الفولغا 

الفولغا.jpg

جانيت هارتلي

محمد السماك

نادرة هي الكتب الصادرة باللغة العربية أو المُترجمة إلى اللغة العربية والتي تتناول التاريخ الداخلي لروسيا القيصرية، ولروسيا الشيوعية – السوفياتية أو لروسيا اليوم. حتى الترجمات إلى اللغة العربية عن تاريخ الداخل الروسي تكاد لا تُذكر لقلّتها.

من هنا تأتي أهمية الكتاب الذي أصدرته جامعة "يال" في الولايات المتحدة، وأهمية ترجمته، لما يلقيه من أضواء على تداخل تاريخ هذه الدولة الكبيرة مع تاريخ شعوب وجمهوريات إسلامية في آسيا الصغرى والقوقاز.

فالكتاب يدور حول نظرية مشابهة للنظرية التي أطلقها المؤرخ اليوناني هيرووتس عن مصر عندما وصفها بأنها –أي مصر- هي هبة النيل. وفي هذا الكتاب الجديد تقدم المؤلفة الأمريكية روسيا على أنها هبة الفولغا. وتروي سلسلة من الأحداث والوقائع التاريخية المرتبطة بهذا النهر والتي جعلت من روسيا ما كانت عليه وما آلت إليه اليوم؛ حتى أنها تقول إنه لولا نهر الفولغا لما كانت هناك روسيا. وهي العبارة التي تختم بها الفصل الأخير من كتابها الذي يقع في 400 صفحة .

 

لقد ربط نهر الفولغا كما تقول المؤلفة بين بحر قزوين والبحر الأسود في الجنوب، وبحر البلطيق في الشمال. فالنهر هو أكبر أنهار أوروبا على الإطلاق، أي أنه أكبر من الدانوب الذي يجري عبر عدة دول أوروبية.

وإذا كان الفولغا يوفر طريقاً بحرية من أقصى الجنوب الروسي (البحر الأسود) إلى أقصى الشمال على البلطيق، فقد أقيم رابط بين البلطيق والقطب الشمالي. وتطلبت عمليات الربط هذه أيادي عاملة لم تتوفر إلا بالقوة، وفرض عليها العمل بالسخرة. أما العاملون فكانوا من شعوب القوقاز في الدرجة الأولى.

لم يذهب ذلك سدى، فقد أدى هذا الطريق النهري الاستراتيجي بين الشمال والجنوب الروسيين إلى تكوين الاقتصاد الروسي الذاتي (ومن ثم الاقتصاد السوفياتي) . كما أدى إلى تبلور وإنتاج الثقافة الروسية في الأدب والشعر والموسيقى . بل إنه أدى إلى صياغة نوع الحكومات والسلطات التي تتمتع بها.

ثم إن هذا النهر شكّل الحاجز المانع في وجه القوات النازية عندما غزا هتلر الاتحاد السوفياتي أثناء الحرب العالمية الثانية وعجز رغم تفوّقه العسكري عن دخول مدينة ستالينغراد واضطر إلى الانكفاء تحت ضغط "جنرال الجليد" الذي أصاب جنوده بالمرض والعجز. وتجدر هنا رواية القصة التالية، وهي قصة واقعية نشرتها هيلاري كلنتون وزيرة الخارجية الأميركية السابقة نقلاً عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. تقول القصة إنه خلال الحصار الألماني التجويعي لليننغراد لم يبقَ من عائق في وجه القوات الألمانية لاقتحام المدينة سوى نهر الفولغا المتجمد – ولكنه لا يتحمل ثقل الآليات العسكرية الألمانية.

طال الحصار، واشتد القصف الألماني للمدينة التي انقطع عنها الطعام والشراب. بدأ الناس يأكلون جثث قتلاهم الذين كانوا يسقطون في الشوارع، وفي بيوتهم جراء القصف . كان والد بوتين جندياً في الجيش السوفياتي يخدم في الجبهة الأمامية، وبعد مرور أسابيع طلب إجازة لتفقّد عائلته في المدينة. ولدى وصوله رأى شاحنة عسكرية محمّلة بجثث قتلى مجموعة على عجل من الشوارع التي تعرضت للقصف الألماني. ولاحظ في رِجل جثة امرأة حذاء يشبه الحذاء الذي سبق أن قدّمه لزوجته قبل أن ينتقل إلى الجبهة، فطلب السماح له بتفقّد الجثة قبل دفنها جماعياً مع الجثث الأخرى، وذلك للتأكد من هوية صاحبتها. اكتشف الرجل أنها جثة زوجته، فحملها إلى البيت لدفنها في مقبرة العائلة. ولكنه اكتشف أن فيها بقية حياة. حملها إلى المستشفى الذي خرجت منه بعد أيام على قدميها. وفي العام التالي أنجبت ولدا أسمته فلاديمير !! وهو الحاكم اليوم في الكرملين.

 

زوّد الفولغا، هذا النهر الكبير، روسيا السوفياتية بالمحطات المائية لتوليد الطاقة الكهربائية مما مكّن جوزف ستالين من إطلاق ثورته الصناعية. وكان النهر شريان حياة الإمبراطورية الروسية حتى قبل الثورة الشيوعية. وهو الذي جعل من روسيا إمبراطورية، كما تقول المؤلفة هارتلي.

إلا أن الكتاب الذي يتحدث عن علاقة تاريخ روسيا بالنهر، يبدأ بإلقاء الأضواء على الدويلات الصغيرة التي قامت على ضفاف هذا النهر والتي ذابت –أو ذُوّبت- كلها في الإمبراطورية الروسية ثم السوفياتية. ولعل من أبرز تلك الدويلات كازاريا، التي تبنّت الديانة اليهودية لأسباب استراتيجية، كما تقول المؤلفة. وبالفعل فقد كان من المقرر أن تكون دولة لليهود مع بدايات الحركة الصهيونية. يومها طرح مشروع الدولة اليهودية في أفريقيا، وتحديداً في يوغندا، إلا أن المؤتمر الصهيوني الخامس قرر المطالبة بفلسطين بحجة أنها مرتبطة عاطفياً بالتاريخ الديني لليهود، وأنها بسبب ذلك تتمتع بقوة جذب لليهود لا تتوفر لدى يوغندا في أفريقيا أو كازاريا في آسيا (الروسية).

مع ذلك، فإن اليهود الذي تجمّعوا في كازاريا لا يزال معظمهم مستمرا فيها حتى اليوم.

ومن تلك الدويلات أيضاً بلغارخانة (وهي غير بلغاريا ولا تمت إليها بصلة) وهي مستمرة حتى اليوم أيضاً باسم "تتارستان" . و"المقاطعات الروس" (وهي لا تمتّ إلى روسيا بصلة أيضاً).

تقول المؤلفة إن الحكام في موسكو وفي ليننغراد (اليوم استعادت اسم سان بترسبورغ) سيطروا وحكموا شعوب هذه الدول بالقوة، وبيروقراطية شديدة متزمتة، وفرضوا عليها عقائدهم وعملوا على تذويبها بكل الوسائل. ولما جاء النظام السوفياتي، بدا –نسبياً على الأقل- أقل تطرّفاً وتشدّداً مقارنة مع العهد القيصري رغم كل ما عرف عنه من تطرف وتشدد.

فبعد الحرب الأهلية عمّت المجاعة في الثلاثينيات من عام 1900 نتيجة لفشل سياسة الدولة بالسيطرة على المزارع والحقول بعد فرض نظام المزارع الجماعية. ثم نشبت الحرب العالمية الثانية وأدّت إلى تلوث نهر الفولغا مما زاد من حجم المأساة الإنسانية في الدول التي كانت تعيش على مياه النهر للشرب وللزراعة.

 

لم تقف المؤلفة في روايتها الموسعة للحياة على ضفاف الفولغا أمام الكوارث والمآسي الإنسانية فقط، ولكنها نقلت صوراً إنسانية مشرقة عرفتها شعوب النهر الكبير في الأدب والفن. فالنهر الذي يجري عبر جبال مرتفعة وسهول مترامية الأطراف، كان ملهماً للعديد من الأدباء والشعراء والرسّامين، حتى أنه -أي النهر- كان يُعتبر الملهم الأول للعديد من الإنتاج الأدبي الروسي. ولذلك يمكن القول عن حق بأن روسيا هي هبة الفولغا. ومنذ القرن التاسع عشر والأدب الرومنطيقي الروسي مصدره إلهامات نهر الفولغا. إن شعراء كباراً أمثال نيقولاي نكيراسوف، وأدباء كبارا أمثال مكسيم غوركي ورسامين كباراً أمثال إلبا ريبن، استلهموا رواياتهم وأشعارهم ولوحاتهم من النهر، كما تقول المؤلفة. ولعل أغنية بحار الفولغا، هي الأوسع انتشاراً في الأدب الروسي الحديث وحتى اليوم؟

ولكن هذا كله، كما تشير المؤلفة، لا يغيّر من بشاعة الصورة الأخرى والمعاكسة، صورة العمال المستعبَدين الذين عملوا على إقامة الحواجز والسدود على طول مجرى النهر حتى يكون على ما هو عليه اليوم صلة وصل بين الجنوب والشمال الروسييْن، ومصدر إلهام للأدباء والشعراء الروس .

لقد غاصت المؤلفة في أعماق التاريخ الاجتماعي الروسي وعكست ذلك في هذا الكتاب الموسع. وهي في الأساس عالمة تاريخ متخصصة بروسيا، ودرّست التاريخ الروسي لسنوات عديدة في كلية لندن للاقتصاد، وألّفت عدة كتب، منها كتاب عن صربيا.

غير أنَّ ثمة جانباً سلبياً في هذا الكتاب، يتمثل في الأسلوب العلمي الجاف للمؤلفة، رغم أنها تناولت قضايا إنسانية حساسة؛ فهي لم تتوقف إلا قليلاً جداً مثلاً أمام الثروات اللغوية للشعوب التي عاشت على ضفاف الفولغا، منها لغات: ستوفاج – أدمورت – ماري – إيرزا – موكشا. ولم تلقِ سوى أضواء خافتة على الشعوب أصحاب هذه اللغات، والتي لم تنقرض رغم اتساع انتشار اللغة الروسية على طول مجرى النهر، إما قسراً أو بحكم الواقع.

 

لقد أولت المؤلفة مثلاً  اهتماماً بالمتحدرين من أصول ألمانية (والذين هاجروا بعد الحرب العالمية الثانية –أو هُجّروا- إلى ألمانيا) أكثر من الاهتمام ببعض شعوب المنطقة مثل مسلمي تارستان، أو شعوب الأورال الذين يتحدرون من أصول تركية وفنلدنية، والذين حاولوا الاستقلال عن روسيا في عام 1918، ولكن حركتهم الاستقلالية لم تعمّر سوى أسابيع قليلة قبل أن تُسحق تحت القوة العسكرية لروسيا .

إلا أن المؤلفة تعزو حركتهم الاستقلالية في ذلك الوقت إلى تأثر إسلامهم بالحركة الليبرالية في أوروبا، وهذا اتهام اتُخذ مبرراً لسحق حركتهم التنويرية الوطنية.

وتذكر المؤلفة أن أحد قادتهم وكان يدعى صدري مقصود إرسال، تمكّن من الفرار بعد اجتياح القوات البلشفية ولجأ إلى تركيا حيث أصبح الملهم الثقافي لكمال أتاتورك أب تركيا الحديثة .وتذكر المؤلفة أيضاً قصة الشاعر التاتاري موسى خليل الذي كان قد انضمّ إلى وحدة عسكرية ضمّت عناصر من شعوب الفولغا ثم أصبح سيداً عليها بعد أن اعتُبر بطلاً .

وفي نهاية الكتاب ـ تذكر المؤلفة أن روسيا مدينة في جزء من تاريخها الذي تفتخر به إلى أدوار ومساهمات قامت بها شعوب غير روسية، ليس في ساحات القتال فقط، ولكن في حقول العلوم والآداب الإنسانية أيضاً . إلا أن هذه الشعوب ذابت، أو ذُوّبت في المجتمع الروسي الكبير على طول مجرى نهر الفولغا !!

 

تفاصيل الكتاب:

الكتاب : الفولغا The Volga 

المؤلفة : جانيت هارتلي Janet Hartley 

الناشر : جامعة يال Yale University 

الصفحات : 400

التاريخ : 2021

اللغة: الإنجليزية

أخبار ذات صلة