المؤسسات الإسلامية والدولة، أحداث وتأثيرات

ناصر الحارثي

يسعى رضوان السيد في مقاله بعنوان (المؤسسات الدينية والمهمات الجديدة، التأثيرات الاحتسابية والاجتماعية والعالمية) إلى طرق زوايا جديدة في علاقة الدول العربية بشكلها الحديث بالمؤسسات الدينية، مشيرا إلى أهم المسارات والمنعطفات التاريخية التي حدثت منذ تأسيس الدولة الحديثة في المنطقة العربية، وتكمن أهمية هذا المقال في تشخصه وتحليلهلهذه العلاقة الشائكة بين الدولة والدين وتأثيرها المباشر وغير المباشر على المجتمع.

يرى الكاتب بأن التيارات الإسلامية كانت مشكلتها في بداية تأسيس الدولة ليست مع الأنظمة وحسب بل مع فكرة تأسيس المؤسسات الدينية، وذلك لأنه لا يوجد كهنوت في الإسلام كما هو الحال في المسيحية، ولا يوجد سلطة الكنيسة ورجل الدين، إلا أن الصوت الأبرز في ثمانينيات القرن التاسع عشر كان في الاتجاه لفقه المقاصد أو المصالح من أجل إحداث إصلاح وتجديد في فقه الدين ليتواكب مع منظومة الدولة الحديثة، هذا المسار لم يستمر حيث برز على السطح تيار الاجتهاد والذي يسعى إلى العودة المباشرة للكتاب والسنة متجاوزا الفقه التقليدي ومنتقدا كلا من الاعتقاد الأشعري وفقه المذاهب والموروث والممارسات الصوفية، هذا التوجه السلفي كتب له الظهور في منتصف القرن العشرين واستطاع أن يبرز بشكل واضح في فترة الستينيات والسبعينيات، وكان المثقفون والمفكرون برأي الكاتب هم الند لهذا التوجه السلفي. تعاملت الأنظمة الحديثة مع هذا التوجه رغم صرامته بثلاث طرق متباينة أنتجت ردود فعل مختلفة وهي:

  • الإضعاف والتهميش: الأنظمة العسكرية الأمنية عمدت إلى أسلوب الإضعاف والتهميش وذلك لأنها لم تكن راغبة في تقبل وجود ند ومنافس وفي أحسن الأحوال مزاحم لمشاريعها السياسية، وهو ما جعل حركات التطرف الديني فيها أكثر عنفا وقسوة.
  • الاستيعاب والهيمنة: وهي الدول التي سعت من أجل الاستيعاب والهيمنة مثل السعودية ومصر والمغرب وهي دول عربية كبرى عمدت إلى هذا الأسلوب من أجل احتواء هذه المؤسسات الدينية وجمهورها الكبير من أجل كسب الشرعية الاجتماعية، هذه العلاقة الهلامية أدت إلى أن حركات العنف تظهر فيها بشكل أقل حدية وذلك لقدرة الدول على احتواء هذه الحركات عندما تخرج عن الإطار المرسوم لها.
  • الحياد: وهو سعي الدول إلى تحييد المؤسسات الدينية وعدم إشراكها في شؤونها السياسية والتعامل معها بشكل محدود، وهذه الدول كانت الأقل تعرضا للعنف باسم الدين وذلك بسبب توزان العلاقة بين الدين والدولة على حسب رأي الكاتب.

يرى رضوان السيد أن رؤية ماكس فيبر حول العلاقة بين المؤسسات الدينية والدولة لا يمكن تطبيقها على صعيد المؤسسات الإسلامية فرؤية فيبر تتمثل في أن دور المؤسسات الدينية هو تحديد ما هو الدين الصحيح، والدعوة إلى هذا النموذج من الدين، وأن تقوم المؤسسات الدينية بإدارة شؤون المعابد والجمعيات، وتنظيم علاقة الأنظمة بالأديان الأخرى. وعند النظر إلى المؤسسات الدينية الإسلامية فإن هذه العناصر الأربعة جميعها لا تنطبق، فلا توجد مؤسسات تحتكر المعرفة الدينية لنفسها، ولا يرى العلماء أنفسهم معصومين، ولا يمكن أن تتقبل الشعوب الإسلامية فكرة عصمتهم، وأما الإدارة الدينية للمؤسسات فهي متداخلة يشارك فيها حتى الدولة وأفراد المجتمع، ولا يوجد مؤسسة تحتكر طرق الدعوة للدين. كما أود الإشارة إلى أنه يمكننا القول بأن هناك إشكاليات أخرى حيث أن المؤسسات الدينية يمكن أن تشارك وتتداخل مع الأنشطة الاجتماعية والسياسية خاصة فيمن يدعون بأن خطابهم الديني صالح لكل زمان ومكان. هذه العلاقة المتشابكة تجعل عناصر وحدود ماكس فيبر غير قابلة للتطبيق، وعندما أسهم السلفيون في إقامة الدولة السعودية فإنهم ركنوا لهذا النظام المستحدث لثلاثة أسباب وهي أن الدولة تهتم بالشأن العام ومن ضمنها المنظومة الدينية، وأن المسائل الاعتقادية والتعبدية ليست من الاهتمامات الأولى للدولة وبالتالي هناك مجال لتمكين السلفية، والسبب الثالث يعود إلى أن مهمة علماء الدين تعود إلى الاتصال المباشر بالجماهير. ويمكن القول بأن المؤسسات الدينية لعبت دورا رئيسيا في وحدة العقيدة والعبادة والتعليم الديني والفتوى والإرشاد، هذه العناصر الأربعة جعلت من الدين لاعبا رئيسيا في الدول الحديثة واستخدمته الأنظمة في إبعاد التيارات السياسية المناوئة للأنظمة كالتوجهات اليسارية، وأدرك الباحثون السياسيون في الولايات المتحدة الأمريكية هذا التوجه الجديد منذ منتصف القرن العشرين، ليكون توجها مهما يخدم الأنظمة العربية في منع الحراك الاجتماعي ويخدم الولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد الاتحاد السوفيتي، وهو ما دفع كلا من أمريكا والفاتيكان لعقد حلف الإيمان والحرية وتحالف كل من البروتستانتية والكاثوليكية والإسلام ضد الشيوعية وحلف وارسو الإلحادي، ولم يشرع السادات إلى إدخال المادة الثانية (مادة شريعة مصدر أساسي) إلا إشارة للتأثر الكبير بالسياقات الدولية ورغبته في كسب المتدينين والجماعات الإسلامية بمصر لصالحه ضد يساري سلفه جمال عبد الناصر.

 إن هزيمة 1967 وقيام الثورة الإسلامية في إيران، والاستعانة بالإسلاميين في إسقاط الاتحاد السوفيتي وتحالف الأنظمة العربية مع هذه التيارات ساهم في تضخم هذه المؤسسات الدينية، كما استمدت هذه المؤسسات من حرب تحرير الكويت ومقال هانتيجتون في صراع الحضارات في إبراز فكرة المؤامرة ضد الإسلام و"ظاهرة عودة الدين" وشعار الإسلام دين ودولة. كل هذه السياقات أدت إلى مأزق خطير وظهور العنف الديني وعدم قدرة المؤسسات الدينية السيطرة عليها، وبعد أحداث تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر وكذلك ظهور داعش، كان لزاما على المؤسسات الدينية بضغط داخلي وخارجي إيجاد حراك جديد يجتث العنف ويكافح التطرف والإرهاب، وهذا ما تسعى إليه المؤسسات الدينية بدعم من الأنظمة العربية منذ عام 2014.

 استطاع الكاتب في بداية المقالة استخدام مشرط الجراح لتشخيص الواقع الفكري العربي في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ولكنه في نهاية المقال لجأ للحديث عن الأحداث العامة المباشرة، ليصبح المقال في خاتمته تبريرا لهذا الحراك الذي تقوم به المؤسسات الدينية بالتحالف مع الأنظمة في مختلف الدول العربية.إن مشكل الإسلام مع الأنظمة يتجاوز واقعنا العربي ليشمل أكثر من ثلث الأمة الإسلامية التي تعيش في أنظمة غير إسلامية، هذه العلاقة المتوترة حينا والمشبوهة في أحيان أخرى يذهب ضحيتها تلك الشعوب الإسلامية التي تستمع لخطابين يربطهما علاقات متذبذبة وغير واضحة تتسم بالتوازي والانسجام في فترات وبالتقاطع والتنافر في فترات أخرى، إن المؤسسات الدينية تقع على عاتقها مسؤوليات جمة في حلحلة هذا الصراع والتشابك المستمر، لأن ضحيته هم جمهورها الذين ذهبوا ضحية التصادم مع أنظمة لم تتقبل هذا التجاوز الصارخ على شرعيتها.

 

أخبار ذات صلة