القرآن الكريم وتأويله

القران الكريم وتأويله.jpg

ماسيمو كامبانيني

عزالدين عناية

يندرج كتاب الأستاذ الجامعي الإيطالي ماسيمو كامبانيني ضمن مباحث علوم القرآن، وفق تصنيفات العلوم الإسلامية، في حين في الغرب فهو يُدرج ضمن مباحث علم الإسلاميات وهرمينوطيقا النصوص المقدسة. وهو نصّ يُعيد قراءة آليات تأويل النصّ الديني الإسلامي داخل خصوصياته الحضارية، وضمن أبعاده العقدية والتشريعية. والمؤلَّف في جوهره وفي مضامينه ليس تأويلاً للنصّ القرآني، ولا إضافة لقراءة جديدة جنب التأويلات المتعددة التي تطفح بها علوم القرآن، بل هو بحثٌ واكتشاف لأدوات وآليات تأويل القرآن الكريم، كما انبنت ضمن مسار الفكر الإسلامي وتعاطيه مع نصّه المقدس. فهناك مدارس متعددة قاربت الذكر الحكيم: لغوية وصوفية وفقهية وعقدية وسياسية، انبنت عليها جملة من التصورات والمفاهيم والأحكام باتت تميز العقل الإسلامي. ومن هنا فلكلّ نص ديني إطارُ فهمٍ وتفسير يتغايران من دين إلى آخر، ومن واقع إلى غيره، والتأويل الإسلامي له خصوصياته ومناهجه وأدواته.

 

ومن هذا الباب، فلئن يشترك النص القرآني مع نصوص مُقدّسة أخرى في معالجة بعض الإشكاليات الدنيوية والأخروية، فإنّه يظلّ مُتميزا ببنيته العقدية، وبفلسفة تأويله التي قامت حوله والتي تولدت عنه في الآن نفسه، ذلك ما يبيّنه مؤلف الكتاب الأستاذ الراحل ماسيمو كامبانيني. ينطلق صاحب الكتاب من مسائل تَشَكُّل النص القرآني، رحلته من الشفوي إلى المدوَّن، ثم في مستوى ثانٍ بنيته وهيكلته وتفرعاته، كما التأمت تاريخيا وواقعيا، التي من خلالها يتناول مواضيعه وإشكالياته التي تلخّصت عبر سوره وعبر وحدة بنيته الجامعة. كل ذلك من أجل توفير إطار معرفي ومفاهيمي لمسألة التأويل التي يتركز بشأنها موضوع الكتاب الرئيس. وفي مساره المقارب لمسألة التأويل يتعرّض المؤلف كامبانيني إلى مسألتي التفسير والتأويل في السياق الإسلامي، وإلى مسألة الناسخ والمنسوخ، وإلى أول ما نزل وآخر ما نزل، وإلى المُطلق والمُقيد، وإلى المكي والمدني، وما شابهها من القضايا التي أُشبعت بحثا في الدراسات القرآنية، كالقراءات المعاصرة للقرآن والتفسيرات الإسلاموية للنص القرآني، على غرار تفسير "في ظلال القرآن" للراحل سيد قطب.

يَعتبر ماسيمو كامبانيني أنّ النص القرآني، في تأويله القديم أو في فهمه الحديث، قد لازمه خيط ناسج في تأويله، بين القدماء والمحدثين، ارتهن بالأساس إلى أدوات التأويل التي يوظّفها العقل الديني الإسلامي. فالتأويل القرآني هو الأداة التي تُبقي النص القرآني مسايرا للتاريخ وداخل التاريخ. بَيْد أنَّه جراء الهاجس السياسي الذي يخيّم على المسلمين اليوم، فإنّ التأويل السياسي يبدو غالبا ومهيمنا على العقل الديني الإسلامي في وعي مضامين القرآن. لكن أمام تغوّل الرؤية السياسية الحاضرة للقرآن، تلوح، وفق كامبانيني، منعطفات مستجدة في التأويل على غرار ما دشنه محمد أركون ونصر حامد أبو زيد، تتمثّل في إعادة قراءة القرآن الكريم وفق نظرة تاريخانية نقدية. ونشير بالمناسبة إلى أنّ ماسيمو كامبانيني هو من بين ثلة من الباحثين الإيطاليين ممن تخصّصوا في دراسة النص الديني الإسلامي تفسيرا وتأويلا، إلى جانب الأستاذ والمؤرخ فرانكو كارديني.

ما الشيء الذي يميز التأويل القديم عن التأويل الحديث للنص القرآني بحسب كامبانيني؟ في تلمّسه للإجابة عن هذا السؤال يَعتبر كامبانيني أنّ التأويل الديني لدى المسلمين لنصّ القرآن الكريم لئن يعتمد آليات متشابهة، تُوظَّف فيها اللغة والأدوات المعهودة في التفسير، فإنّ الواقع –وفق منظوره- يُنتج مساراته المستحدَثة في التأويل. تلك المسارات هي التي تجعل التأويل ثريا ومتنوعا ويتمايز فيه القديم عن الحديث، وإن بدا متشابها في الآليات. وهي بالفعل تلك المسارات التي تجعل النص القرآني نصّا متعدد التأويلات، وليس أحادي التأويل كما تسعى بعض التوجهات الدغمائية. فالتأويل هو مسعى للانسجام مع التاريخ، وهو مُحاولة لتنزيل النص في الواقع المتحرك، ضمن انفتاح على مسارات متعددة ترفض الانغلاق داخل رؤية جامدة. وبالتالي فالتأويل من منظور كامبانيني هو محاولة لربط المفارق بالعيني، والمقدس بالدنيوي. هذا الجدل يصنعه الإنسان في تطلعٍ وحرصٍ على البقاء داخل التاريخ. فالكائن المُتديّن وفق كامبانيني في جدل دائم مع واقعه ومع نصه القداسي، يبحث عن اتزان في فضائه التاريخي، ويطمح لاستلهام المقول المقدس وفي الآن نفسه يسعى لمسايرة واقعه.

 

لقد تركز جوهر الكتاب في مسألة دقيقة بشأن التعاطي مع القرآن الكريم، ألا وهي مسألة تأويل النص الديني، وأُقدّر أنّ صاحبه أحاط بقضايا تلك المسألة، وإن تعاطى مع الموضوع من خارج الدائرة الإيمانية الإسلامية. ولو نظرنا إلى كتاب كامبانيني ضمن الإطار العام لتطور مبحث الإسلاميات في إيطاليا، نلاحظ ميزته الريادية في الثقافة الإيطالية لكونه يقطع مع سيل من المنشورات السطحية تميزت بالإسفاف والأحكام المسبَقة مع النص القرآني. وعلى صغر حجم الكتاب (160 صفحة من القطع الصغير) فهو يلخّص مسألة التأويل في العقل الديني الإسلامي بكل وضوح وإيجاز دون إخلال. فمسارات التأويل هي مسارات الإدراك والإلمام التي يسير فيها العقل الديني والتي يحاول من خلالها الإحاطة بالنص والتعاطي مع واقعه. فليس التأويل منفصلا عن واقعه، بل هو جزء ووسيلة لفهم واقعه. فإن يبدو التأويل لحاقا بدلالات النص المقدس، فهو أيضا تنزيل للنص المقدس في واقع الإنسان، وكأن واقع الإنسان المسلم هو ترجمة لتأويل نصه الديني.

والكتاب الذي بحوزتنا هو بشكل عام محاولة لمخاطبة العقل الغربي، كون القرآن الكريم كتاب منفتح على عدة تأويلات وليس كما ترسّخت التصورات بشأنه في الفضاء الغربي، جراء أحكام مُسبقة، أو كما تريد بعض التوجهات السياسية احتكاره وحصره ضمنها؛ وبالتالي فالقرآن متعدد التأويلات وليس له هوية واحدة، بل هو كتاب متعدّد الأوجه ومتعدّد المسارات، ذلك ما يلحّ عليه كامبانيني. فَسِرّ القرآن الكريم في تعدد تأويلاته، ولا يمكن لتوجّهٍ فكري، أو سياسي، أو فقهي، احتكاره وهو ما برهن عليه التاريخ الإسلامي. يعي كامبانيني لعبة احتكار تأويل النص الديني، أو ما يُعرف باحتكار المعنى، الحاضر بشكل قوي في الواقع العربي والإسلامي. ويَعتبر أن محاولة الاحتكار فاشلة، لأنها تتناقض مع طبيعة النص القرآني المتضمن للمتشابه، وهو ما يولد التأويل باستمرار وبتتابع. وعلى هذا الأساس يعتبر أنّ القراءة الحَرفية للنصوص المقدسة هي قراءة منافية لجوهر تلك النصوص، وكلما ترسّخ ذلك التمشي الحَرفي تولدت الصراعات الاجتماعية وزادت حدتها. كذلك يطرح كامبانيني إشكالية التفسير الحَرفي للنص المقدس، وهي إشكالية متواجدة في مجمل التقاليد الدينية، يتعرّض إلى محدودية أفقها وما تفرزه من ضيق وأرثوذكسية.

وعلى ما يمثله المؤلف بوصفه من أبرز المتخصصين الإيطاليين في العلوم الإسلامية وفي التحولات الدينية السياسية في البلاد العربية في الزمن المعاصر، فهو في كتابه الذي نتولى عرضه يركز جلّ اهتمامه على الكشف عن الآلية التي تتحكم بصناعة المعنى القرآني. ولعل الإضافة البارزة لماسيمو كامبانيني في مجال العلوم الدينية الإسلامية، تتمثل في محاولة الرجل الكشف عن الآليات العميقة التي تتحكم بتأويل النص الديني، نازعاً أي قداسة عن المقول التراثي في هذا المجال. وعلى العموم توزعت أعمال كامبانيني الفكرية على قسمين: قسم يغوص في آليات النص الديني المقدّس لدى المسلمين، من حيث تفسيره وتأويله وإعادة قراءته لدى المحدثين والقدماء، وقسم يتناول التحولات الفكرية والسياسية التي يشهدها العالم الإسلامي، والتي يحاول الرجل متابعة مساراتها وتجلياتها في عالم اليوم، مع إيلاء اهتمام بارز للتفسير السياسي الديني الذي بات يُهيمن على عقل المسلم، خصوصا ما بدا منه مع الحركات الإسلاموية. وقد سبق لكامبانيني أن أصدر جملة من المؤلفات والأبحاث، تناولت العلوم الدينية الإسلامية والفكر السياسي الإسلامي، نأتي على ذكر بعضها: "الإسلام"، منشورات لاسكولا 2013؛ "البديل الإسلاموي: مظاهر الانفتاح والانغلاق"، منشورات موندادوري 2012؛ "تاريخ الشرق الأوسط"، منشورات إيل مولينو 2010؛ "الفكر الإسلامي المعاصر"، منشورات إيل مولينو 2009؛ "تفسير القرآن الكريم في القرن العشرين"، دار مورشيليانا 2008؛ "أهل السنة"، منشورات إيل مولينو 2008؛ "مدخل إلى الفلسفة الإسلامية"، منشورات لاتيرسا 2004؛ "الإسلام والسياسة"، منشورات إيل مولينو 2003.

 

هذا وقد اعتمد المؤلف في كتابه الحالي على مصادر عربية كلاسيكية بالأساس، وبصفة الكتاب يتناول قضايا دينية إسلامية فقد كان التركيز على المصادر الإسلامية التي توزعت بين القديم والحديث. فالمؤلف على دراية بمسار التحولات التي شهدتها الدراسات القرآنية في الغرب، ومن هذا الجانب فالكتاب هو بمثابة مصالحة علمية للعقل الغربي مع النص القرآني. هناك تخلصٌ من الإسقاطات الغربية في تعاملها مع نص القرآن الكريم، وهو محاولة جادة للإسهام في خلق نقاشات علمية بعيدة عن الإجحاف والغلو أو الأحكام المسبقة. فالمؤلف كامبانيني، إلى جانب فرانكو كارديني، وبيانكا ماريا سكارشيا أموريتي، هم من بين ثلة الباحثين الإيطاليين ممن يدْعون بإلحاح إلى ضرورة تطوير مناهج الدراسات الإسلامية في إيطاليا بعيدًا عن السطحية التي باتت تهيمن على تصورات الكثير من الأكاديميين. فهناك وعي لدى كامبانيني بضرورة خلق أسس معرفية موضوعية وعلمية في التعاطي مع العالم الإسلامي ومع المعارف الإسلامية، بعيدا عن التوظيف السياسي السائد اليوم. وعلى هذا الأساس يحاول كامبانيني الغوص في النص القرآني موظفا علوم الوسائل في ذلك، بعيدا عن مظاهر التعالي الغربي أو الأحكام المغرضة التي عانى منها فهْم القرآن. فقد سعى الكاتب إلى الكشف عن آلية تأويل القرآن الكريم عبر متابعة السبل المؤدية إلى ذلك. معتبرا النص القرآني، وعلى غرار غيره من النصوص المقدسة، أرضية للتأويل وملهِما لصناعة أدوات التأويل، وبالتالي فالتأويل القرآني هو إدراك صادر من النص وعائد إليه.

المؤلف كاتبٌ قدير وهو من خيرة الدارسين الإيطاليين للإسلام وللتحولات الفكرية الدينية في العالم الإسلامي، كما يبدو على إلمام واسع ودقيق بموضوعه، وهو ما لا يتأتى إلا لمن تخصّص وتعمّق في حقله على مدى سنوات. فهناك دقة لدى الكاتب في نقل مصطلحات علم التفسير وتوظيفها، على غرار ما هو متناول في كليات الشريعة في البلدان الإسلامية في هذا المبحث. صحيح أن الرجل يتناول إحدى قضايا العلوم الإسلامية من خارج، أي من خارج الدائرة الإيمانية الإسلامية، ولكن ذلك لا ينفي عنه سعة إلمامه بمجالات نحسبها حكرا على فقهائنا وعلمائنا. وهو بشكل عام ارتقاء لافت بالتعاطي مع النص القرآني، يقطع مع الأجواء العصابية التي عادة ما تتحكم بالنظر والتقييم للقرآن في الغرب، وهو كذلك غوص في إشكاليات علمية. من جانب آخر تشكو النصوص الإيطالية من سوء المتابعة من الجانب العربي، ولذلك يكاد يكون أثر هذا الكتاب غائبا في الكتابات الدينية العربية، والمؤلَّف على أهميته لم يُترجم بعد إلى اللسان العربي، مع أنه حظي بتقدير وترحيب في أوساط المنشغلين الغربيين بالنص القرآني قراءة وفهما.

وعلى مستوى مراعاة التقاليد المتبعة في البحث العلمي، تضمّن الكتاب فهرساً للأعلام، وفهرسا للمصطلحات، بالإضافة إلى جرد زمني بالمحطات الرئيسة للوحي، وقائمة بالمراجع العربية والأجنبية المعتمدة. ولكون الكتاب يتعلّق بقضايا العلوم الدينية، فلا أرى أنه تعوزه حاجة إلى الاستعانة بالرسوم أو الجداول أو الخرائط أو ما شابهها.

 

وكما أسلفنا القول يندرج مؤلف عالم الإسلاميات ماسيمو كامبانيني ضمن قضايا علوم القرآن، وفي ظلّ وفرة المؤلفات الحديثة التي تتناول القرآن والدين الإسلامي في إيطاليا، فإن قلّة من بينها تتوفر فيها الرصانة العلمية. وبالتالي يأتي كتاب كامبانيني في مقدّمة الأعمال القيّمة والهادئة التي تتناول مسائل دينية إسلامية. فالرجل على مقدرة وإلمام بقضايا معقدة دون سقوط في التجريد، ولعل استسهال الأمور هو ما ميز كثيرا من المؤلفات الإيطالية الصادرة في المجال في الفترة الأخيرة. والكتاب بوجه عام هو محاولة لمفْهَمة قضايا القرآن الكريم في التصور الديني الإسلامي بعيدا عن الأحكام المسبقة، وأمّا صاحبه فهو على دراية وإلمام بعقليتين، إسلامية وغربية، بشأن التعاطي مع نص ديني إشكالي لا يزال يثير شغف المنشغلين بالدراسات الإسلامية من غربيين وغيرهم.

 

تفاصيل الكتاب:

الكتاب: القرآن الكريم وتأويله.

تأليف: ماسيمو كامبانيني.

الناشر: منشورات لاتيرسا (باري- روما) 'باللغة الإيطالية'.

سنة النشر: 2022.

عدد الصفحات: 160 ص.

أخبار ذات صلة