الاضطراب: الأحداث الصعبة في القرن الحادي والعشرين

dis order.jpg

هيلين طومسون

محمد السالمي

جلب القرن الحادي والعشرون موجة قوية من الصدمات الجيوسياسية والاقتصادية؛ حيث أدت تداعياتها إلى زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، وتمزيق الاتحاد الأوروبي، وكشفت خطوط الصدع في السياسية القديمة للولايات المتحدة، مما أحدث عصرا جديدا من المنافسة الجيوسياسية. تحاول هيلين طومسون في هذا الكتاب " الاضطراب: الأحداث الصعبة في القرن الحادي والعشرين" توضيح القوى الاقتصادية والسياسية التي تشكل عالمنا وتعيد تشكيله. يتمحور سرد الكتاب حول ثلاث قوى: الجغرافيا السياسية، والاقتصاد العالمي، والديمقراطيات الغربية.

وللتعريف بالكاتبة، فهيلين طومسون هي أستاذة الاقتصاد السياسي بجامعة كامبريدج، ولها العديد من المؤلفات منها كتاب "النفط والأزمة الاقتصادية الغربية" (2017)، و"الصين والرهن العقاري في أمريكا" (2010). كما لدى هيلين العديد من المقالات في جريدتي نيويورك تايمز والفايننشال تايمز.

 

تركز المؤلفة في الفصل الأول على الحديث عن الجغرافيا السياسية للطاقة، وتحديداً النفط. وتناقش أبعاد سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وكذلك أبعاد السيطرة الروسية على إمدادات الغاز الأوروبية. أما الفصل الثاني فيتعلق بالاقتصاد والجانب المالي، حيث يدرس تطور الاقتصاد العالمي مرورا  بانهيار تسوية بريتون وودز والأزمة المالية العالمية وما تلاها من عاصفة التحديات التي تلوح في آفاق الاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي. والفصل الثالث يتعلق بالسياسة الديموقراطية والمتمثلة في الإصلاح ومستوى الضرائب. وإجمالاً، تربط المؤلفة هذه المحاور الثلاثة لتسلط الضوء على المشهد السياسي المتغير في أوروبا، والتطورات في سوق الطاقة وتأثير الأزمات المالية وأزمة منطقة اليورو على الأحزاب السياسية. 


تبدأ طومسون بسرد السياق التاريخي للاكتشافات النفطية الأولى وذلك في الولايات المتحدة والقوقاز في القرن التاسع عشر. ومع بداية القرن العشرين، كان النفط يحل محل الفحم كقوة دافعة للقوة العسكرية. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تملك الوفرة من النفط، إلا أن القوى العظمى في أوروبا الغربية لم تكن تمتلكها. فخلال الحرب العالمية الأولى، بذلت بريطانيا وفرنسا جهوداً للسيطرة على الإمبراطورية العثمانية المُتلاشية، ولكنهما طلبتا النفط والمال من الولايات المتحدة وأنهيتا الحرب بديون كبيرة. ولا ريب أن اعتماد النفط وفقر الطاقة قد خلق نقاط ضعف استراتيجية للمجتمعات الصناعية التي أصبحت فجأة تعتمد على الواردات مما وضعها  على نحو غير مؤات خلال الحرب العالمية الأولى.

في المقابل، وضعت طومسون الحرب العالمية الثانية على أنها انتصار لمنتجي النفط "الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي" وحلفائهما ضد محور النفط المتعطش والمستورد للنفط  والمتمثل في ألمانيا واليابان. أما القصة خلال الحرب الباردة فهي في ركود إنتاج النفط الأمريكي والذي بدأ في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي وسط ارتفاع الطلب المحلي والعالمي. ومع ارتفاع الإنتاج في أماكن أخرى من العالم، كانت النتيجة الإجمالية هي زيادة الاعتماد على الواردات، والتي ارتفعت إلى ما يقرب من 15٪ من إجمالي استهلاك الولايات المتحدة بحلول مُنتصف الستينيات، واستمر مساره التصاعدي ليغطي ما يقرب نصف الطلب الأمريكي على النفط الخام بحلول نهاية السبعينيات. وحتى من دون منظومة التحكم بالعرض التي صممتها منظمة البلدان المصدرة للنفط "أوبك" في عام 1973، كان لا بد أن يكون هناك تحول في التوازن بين المنتجين والمستهلكين.

ولم يتجاوز الاستهلاك العالمي للنفط الخام ذروة عام 1979 حتى منتصف التسعينيات، ويرجع الفضل في ذلك في الغالب إلى التحسينات الكبيرة في كفاءة الطاقة. وفي غضون ذلك، عزز وجود لاعبين مثل الاتحاد السوفيتي وبحر الشمال والمكسيك والصين في الساحة إلى زيادة المعروض من النفط. وفي هذا الجانب، فقد انتهز الأوروبيون بفارغ الصبر ما اعتبروه فرصة للتنويع بعيداً عن إمدادات الطاقة غير الموثوقة في الشرق الأوسط من خلال احتواء السوفييت.

 

أصبحت قصة طومسون مثيرة للاهتمام بشكل خاص بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. ظلت روسيا مورداً رئيسياً للنفط والغاز لأوروبا. كما لاحظت طومسون مراراً وتكراراً، اعتماد الألمان على النفط والغاز الروسي بشكل شبه مستمر منذ القرن التاسع عشر. وبدلاً من الانحراف، يجب فهم التحالف غير اللائق بين الصناعيين الألمان، والطبقة السياسية، وروسيا على أنه مجرد تكرار أخير لشراكة طويلة الأمد بين اقتصادين متكاملين. وفي الوقت نفسه، أصبحت العديد من جمهوريات القوقاز وآسيا الوسطى الجديدة منتجة للطاقة، مع طموحات لإرسال الوقود الأحفوري إلى أوروبا عبر بحر قزوين وتركيا.

في الوقت نفسه، أدى النمو السريع للصين إلى زيادة هائلة في الطلب العالمي على الوقود الأحفوري الذي لم يُقابله ارتفاع المعروض حتى ظهور النفط والغاز الصخري في الولايات المتحدة. وقد تحولت الصين أيضاً من كونها مُصدِّرة صافية للنفط إلى مستورد صافٍ في التسعينيات، ولتصبح المنافس الأول في الطلب العالمي على الطاقة. وكانت النتيجة سلسلة مزعزعة للاستقرار من طفرات وكساد في الأسعار، فضلاً عن تحول جذري في رغبة الأمريكيين في الاستثمار في أمن الشرق الأوسط، وشرق أفريقيا وشمالها.  وفي نفس سياق الطاقة، تهيمن الصين بالفعل على صناعة الطاقة المتجددة، وهي تستعد لقيادة موجة الطاقة في المستقبل. وهذا ملخص مختصر للغاية لتاريخ النفط والجغرافيا السياسية شديد التعقيد المقدم في الكتاب. 

 

وبالانتقال إلى التاريخ الاقتصادي، يتطرق الكتاب لاحتياج الدول الأوروبية إلى الدولارات في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والذي قادهم لاختراع "يورودولار" وهي ودائع بالدولار الأمريكي في بنوك خارج الولايات المتحدة، وبالتالي فهي ليست خاضعة لسلطة الاحتياطي الفيدرالي. وبحلول نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، كانت البنوك تتاجر وتقرض هذه الدولارات الخارجية في لندن. عزز هذا الأمر في تحرك رأس المال بحرية من الضوابط التي فرضتها الحكومات الأوروبية على رأس المال، أو الضوابط على أسعار الفائدة التي تديرها وزارة الخزانة الأمريكية. وبحلول منتصف الستينيات، ظهر سوق ائتمان كبير "لليورودولار". كانت تهيمن عليها البنوك الأمريكية بشكل متزايد حتى أنها أنشأت فروعاً في لندن للمشاركة، وسمحت للشركات الأوروبية بالاقتراض بالدولار الخارجي. وعلى وصف طومسون، فإن الطريقة التي عملت بها أسواق ائتمان "اليورودولار" بعيدة كل البعد عن الشفافية وولدت كمية متسارعة من الدولارات لتكون في النهاية خارج سيطرة أو سلطة أي بنك مركزي.

من ثم تتطرق طومسون بإسهاب من "بريتون وودز" في السبعينيات إلى الأزمة المالية العالمية خلال 2007-2008. كان التيسير الكمي والذي يهدف في المقام الأول لخفض أسعار الفائدة وتوفير السيولة المالية للاقتصادات، عاملاً أساسياً في القدرة على تجنب الكساد الكبير، ولكن استمرار استخدامه طوال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ومرة ​​أخرى أثناء الوباء، أدى إلى ظهور تهديدات مثل زيادة عدم المساواة بسبب تضخم أسعار الأصول. كما جعلت أسعار الفائدة المنخفضة في أعقاب الانهيارات ثورة النفط الصخري في أمريكا الشمالية ممكنة مالياً، مما أدى إلى زيادة المعروض من النفط، وبالتالي خفض الأسعار، والحفاظ على معدل التضخم منخفضاً على مستوى العالم لفترة طويلة. كما أنَّ الحوافز المالية الضخمة التي قدمتها الصين إلى العديد من الاقتصادات عبر مشاريع الفحم المحلية والدولية تسببت في زيادة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.

وفيما يتعلق بالسياسة الديمقراطية، حددت طومسون مصدرين لعدم الاستقرار المحتمل وهما:الإفراط الديمقراطي، والتجاوز الأرستقراطي. الأول هو عندما تفرط الحكومة في الإنفاق لتلبية مطالب الشعب قصيرة المدى. أما الثاني هو عندما يستخدمه أولئك الذين يتمتعون بسلطة أكبر داخل الديمقراطية لتحقيق غاياتهم الخاصة على حساب عامة الناس. على سبيل المثال، سمحت التدفقات الدولية لرأس المال باستغلال الأثرياء للملاذات الضريبية، وهو أمر غير مفتوح لدافعي الضرائب العاديين، مما تسبب في مظالم مشروعة من جانب عامة الناس. شكل آخر من أشكال الإفراط الأرستقراطي هو نقل التصنيع إلى خارج الدول الغربية، مما أدى إلى تحقيق أرباح أعلى للشركات ومساهميها مع تقليل فرص العمل للأعضاء الأقل ثراءً في تلك الدول. لقد هدد التمويل الدولي أيضاً إحدى وسائل الشعور بالأمّة، والمتمثلة في العلاقة بين الدائن والمدين. فخلال فترات الضوابط التي تحافظ على رأس المال داخل الحدود الوطنية، يقرض المواطنون الحكومات لتقديم الخدمات، وخلق مجتمع اقتصادي من المواطنين الذين يتشاركون تلك الخدمات، وبالتالي الشعور بالأمّة.

 

أما داخل الاتحاد الأوروبي، فقد حددت طومسون مساراً مختلفاً من عدم الاستقرار الديمقراطي الناجم عن الإفراط الأرستقراطي، والذي كان في جزء كبير منه نتيجة لظروف إنشاء وتطوير منطقة اليورو. حسب روايتها، اقترن تنامي دور البنك المركزي الأوروبي بالفشل في تحقيق المصادقة الديمقراطية على معاهدات الاتحاد الأوروبي على المستوى الوطني. فقد تم إعادة تسمية هذه المعاهدات دون تغيير جوهري على المستوى التنفيذي لها مما خلق عجزاً ديمقراطياً. على سبيل المثال، طغى التأثير الألماني على منطقة اليورو والذي بدوره دفع بالبنك المركزي الأوروبي لاحتواء التضخم عبر الإنفاق الحكومي. وبعد أن قضت المحكمة الدستورية الألمانية بأن الاتحاد الأوروبي يجب أن يتصرف وفقاً للقانون الأساسي الألماني، فإن الأعضاء الآخرين في منطقة اليورو كانوا ولا يزالون مقيدين في وضع سياستهم الاقتصادية. في المقابل، لم يكن لدى ألمانيا كل شيء بطريقتها الخاصة؛ فمن جانب دول منطقة اليورو، تجاوز الاقتراض الحد المتفق عليه في معاهدة لشبونة، مما ولد لدى دافعي الضرائب الألمان الشعور بأنهم يدفعون مقابل الإنفاق في دول الاتحاد الأوروبي الأخرى. 

وتختتم طومسون في تشخيصها لمنطقة اليورو، وعلى الرغم من أنه تصور بعيد عن المنطق، والمتمثل بدفع منطقة اليورو نحو الاتحاد المالي مع الضرائب المصاحبة. ومع ذلك، فهي تشير إلى أن ما تبقى سياسياً من القومية في الديمقراطيات الأوروبية قد يكون غير كافٍ لدعم الدولة الضريبية أو القبول بفكرة شعب يمكنه شرعية ضرائب على مستوى منطقة اليورو على المواطنين.

تقر البروفيسور طومسون منذ البداية أن تركيزها على الثلاثي الجغرافيا السياسية للطاقة والتمويل والسياسة الديمقراطية لا يفسر تماماً الأحداث العالمية؛ فالقوى الثقافية والدينية لهما أيضا دور محوري. وعلى الرغم من أنه كتاب ثري بالسرد، إلا أنه معقد نوعاً ما، ومثير للجدل فيما يتعلق بتحليل الوقائع. وإجمالا حاز الكتاب على استحسان النقاد وتم تظمينه في قائمة الفايننشال تايمز لهذا العام.

 

تفاصيل الكتاب: 

الكتاب: الاضطراب: الأحداث الصعبة في القرن الحادي والعشرين

المؤلفة: Helen Thompson

الناشر: Oxford University Press

سنة النشر: 2022

عدد الصفحات: 348 صفحة

أخبار ذات صلة