هنا وهناك: مواقع الفلسفة

هنا وهناك.png

ستانلي كافل

محمد الشيخ

ثمة من الفلاسفة من كانوا عازفين موسيقيين ما اكتفوا هم بالقول في الموسيقى وإنما زاولوها المزاولة. وذلك شأن الفارابي وابن باجه، من فلاسفة الإسلام، والذين كانا عازفي قانون وعود. وشأن نيتشه ويانكلفيتش، من فلاسفة الغرب، والذين كانا عازفي بيانو. ومن الفلاسفة المعاصرين ممن لحق بركب ذاكين وبَزَّ هاذين الفيلسوف الأمريكي الكبير ستانلي كافل (1926 - 2018) الذي أدركته حرفة الفلسفة وحرفة الموسيقى (العزف على البيانو) معا، حتى وإن ضامت الحرفة الأولى الحرفة الثانية.  

وقد صدر كتابه هذا (2022) الذي نقدمه هذا الشهر بعد أن توفي صاحبه (2018)، وبعد أن كان أخرج إلى الناس سيرته الذاتية ("الطفيف مما أعرفه" (2010)). وكان يعتزم إصداره منذ ما ينيف عن عقدين من الزمان، وكان استقر عزمه على أن يسميه "هنا وهناك: مواقع الفلسفة"، وقد صمم على أن يضمّنه محاضراته ومقالاته الغير المنشورة، والتي تمتد على أزيد من عقد من الزمن. لكن، حدث أن تركه "هوامل" مسيبة تحتاج إلى "شوامل" جامعة. وفي عنوان كتابه هذا ـ هنا وهناك. مواقع الفلسفة ـ ترمز "هنا" ـ الأمر القريب ـ إلى ما نحياه من عوادي الأمور، ونسعى أن نفكر فيه تفكيرا فلسفيا. بينما تشير"هناك" ـ الشأن البعيد ـ إلى المكان النائي الذي يسافر إليه فكرنا الفلسفي. وإنما الفلسفة أشبه شيء تكون، عنده، بنهر ينتحيه تفكيرنا الفلسفي ويغيِّر به وجهته: ما بين الضفة القريبة (هنا) والضفة البعيدة (هناك). 

 

وهكذا، تنطلق جوامع المقالات هذه من مقدمة مفادها أن التفكير الفلسفي إنما هو سفر دائم ـ رواحا وذهابا ـ بين ضفتين: "ضفة الواقع" و"ضفة المأمول". والحال عند صاحبه أن الفلسفة في سفرها هذا تلتزم بهاتين الضرورتين معا: ضرورة "الهنا"، وضرورة "الهناك". والذي عند ستانلي كافل أن حقيقة التفكير الفلسفي تكمن في أنه "محرّك" لسائر التفكير البشري. ذلك أن من شأن الفلسفة أن تنطلق من حيثيات مخصوصة، وأن تستعمل كلمات خاصة، وأن تتوسل مفاهيم توجد طوع اليد في لحظة معينة؛ وذلك بحكم أن الفلسفة متجذرة، لا محالة، في ما يسميه ستانلي  كافل "الشأن العادي الذي نوجد فيه ونحيا بوفقه". على أن "وجهة النظر هذه"، التي تنطلق منها الفلسفة، من شأنها أن تتعارض مع "فورة الإلهام وسورته" التي تستبد بنا ـ نحن معشر البشر ـ وتدعونا إلى إدراك الأشياء في كنهها ـ الهناك/الماينبغيات ـ لا كما تبدو لنا في لحظتها ـ الهنا/الماجريات. والحال أن الفلسفة تقتضي العزم على الإبحار، إبحارا بلا نهاية، بين هاتين الضفتين الإبحار المغامِر. وقد كانت للرجل مقدرة تقضي بالعجب على استجماع شرائط الوجود البشري التي نخضع لها نحن معشر البشر والتي نشكلها لأنفسنا. وهي شرائط وأوضاع ظاهرة للعيان، لكننا معشر البشر نتفادى أن ننظر فيها أو أن ننتبه إليها وننبه عليها. 

والحال أن لا إبحار من دون انتقاء أدوات الإبحار. وشأنه شأن عازف البيانو الذي كانه، ينتقي ستانلي كافل من أعمال الآخرين التي يبحر بها ما أسره وأخذ بمجامع عقله وقلبه داخل ميدان الفلسفة أو خارجها سواء بسواء. ومن الفلاسفة الذين استأثروا بعنايته فيلسوف اللغة الإنجليزي جون أوستين، وفيلسوف الصمت النمساوي فيتجنشتاين ـ وكلاهما اهتم بالكلمات وباللغة العادية وبصلتهما بالعالم المعيش ـ وفيلسوف الوئام الأمريكي رالف إمرسون، وفيلسوف البساطة الطوعية الأمريكي ديفيد تورو. ومن غير الفلاسفة تراجيديا شكسبير، وكوميديا هوليود الكلاسيكية وميلودراماتها، وفن الأوبرا، والروائية الإنجليزية جين أوستن، والقصاص الأمريكي إدجار ألان بو، و الكاتب والشاعر والمسرحي الإيرلندي صامويل بيكيت، وغيرهم كثير.  

وقد باين ستانلي كافل سائر فلاسفة عصره وأهل حرفة الفكر في زمنه من حيث أنه لم يحصر نفسه في مباحث فلسفية بعينها، لا ولا سعى إلى بناء نسق فلسفي مغلق، أو نشط إلى تبني مذاهب أو مناهج فلسفية تمامية، وإنما كانت الفلسفة عنده دوما انفتاح أفق، وما كان الفيلسوف في حسبانه من بناة الأنساق. وقد شعر على وجه الدوام بالغربة في أوساط الفلاسفة المحترفين، ولذلك لم يكن يركز على نزعات الفلسفة الاحترافية وإنما على ظواهر مخصوصة مهما كان مصدرها، بناء على فكرته في أن ما من موضوع إلا وهو يصلح أن يكون موضوعا فلسفيا (مثلا أفلام 1930 و1940، حطب فيتجنشتاين، زيارة الأمريكي إمرسون إلى حديقة النباتات بباريس، عناية والتر بنيامين بالأروقة الباريسية، جهورية صوت النساء في الأوبرا ...) بما يشي عن أنه كان يرفض أن يفهم الفلسفة على أنها مشروع بناء نسق. على أن هذا لا يعني أن عمله يفتقد إلى الصرامة الفلسفية المطلوبة أو يكثر فيه "الهراء". وإنما كان الرجل على شاكلة شيخه نيتشه إذ ما كان هذا ليخفي، أبدا، تبرمه من أن تُقرأ كتبه بما يفيد انعدام التنسيق، وكان دائم التطلع إلى الزمن الذي يقرأ فيه القراء كتاب "إرادة القوة" بذات الصرامة المنهجية والنسقية التي يقرأ قراء الفلسفة بها كتابا كلاسيكيا شأن كتب أرسطو مثلا. ثم إن الفلسفة عند ستانلي كافل، شأنها في ذلك شأنها عند ابن سينا في كتاب "المحادثات"، فكر يتشكل عبر سنين ويتقوم عبر نقاش موصول مع طائفة عريضة من الأخلاء والزملاء والطلبة. وفضلا عن هذا وذاك، مايز الرجل نفسه عن غيره بانفتاحه على جمهور واسع. إذ ما عمل على محادثة الفلاسفة وحدهم بالمفاهيم الفلسفية حصرا، وإنما حاضر أمام جمهور مختلف في مواضيع متنوعة بروح متباينة. وهو الشيء الذي يظهر أثره جليا في هذا الكتاب. وعلى الرغم من تصريح ستانلي كافل في مناسبات عدة ـ على عادة "أهل النصوص" من الفلاسفة لا "أهل الإشكالات" ـ بأن الشأن في الفلسفة أنها "نصوص لا إشكالات"، فإن عمله ما كان اعتكاف الزهاد على النصوص تخريجا وتفسيرا وتأويلا، وإنما كان شأنه التفكير في النصوص والتفكر فيها على طريقة المحللين النفسانيين لا على سبيل المفسرين والشراح والمؤولين ... وذلك سعيا منه إلى إلهام قرائه فكرة أن يفكروا بأنفسهم لا بغيرهم، وأن التفكير "فريضة فرد" لا "فريضة كفاية"، وأن يحكموا على ما يقوله بالقياس إلى أنفسهم وإلى خبراتهم وإلى جهدهم، شعاره في كل ذلك: "يا هذا، فكر بنفسك" ... وفي هذا رد على من ادعوا أن الفلسفة تحتاج إلى خبرة طويلة وإلى احتراف تام وإلى تفرغ كامل وإلى دربة طويلة وإلى دراسة عميقة وملازمة مديدة لنصوص الفلاسفة. وكأني بالرجل أُلهم هذه الفكرة من لدن شيخه فيتجنشتاين الذي طوال عمره ما قرأ من تآليف الفلسفة اللهم إلا النزر اليسير، وبالبدل من ذلك كان يفضل الاطلاع على كتب الرسوم ـ شأن كتاب الأطفال أليس في بلاد العجائب ـ يستخرج منه إشكالاته الفلسفية العظيمة.  

 

وعلى الرغم من أن مجمل المقالات التي تم تجميعها في هذا الكتاب "هوامل" اقترنت بمناسبات مخصوصة استجابة إلى دعوات موجهة، وعلى الرغم من أن بعض الموضوعات منها من المواضيع المطروقة في كتابات ستانلي  كافل السابقة (وبعضها غير مطروقة شأن مقالته الدائرة على والتر بنيامين، وتلك التي أدارها على فولكنر ووالاس ستيفنس)، فإن الجامع بين هذه المقالات ـ والتي تشكل شواملها لهواملها ـ إنما هي "تلك الصلة الجوانية القائمة بين الفلسفة والمواقع التي غالبا ما لم يتم تصييرها موضوعا للتفكير في الفلسفة"؛ وذلك بناء على مقدمته التي يذهب فيها إلى أن الشأن في الكلمات أن تحيا في مواقع خطاب معيشة وعينية ـ وهو ما تبرزه هذه المقالات ـ وظروف ما نقوله، وحيثيات ما ندلي به، والمقول إليه، وجهة القول، وموقع القائل؛ وذلك كله يهم قدر ما يهم معنى أقوالنا. ومن ثمة كان عنوان الكتاب: "هنا وهناك" الذي ينبه على فكرة "المواقع" هذه. على أن تباين المواقع ليس يعني تشذر الأقوال شذر مذر. إذ ثمة "هوامل"، بلغة أبي حيان التوحيدي، كأنها إبل مسيبة، و"شوامل" تجمعها الجمع دون أن تسقط في النسقية المغلقة. وما كان معيار التنسيق "صرحا نظريا" يبنى، وإنما هو "جملة تمارين" تجرى؛ بحيث تستفز القارئ استفزازا وتستنهض فيه الهمة إلى التفكير معها وضدها في آن ...

ومن تلك التمارين الفلسفية التي يلح عليها الرجل في جامعه هذا أن قضية شأن وجود العالم الخارجي خارج أذهاننا ما كانت هي بالأولى قضية معرفية مجردة ـ مسألة ريبية ووثوقية، وقضية شكية وإثباتية ـ وإنما هي بالأحرى مسألة مأساوية: مأساة الإخفاق في التعرف على ما يجول في عقول الآخرين؛ ومن ثمة سوء الفهم الأبدي بين بني البشر. وهي مأساة جديرة بمآسي شكسبير. ومن هنا أهمية استخدام شكسبير في استغوار ما يجول في خاطر الغير وبيان فشلنا في ذاك الأمر؛ وذلك على نحو ما تشهد عليه أيضا بعض الأفلام، وما تنم عنه أعمال إمرسون وتورو الفلسفية  ...  والحدود هنا تغيم بين الأدب والفن والفلسفة، وما كان شأن التعرف على ما يجول في خلد الأغيار بالمسألة الفلسفية المجردة، وإنما هي مسألة معيشة محققة. ومن الحياة بمعية الأغيار، وتحليلها تحليلا معرفيا، إلى السلوك اتجاه الأغيار وتحليله تحليلا أخلاقيا، ينتقل بنا ستانلي  كافل إلى النظر الفلسفي في مسألة "الكمال الخلقي" كما ورد عند إمرسون. ومقتضاه أن تصير ما أنت إياه، أو بعبارة نيتشه "صر ما أنت كائنه" أو "أحب مصيرك".  

وهكذا، ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أبواب: 

باب افتتاحي يسميه صاحبه "مغادرات" حيث يضم أطول النصوص نَفَسا. وقد ضمنه اهتماماته المستجدة والتي كان يأمل أن تلهم بحوثه المقبلة لولا أن فاجأه الموت. وتشهد هذه المقالات، في مجملها، على دين ستانلي كافل لكل من فيتجنشتاين وأوستين. وتنضوي على ثلاث مقالات كبرى: "الزمن بعد الزمن" ـ وهو بحث يعكس اشتغالاته بقضايا البيئة وفق عنوان مفارق "فلسفة اليوم بعد الغد"؛ وذلك على أساس أن الفلسفة هي بالأجدر تفكير للمستقبل. أما مقالة "العالم بحسبانه أشياء" فتتناول الفن باعتباره "تجميعا"؛ علما أن فكرة "التجميع" هذه تلعب دورا كبيرا في فلسفة الرجل؛ إذ لطالما تحدث عن فلسفته بحسبانها عملا تجميعيا بالمعنى المدحي لا القدحي. ثم يأتي مقال ثالث عبارة عن تأمل في النظرية الأدبية ومناقشة لتفكيكية دريدا، وهو يتحفظ على عملية التفكيك باعتبارها تقع في ما سعت إلى الفرار منه أصلا: النزعة الوضعية. 

وباب ثان أطلق عليه اسم "تعيينات". وفيها جماع اهتماماته بعد تقاعده، والتي آب فيها إلى المواضيع التي لطالما استأثرت باهتمامه وطوّحت به عنها مطاوح. وقد تمثل عمله فيها على تعميق نقط كان قد اكتفى بالإلماع إليها في أعماله السابقة، وما أسعفه الوقت لتعميق النظر فيها: شأن النظر في فكر والتر بنيامين الذي لطالما انجذب إليه لكن ما حاوره الحوار التفصيلي؛ لا سيما في أمر الأدب الذي يجادل في الفلسفة، وفي شأن الكتابة الأدبية المنزع التي تشغب على الفلسفة الرسمية. وقس على ذلك جانب صلة التحليل النفسي بالفلسفة الذي ما كان قد تفرغ إليها التفرغ. وفي هذه المقالات ينهض بتحليل الصلة بين التحليل النفسي وفلسفة اللغة العادية باعتبار أن كلاهما سعي إلى استعادة ذواتنا الأصلية. ولئن هو كان "خيلاء الفلسفة يتمثل في إظهار أنني أقتدر على أن أتكلم كونيا نيابة عن أي إنسان إنسان"، فإن إفضاء التحليل النفسي يكمن في إظهار المبدأ المتواضع التالي: "أنا لا أقدر حتى على أن أستوفي الحديث عن نفسي الإستيفاء أكمله". وهكذا، فإنه  أمام خيلاء بعض الفلاسفة يفضل ستانلي كافل أن يكون وريث تواضع فرويد.  

 

وفي الباب الثالث الموسوم باسم "الموسيقى" يذكرنا في تقديمه أن الموسيقى وجدت من بين إحدى أقدم ممارساته الثقافية، شأن تهجي الكلمات، لكنه لطالما تحاشى الخوض في أمرها، اللهم إلا في استثناءات فردية. على أنه يقر بأنه "كان عازما على أن تكون الموسيقى ضامنة خبزه اليومي وشغل حياته"، لكن أزمة روحية وفكرية عصفت به أدت إلى تغيير مساره نحو العناية بالفلسفة. وفي هذا الكتاب جمع عشرة فصول قصار في الموسيقى: الأوبرا وموسيقى شونبرغ وبتهوفن وماهلر. وقد تنبه إلى أن ما كان نشده من الفلسفة إنما هو ما كان سعى إليه في الموسيقى؛ شعاره في ذلك قول فيتجنشتاين: "إن فهم جملة لغوية لأشبه شيء يكون بفهم موضوع موسيقي، وذلك أكثر مما قد يخيل إلى المرء". والحال أن قراءة الفلسفة أمر أشبه ما يكون بلعب الموسيقى، تقتضي أذنا صاغية ذائقة. ومن العجب أن فصوله المنتزعة في الموسيقى لم تضم أسماء موسيقاريين فحسب، وإنما ضمت أسماء مفكرين وأدباء نظير فرويد وكافكا وفيتجنشتاين وأدورنو وآرندت ...  على أن الجامع بينهم اهتداؤهم إلى أن شأن فهم الموسيقى، كشأن فهم الفلسفة، يحتاج إلى التخلص من سلاسل كهف أفلاطون وخلع قيوده. 

أخيرا، أفضل ما ختم به ستانلي كافل جوامع تفكراته الفلسفية هذه كان هو ما خاطب به طلبته بمناسبة تقاعده من قوله بعبارة فرنسية "أتمنى لكم سفرا سعيدا". وتلك كانت كلمته الأخيرة. 

 

تفاصيل الكتاب

عنوان الكتاب: هنا وهناك: مواقع الفلسفة

اسم المؤلف: ستانلي كافل

سنة الإصدار: 2022

دار النشر : مطابع جامعة هارفرد

عدد الصفحات: 328

أخبار ذات صلة