السببية: مبدأ للحادثات لا المُحدِثات

قيس بن حمود المعولي

إن الأسباب ومسببات الأسباب تحتاج وحدها لأسباب تجعلها تحدث، وإن العلل الصغرى تحتاج إلى علل أخرى هي علل أكبر منها تجعلها قابلة للحدوث.. إنَّ القاعدة العامة في الموجودات تفسر ذلك، وهي أن كل مخلوق يحتاج إلى خالق، وكل فعل يحتاج إلى فاعل، وكل مصنوع يحتاج إلى صانع، وكل سبب يحتاج إلى مسبب. بالإجمال، فإن كل حادث يحدث في هذا الكون يحتاج إلى سبب يجعل من حدوثه معقولا ولحدوثه تفسيرا. إن مشكلة السببية ليست وليدة اليوم أو الأمس، إنما هي نقاش متوغل في القدم بين الفلاسفة وعلماء الكلام والملاحدة وللاهوتيين. إن المحور الأساس الذي يتحدث عنه معظم هؤلاء: هل العلة الرئيسة أو المسبب وهو وجود إله ينظم هذه السببيات؟ في هذه الأطروحة سأناقش بعض ما جاء فيما كتبته الدكتورة شفيعه بليلى "مشكلة السببية بين القديس توما الأكويني ومفكري الإسلام"، والمنشور بمجلة "التفاهم".

قانون السببية يعتبر من المبادئ العقلية والمعارف الأولية التي لا يمكن لعاقل أن ينكرها، وهو قائم على قانون الحدوث الذي يمكن أن يفسر على أنه لكل شيء بداية، أو أنه تغير من حالة إلى أخرى. يقول والتر ستيس الفيلسوف البريطاني: "كل من يدرس المنطق يعرف أن هذا هو أعظم القوانين العلمية، وأساس كل القوانين الأخرى. فإذا لم نؤمن بحقيقة السببية، ألا وهي: أن كل شيء بدأ في الوجود له سبب، وأنه في نفس الظروف تحدث نفس الأشياء بلا تغير؛ فستتلاشى كل العلوم على الفور. فإن كل بحث علمي يفترض هذه الحقيقة". ويقول توما الأكويني: "الشيء الذي يبدأ في الوجود، يصبح موجودا بسبب شيء آخر. العلم الحديث قائم على هذا الافتراض: أن كل حدث له سبب أحدثه. لذا، وبالرغم من أن هذا الافتراض يمكن إنكاره "من الناحية الاحتمالية المجردة"، إلا أنه لم يكن لشخص ذي نزعة علمية أن ينكره". وهذا يؤكد أن الأحداث عامة تحتاج إلى مسببات تجعلها منطقية الحدوث وعقلية الوجود، وهذا لربما ما خالفه البعض أي أن بعض الأحداث إنما تأتي من مكونها لا من مسبب يسببها أو علة تجعل لوجودها سببا وهذا يمكن الرد عليه أنه لو كان كذلك لتكررت سلسلة هذه الأحداث اللاسببية لكل ما يحدث بغير سبب يسببها.

إنَّ إنكار السببية هو نفسه إنكار العلم التجريبي الذي يمكن أن يقال عنه إنه علم البحث عن الأسباب التي تحدث في واقع الحياة؛ لذلك يقول فرانسس بيكون: "المعرفة الحقيقية هي المعرفة بالأسباب" أي أن المعرفة الحقيقية للأحداث التي ترصد في الطبيعة هي معرفة الأسباب التي جعلت من هذا الحدث ممكنا. ويحتج بعض الفلاسفة أنَّ هناك من شكك في هذا القانون، وقد أثبته بزعمهم العالم الإنجليزي ديفيد هيوم، وهو نفسه يقول: "اسمح لي أن أقول لك إنني لم أؤكد أبدا على هذه النظرية السخيفة التي تقول إنه من الممكن أن يحدث شيء بغير سبب". هناك نقطة مهمة يجب أن تكون واضحة عن التحدث على قانون أو مبدأ السببية؛ ألا وهي: أن هذا القانون ليس قانونا فيزيائيا إنما هو قانون ميتافيزيقي، وهذا اقتباس من كتاب الأسس الفلسفية لوجهة نظر مسيحية عالمية يوضح صحة ذلك: "المقدمة المنطقية الأولى (قانون السببية) لا تنص فقط على قانون فيزيائي كقانون الجاذبية أو قوانين الديناميكيا الحرارية، والتي تسري على الأشياء داخل الكون. المقدمة المنطقية الأولى ليست مبدأ فيزيائيا. وإنما مبدأ ميتافيزيقي، مثل القانون الذي يقول إن الوجود لا يمكن أن ينشأ من العدم المحض، كذلك لا يمكن لشيء أن يأتي إلى الوجود من العدم بلا سبب. ولذا ينطبق المبدأ (السببية) على الواقع بأسره؛ لذا فإنه من السخيف ميتافيزيقيا أن يكون الكون قد أتى إلى الوجود بلا سبب من العدم"، وهذا يفسر وجود خالق للكون وهو الله أي أنه المسبب لهذه الأسباب التي أنشأت الأحداث من العدم والكون كذلك (لا يأتي شيء من العدم).

"قانون السببية لا يقول إن لكل شيء سببا، وإنما يقول إن كل حادث يحتاج إلى سبب. فالإله ليس حادثا. الإله لم يخلقه أحد، فهو غير مخلوق (حسب تصور المذهب الألوهي). الإله ككائن أزلي، ليس له بداية؛ لذلك لا يحتاج إلى سبب" (كتاب: لا أملك الإيمان الكافي للإلحاد). وهذا الاقتباس هو رد على الملاحدة الذين يغالطون أنفسهم بقلة فهمهم أو ارتدادهم عن الحق بقولهم إنه: إذا كان لكل شيء في هذا الوجود سبب فما هو سبب وجود الإله، إن الإله ليس حدثا إنما هو محدث الأحداث الحادثة الممكنة وغير ممكنة الحدوث في عالم الحدث، وإن منطق السببية كما ذكرت إنما يختص بالأحداث الحادثة لا المحدثة للحدث ألا وهو الله. وهنا يمكننا الرجوع لما ذكرت آنفا أن لكل مصنوع صانعا، ولكل فعل فاعلا، ولكل مخلوق خالقا ولكل سبب مسببا أمكن من حدوثه. إن الأحداث العابرة التي تكمن وراءها الأسباب لا يمكن أن تحدث فجأة، بل تحتاج إلى شيء يخرجها من العدم إلى الوجود، وردا على الذين ينكرون هذا يقول الفيلسوف الأمريكي وليام كريج: "إذا كان بمقدور الأشياء فعلا أن تأتي من العدم بلا سبب؛ فسيتعذر علينا تفسير لماذا لا يأتي شيء ما، أو كل شيء، إلى الوجود بلا سبب من العدم. لماذا لا تظهر دراجات، أو فنانون موسيقيون، أو مشروبات باردة، فجأة إلى الوجود من لا شيء؟ لماذا لا يمكن لشيء أن يأتي إلى الوجود من لا شيء سوى الأكوان؟ ما الذي يجعل العدم متحيزا هكذا؟ لا يمكن أن يوجد شيء ما يجعل العدم متحيزا للأكوان؛ لأن العدم لا يتصف بشيء، فالعدم هو غياب أي شيء أيا كان".

أخبار ذات صلة