّ بـ "بدور مراكز القرب" التي تكون على شكل مراكز صغيرة تتوفر على شروط الرعاية الصحية الأولية وتعتمد في تنظيمها على الإدارة الذاتية، ولها ميزة اجتماعية ونفسية، بحيث توفر الاستماع والخدمات المجانية "(ص 90) لسكان الأقاليم. وهي غالبا ما تقع في منطقة شعبية في وسط المدينة، وتجعل من مكانها أساس كفاحها ضد التفاوتات الاجتماعية في الصحة. ويسهر على صحة القرب مجموعة من "الوسطاء الصحيين المجتمعيين" (ص 97)، وهم متطوعون ومرضى سابقون عانوا هم أنفسهم من أوضاع مشابهة، والذين يلعبون دورًا وسيطًا بين الفئات الضعيفة من السكان والمسؤولين الحكوميين.

عموما تعمل هذه المبادرات المختلفة (المراكز الصحية، والمراكز الصحية متعددة المهن، والتصاريح والجوازات، والتأمين الصحي، ومراكز القرب) على مراعاة جميع المحددات الاجتماعية للصحة من خلال الاستفادة من مقاربة تداخل مهني قوي. وقد بدأ هذا الاهتمام منذ النصف الأول من القرن العشرين مع تحسن الرعاية الصحية  توسعت مسالك الوصول إلى الرعاية القائمة على التضامن الوطني، لكن الطب الليبرالي وضع نفسه ضد هذه التنشئة الاجتماعية التضامنية. وبذلك تحول منطق الصحة العامة "من تنظيم الأسعار إلى تنظيم الممارسات" بهدف التحكم في الإنفاق. تشير الاتفاقيات الطبية إلى تراجع معدل التعرفة في الطب المدني، مما أدى إلى ظهور تباين في الرعاية الصحية. رغم أن السياسات العامة تحدد المعايير والحوافز والضوابط بهدف تحسين الرعاية مع توحيد المهنة. ورغم القوانين المحددة للمكافآت القائمة على أهداف الصحة العامة، فإن نمطًا جديدًا للأجور أصبح أحد ركائز مكافأة الأطباء المستقلين مما جعل الوصول إلى الرعاية الصحية معقدا أحيانا ومتعذرا في بعض الأحيان على الفئات الاجتماعية الهشة.

وهنا يوجه المؤلفون نقدا واضحا للنظام الصحي المستسلم لإغراءات الطب الليبرالي، وبذلك أقحم التغيير في المنطق تحولًا في تمويل الرعاية. لهذا كان لزاما على الدولة توسيع التأمين التكميلي، ونتيجة لذلك توجه تمويل النظام الصحي نحو القطاع الخاص من خلال تشغيله من قبل المؤسسات الليبرالية الجديدة وشركات التأمين، لمواكبة منطق السوق العالمي.

 

في هذا الجانب، يتساءل إيغور مارتيناش وناديج فيزينا عن مكانة البلديات من حيث توجهات وعروض الصحة العامة. فإذا كانت قوانين الرعاية الصحية تفرض على السلطات المحلية تقديم المساعدة الصحية، إلا أنها غالبا ما تكون ضئيلة، وبذلك تبقى الصحة محصورة بين الدولة والطب الليبرالي. على الرغم من كل شيء، فإن لديها وسائل متنوعة للعمل في مجال الصحة، منها: التنظيم، للتأثير على صحة السكان المحليين، والميزانية، للاستثمار في المرافق لزيادة توفير الرعاية. ومع ذلك، لا تزال المجتمعات تعتمد على الإطار الذي وضعته الدولة في مجال الرعاية الصحية. لذلك يجدون أنفسهم في منافسة، لا سيما لجذب مقدمي الرعاية إلى أقاليمهم. وبالتالي، فإن الصحة على مستوى البلديات لها بعد سياسي قوي، لأنها تعبر عن الاختيارات التي وضعت البلدية لمفهوم للصحة العامة، والتي ستعطي الأولوية لمتغيرات مختلفة: الاستثمار في الصحة أو إفساح المجال أمام الليبراليين.

من بين الخيارات المتاحة للبلديات، تبدو مراكز القرب أداة مثيرة للاهتمام، لأنها مراكز محلية توفر الرعاية الأولية أو الثانية. ومادامت اجتماعية في جوهرها فهي توفر التغطية المالية والصحية لفئات معوزة كبيرة وهذا يدخل في صميم مشروعها السياسي والاجتماعي. ومع ذلك، يؤدي العمل الاجتماعي بالتوازي مع أنشطة الرعاية إلى توترات تتعلق بتوفير مقدمي الرعاية الصحية التضامنية. علاوة على ذلك، فإن تحديد نطاق الجمهور المستهدف يصبح مشكلة لا يستهان بها. ومع ذلك، تبقى مراكز القرب "رائدة في السياسة الصحية المحلية": كما أن الاستثمار فيها يسمح للبلديات بتعزيز أهداف الصحة الاجتماعية واستعادة تسيير سياسة الصحة العامة، والاستمرار في مراكز القرار، ومع ذلك، فإن القيم السياسية للمسؤولين المنتخبين تؤثر على القرارات المالية واختيار الاستثمارات في المراكز الصحية.

ويتجلى ذلك من خلال تعزيز تنسيق الرعاية الأولية والتبادلات بين المهن الاجتماعية والطبية والاجتماعية، بحيث تشارك المراكز الصحية متعددة التخصصات في التفكيك التدريجي بين ما هو طبي واجتماعي. لا يُنظر إلى الرعاية على أنها عمل طبي فحسب، بل أيضًا "كاستجابة لحالة اجتماعية ولشخصية المريض". على الرغم من أن هذه المراكز لا تزال مؤسسات ليبرالية، إلا أنها تتوفر على رصيد في مكافحة التفاوتات الاجتماعية في الصحة، وكذلك خطوة أخرى في نشر "مقاربة شمولية للرعاية الصحية".

وفي السياق ذاته يوفر نظام الجواز الصحي انسيابية في الوصول إلى الرعاية الصحية، تتماشى بشكل أكبر مع هدف مكافحة الإقصاء من خلال تكليف مقدمي الرعاية بدور الاحتضان والمواكبة والتوجيه للقضاء على عدم المساواة في الحصول على الرعاية الصحية.

 

وأخيرا يفصل الكتاب بدقة دوافع هذه الأنظمة ويحلل مفهوم الصحة الاجتماعية في ضوء تطبيقها العملي في مجال الرعاية الصحية، ويقدم نقدا لاذعا للتوجه الليبرالي نحو الاستثمار في المجال الصحي واحتكار الرعاية الصحية من طرف الشركات العالمية التي جنت أموالا هائلة خلال فترة الأزمة الصحية العالمية، و"جعل الصحة في خدمة المال والمال في خدمة الصحة" يوجه الكتاب نداء ملحا إلى ضرورة توفير الصحة الاجتماعية للحفاظ على الجانب الإنساني في المنظومة الطبية التي ستعرف تحولات جذرية في السنوات القادمة.

 

تفاصيل الكتاب:

الكتاب: الصحة الاجتماعية.

المؤلف: نيكولا دوفو، وناديج فيزينا

دار النشر: دار بيف، سلسلة  "حياة الأفكار". فرنسا

تاريخ النشر: 2022 

عدد الصفحات: 107 ص

اللغة:  الفرنسية

أخبار ذات صلة