انتهاك حرمة المحاكم

انتهاك حرمة المحاكم (2).jpg

 سيباستيان بول

فيلابوراتو عبد الكبير

الكاتب محام بارز وناشط سياسي يساري فضلا عن كونه أحد نواب الحزب الشيوعي في "راجياسابها" (مجلس الولايات) التابع للبرلمان الهندي. حصل على الدكتوراه في القانون الدستوري من جامعة كوشين. وقد تعرض لعدة مرات للمقاضاة فيما يتعلق باتنهاك حرمة المحاكم. فإذَن حين يحاول في هذا الكتاب البحث عن مدى ملاءمة هذا القانون في ضوء تجاربه الشخصية والتعديلات التي تمت في هذا الشأن في القوانين في عدد من الدول الغربية؛ فله قيمة إضافية تجعل كتابه محاولة جادة تستحق أن تأخذها الجهات المختصة بعين الاعتبار.

 

إن حرمة المحاكم معترف بها دوليا قانونا وعُرْفا، وانتهاكها جريمة يعاقب عليها من ينتهكها. وهذا القانون موجود في أغلب الدول بما فيه الدول العربية. يقول قانون الأردن، على سبيل المثال، في مادته الخامسة: " كل من نشر طعنا بحق قاض أو محكمة أو نشر تعليقا على حكم قاصدا بذلك تعريض مجرى العدالة للشك والتحقير يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة واحدة أو بغرامة لا تتجاوز مائة دينار أو بكلتا هاتين العقوبتين". ولكن هل المحاكم "بَقَرَة مقدّسة" إلى الحد الذي لا يجوز مساسها مما يجعل انتقاد أو تقييم سائر قرارات المحاكم ممنوعا منعا باتا ؟ هذا هو بيت القصيد في هذا الكتاب.  

المحاكم مؤسسة ذات سلطة عريضة ولها اختصاصات هامة، ولحرمتها دور كبير في حماية السلطة القضائية المستقلة، لأن قراراتها لا تحتاج إلى اعتراف من الجمهور. ازدراء المحكمة ومضايقة السلطة القضائية وعصيان أوامر المحكمة والإعراض عن تنفيذها كلها جريمة تعد من انتهاك حرمتها. وتحقير القضاة والمحاكم قولا أو فعلا أيضا يُعدّ من هذا النوع من الجرائم. المحاكم مؤسسة محترمة لا شك فيها. ولكن حين يُطبّق هذا القانون بالتمّيز بين الأطراف وبدون حكمة وحصافة سيجعل القضاة مستبدين كما يجعل القانون أداة قمعية. ولذلك، يدّعي الكاتب، يجب أن لا يكون قانون انتهاك حرمة المحاكم مسترسلا بدون قيود وحدود حتى يكون أي انتقاد للأوامر الصادرة من المحاكم جريمة تترتب عليها العقوبة. لأن القضاة أيضا رجال يخطؤون ويصيبون. ولذلك أتت المحاكم العليا ومحاكم النقض في حيز الوجود.

 

الطبيعة الاستبدادية للمحاكم لها جذور تعود إلى قرون. "الحزيمة" التي كانت توجد في محاكم روما القديمة ترمز لهذه الطبيعة كما يشير إليها المؤلف. "الحزيمة" عبارة عن رزمة مربوطة من العُصي الخشبية يوثق بها أحيانا فأس كبير. كانت لها قيمة رمزية عالية في روما القديمة حيث عبّرت عن نفوذ مسؤولي الدولة وسلطتهم القضائية. يعود أصل الحزيمة إلى عهد الحضارة الاتروسكانية في إيطاليا وانفصلت من هناك إلى الحضارة الرومانية، ولازالت تُعدّ حتى الوقت الحاضر رمزا للسلطة القضائية والسياسية؛ فهي كثيرا ما تظهر كحمولة على شعارات النبالة وتظهر على عملة العشر سنتات في الولايات المتحدة كما تُعدّ نوعا من رموز الفاشية. وجدير بالذكر أن "الحزيمة" هذه تسمى في اللغة الإيطالية "فاسيز"( Fasces). إن كلمة الفاشية مشتقة من كلمة "فاسيز". مِثل هذه الحزيمة تماما كانت في كيرالا قضيبة فضية طويلة حتى وقت قريب يحملها مرافق القاضي حين يدخل الأخير قاعة المحكمة.

وفي مقدمة الكتاب ينقل المؤلف قصة حارس يضرب يسوعَ عند محاكمته. يضربه وهو يسأل يسوعَ أهكذا تكلم رئيس الكهنة. ورئيس الكهنة هذا في مكان قاضي القضاة. نقرأ هذه الحكاية في العهد الجديد هكذا: وسأل رئيس الكهنة يسوعَ عن تلاميذه، فأجابه يسوع: "علنًا تكلمتُ إلى العالم، ودائما علّمتُ في المجمع والهيكل حيث يجمع اليهود كلّهم، ولم أقل شيئا في السر. فلماذا تسألني أنا؟ اسأل الذين سمعوا ما تكلمتُ به إليهم، فهم يعرفون ما قلتُه". فلما قال يسوع هذا لطمه أحد الحراس وقال له: "أهكذا تجيب رئيس الكهنة؟" أجابه يسوع: "إن كنتُ أسأتُ الكلام فاشهد على الإساءة، أما إذا كنتُ أحسنتُ، فلماذا تضربني؟ ثم أرسله حنان مقيدا إلى قيافا رئيس الكهنة (إنجيل يوحنا 18: 19-24). لم تكن إجابة يسوع إجابة للسؤال الموجه إليه. فلم تُغفر الإجابة التي لم تقبل رضا جهة السلطة. وفي عبارة أخرى كانت إجابته رد طعنة لاذعة. وكانت تلك اللطمة في مثابة عقوبة لانتهاك حرمة المحكمة. نفس هذا القانون، يقول المؤلف، هو المتَّبع حتى في الوقت الحاضر.

 

أول قضية مرتبطة بانتهاك حرمة المحكمة التي سمع عنها كاتب هذه السطور كانت القضية التي تورّط فيها المُنظِّر الشيوعي المشهور في كيرالا "إي. أم. أس. نامبوتيري باد". كان ذلك في أواخر الستينيات حين كان رئيس مجلس الوزراء في ولاية كيرالا. في الحقيقة لم يكن ينتقد أي حكم صادر من محكمة معيّنة، بل كان مجرد تصريح أدلى به مشيرا إلى خصوصية نظام العدل في المجتمع الهندي حيث قال إن المحاكم في مجتمع برجوازي قائم في بلد مثل الهند لن تكون الأوامرالصادرة منها غالبا لصالح طبقة البؤساء والفقراء. لأنه من الصعب أن يخرج القضاة من طبائعهم الطبقية حسب قوله، فكثيرا ما قد تنحاز أحكامهم إلى البرجوازيين مضرة مصالح الطبقة البروليتارية والمهمشين. ففرضت عليه المحكمة العليا في الولاية عقوبة شهر في السجن مع غرامة ألف روبية. عند استئناف الحكم في محكمة النقض في نيودلهي حاول المتهم لتبرير موقفه مفسرا تصريحه بأنه ليس إلا تعبيرا عن وجهة نظر مبنية على نظرية الصراع الطبقي. ولكن رئيس القضاة هداية الله لم يقبل دعواه ولو أنه قد خفّف مبلغ الغرامة ليصبح خمسين روبية فقط بدون عقوبة السجن. أثار هذا الحكم آنذاك جدلا ونقاشا في نطاق واسع في الدوائر الأكادمية في الهند. إلا أن سلسلة القضايا المرتبطة بانتهاك حرمة المحاكم لم تكن لها نهاية، بل استمرت حتى وقتنا الحاضر. ومن أمثلتها القريبة الأوامر الصادرة من محكمة النقض في نيودلهي ضد القاضي "كارنان" والمحامي البارز "براشانتا بهوشان".

كان "كارنان" قاضيا في المحكمة العليا في "كولكاتا". كان ينحدر من طبقات المنبوذين في المجتمع الهندوسي. وقضيته كانت قضية غريبة. وفي تصريح أدلى به اتّهم القضاةَ في محكمة النقض في عاصمة الهند بأنهم من الطبقات البراهمنة ذوي النزعة العنصرية وأن هذه النزعة لها تأثير على أحكامهم الصادرة. كان يعاني من عقدة النقص. بداية اتهم زمالاءَه بعداوتهم للمنبوذين حين كان قاضيا في المحكمة في ولاية مدراس. لما انتقل إلى المحكمة العليا في "كولكاتا"، توازنت حالته النفسية حتى بلغت رعونته إلى أوجها بحيث أصدر حكما بعقوبة السجن على رئيس القضاة في محكمة النقض مع سبعة قضاة آخرين. فحكمت عليه محكمة النقض حكما بعقوبة السجن لمدة ستة شهور، ولكن المحكمة المعنية لم تتخذ الإجراءات المتبعة في مثل هذه الحالات. صحيح أن رئيس القضاة في محكمة النقض يجوز له عزل قاض في حالة وقوع خلل أوعدم توازن في عقله إلا أنه يجب قبل ذلك أن يتخذ البرلمان ومجلس الولايات التابعة له قرارا في ذلك بالأغلبية. ولم تعتن المحكمة بهذا الجانب من الإجرءات في قضية "كارنان". لو كانت المحكمة أجّلت حكمها حتى يتقاعد القاضي "كارنان" من منصبه لكان بإمكان المحكمة تفادي الطعن الموجه إليها بحبس قاض لم تنته مدته؛ لأن القاضي "كارنان" قد تقاعد بعد شهر من إصدار الحكم عليه. بما أن "كارنان" اختفى بنفسه في فترته الأخيرة تم تجنب المشهد من القبض عليه من قبل الشرطة.

 

 كانت قضية " برشانت بهوشان" هي المثال الثاني من التطورات الأخيرة بهذا الصدد. إن "برشانت" من المحامين المشهورين على المستوى الوطني الذين يمارسون المحاماة في محكمة النقض في نيو دلهي. والظريف في الأمر أنه كان من مؤيدي الحكم على القاضي "كانرنان". ولكن تعرض هو الآخر لعقوبة السجن لمدة ثلاثة شهور ومنع من ممارسة العمل في المحاكم لنفس المدة. ثم تم تخفيض العقوبة لتصبح غرامة مبلغ وقدره روبية واحدة فقط. وكان السبب وراء مقاضاته بسيطا يمكن المرورعليه مرور الكرام حسب رأي المؤلف. كان ذلك مجرد تغريدة قام بها "بهوشان" على صورة فوتوغرافية يظهر فيها رئيس القضاة "بوبديه" بجنب دراجة نارية بدون أن يلبس الخوذة والكمامة.

القانون الذي أقرّه البرلمان عام 1971 بعد تعديل القانون في عام 1952 هو الجاري حاليا في هذا الموضوع. ولكن مجلس الصحافة لم يكن راضيا بهذا القانون؛ ففي عام 2006 أضيف إليه بند جديد يفيد بأنه في حالة إثبات صحة الحادث الذي قاد إلى إهانة المحكمة تُرفع العقوبة عن المتّهم. قانون عام 1926 إبان الحكم البريطاني هو الذي تم تطبيقه أوّل مرة في الهند في انتهاك حرمة المحاكم. لم يكن هذا القانون مدوّنا ذاك الوقت. وفي عام 1952 قدم البرلمان بعض التعديلات في القانون. ولكن الملاحظات التي قامت بها محكمة النقض عن القانون ساقت إلى قانون جديد، فتم تعيين لجنة بقيادة القانوني "سانيال" عام 1963 كما تم تعيين لجنة أخرى بقيادة "بهارجافا" فيما بعد لتقديم توصيات في هذا الصدد. وعلى ضوء التوصيات من هاتين اللجنتين في عام 1968 تقدمت الحكومة المركزية في البرلمان بمشروع جديد في الموضوع حتى أصبح هذا المشروع قانونا مُطبّقا عام 1971. وينقسم القانون إلى قسمين، قسم مدني وقسم جنائي. ويُعدّ من القسم المدني عصيان الأوامر الصادرة من المحاكم بينما يُعدّ من القسم الجنائي التصاريح التي تسيئ إلى المحاكم العدلية أو شخص القاضي. أي تصرف يعرقل أداء أعمال المحاكم يأتي تحت هذا القسم. أما العقوبة بموجب هذا القانون فهو الغرامة أو السجن لمدة ستة شهور مع الغرامة. وأقصى ما يُفرَض من الغرامة ألفا روبية فقط. ويمكن لمن انتهك القانون تقديم اعتذار لدى المحكمة المعنية؛ فمن اختصاصات المحكمة استثناؤه من العقوبة إذا ارتضت بذلك الاعتذار.

 

 القضية الأولى التي تورطت فيها جريدة في الهند بموجب هذا القانون كانت في عام 1868. كانت مرتبطة برسالة كتبها كاتب إنجليزي يسمى "وليام تايلور" في جريدة "إنجليز مان" انتقد فيها القاضي "دواراكا ميترا" مما طرح سؤالا عن صلاحية اتخاذ الإجراءات القانونية ضد الجريدة . كان القاضي "سير بارنيس بيكوك" الذي نظر في تلك القضية موافقا على اتخاذ الإجراءات إلا أنه لم ير تصرف الجريدة المذكورة مزعجا حيث اختتم القضية بقبول اعتذار الجريدة، وأشار القاضي في حكمه إلى ضرورة وجود الجرائد لحفظ حقوق الشعب. ولكن السياسي "سوريندرا نات بانارجي" لم يتم استثناؤه من العقوبة في قضية جريدة بنغالية عام 1883. كانت التهمة ضد "بانارجي أنه انتقد قاضيا بريطانيا أصرّ على إحضار صنم في قضية أمام المحكمة. طبعا لم يوافق "دواراكا ميترا" الذي كان في هيئة القضاة على ذلك الحكم. "لماذا يُتخذ موقف في هذه القضية خلافا للموقف الذي أُتخذ في قضية جريدة "إنجليز مان"؟. كان هذا سؤاله الذي طرحه في ملاحظاته المخالفة التي سجلها في الحكم. كان هذا الحدث في عهد الحكم البريطاني الذي تنتقد فيه الجرائد المحلية المحاكم في الهند وتصب الزيت في نار الاحتجاجات ضد الاستعمار البريطاني. وكان "بانارجي" في مقدمة تلك الاحتجاجات. ثمة عدة جرائد تعرضت لعقوبة انتهاك حرمة المحاكم في عهد الحكم البريطاني في الهند بما فيه " young India" التي ترأس تحريرها غاندي. وقد استعمِل هذا القانون سلاحا ضد الجرائد التي تؤيد الحركات الوطنية الاستقلالية في نطاق واسع.

أما بعد استقلال البلاد أيضا فكان بعض القضاة صارمين في فرض القانون على المتهمين بينما كان بعضهم غير مبالين به. يذكر المؤلف هنا الخطاب الناري الذي ألقاه المستشار "كريشنا أيار"، أحد القضاة المتقاعدين من محكمة النقض في نيودلهي في حفلة انعقدت بمناسبة اليوبيل الفضي للمحكمة العليا في كيرالا. انتقد "كريشنا أيار" في ذلك الخطاب محكمة النقض بكلمات لاذغة حيث حذّر من أنه قد يأتي يوم يتقدم فيه الشعب لهدم المبنى الضخم في طريق "تيلاك". كان قصده محكمة النقض الكائنة في عاصمة الهند، فرفع أحد المحامين دعوى انتهاك حرمة المحكمة ضده. ولكن رئيس القضاة "سوبراهمانيان" رفض الدعوى بناء على مبادئ عامة قانونية.

 

هكذا ينقل المؤلف في الكتاب، ولو كان حجمه صغيرا لا تتجاوز صفحاته مائة صفحة، معلومات قيمة عن الخلفية التاريخية لقانون انتهاك حرمة المحاكم داخل الهند. لا ينكر أهمية القانون ولا مدى فائدته في أداء واجبات المحاكم بصورة جيدة. ولكنه في الوقت ذاته يقول إنه لا يدعو إلى أن يجعل المحاكم كيانا مقدسا  يحظر تحليل أحكامها والكشف عن أخطائها؛ فلا بد أن يكون القانون بهذا الصدد مقيدا بربطه بحق حرية التعبير الأساسي الذي يضمنه الدستور الهندي. هذا هو مغزى الكتاب.               

 

تفاصيل الكتاب:

عنوان الكتاب: انتهاك حرمة المحاكم

 المؤلف: سباستيان بول

اللغة": مالايالام

 عدد الصفحات: 96

 سنة النشر: 2021 

الناشر: دار الفكر للنشريات، تيروفانانتابورام، كيرالا     

أخبار ذات صلة