الأمن والأمان.. غاية إسلامية سامية

منال المعمرية

يقول ممدوح عدوان في كتابه حيونة الإنسان: "إن من أبرز أساليب الإعداد للحرب الأهلية، هو إقناع كل طرف أن الطرف الآخر خطر على الوطن أو الدين أو المجتمع". ولعلنا قد عشنا، كمجتمعات عربية، ردحا من الزمن نعاني من الحروب والاضطرابات، ولاسيما من الحركات المتطرفة من قِبَل مجموعات ادعت انتماءها للإسلام ولم تكف عن استخدام رموزه الدينية وشعاراته وتراثه ومراجعه فيما يخدم مصالحها وأهدافها، مجموعات صغيرة كانت أم كبيرة، منظمة ومسلحة مدفوعة بأجندات خارجية، أممدنية لديها دوافع إسلامية مضللة خارجة عن جادة الصواب والحق.وهي بهذا الإسلام الهجين المنغلق، ترفع راية العنف والدم والفوضى، وتجرّد الآخر من إنسانيته ومن حقه في التعبير عن أبسط حرياته،وتعطي لنفسها الصلاحية في محاسبة الخلق والوصاية عليهم أو إيذاءهم جسديا أو قتلهم وتصفيتهم!

ويعتبر الوطن العربي الكبير بيئة خصبة لهذا الفكر الإقصائي، لما يتسم به من تنوع عرقي وديني وإثني ومذهبي، فهو يضم عددا من الأقليات التي أصبحت مستهدفة، مهددة في أمنها وأمانها، ومعرضة للإيذاء بأنواعه، و(للتفجير) والتهجير!!

إن الضوء الدافئ الذي تغمرنا به الشمس كل صباح، ليس إلا طيفا متعدد الألوان،وهذه الفسيفساء الشاسعة التي يتسم بها كل ما حولنا إنما تدل على أن التنوع هو أصل الحياة وأساس الطبيعة. فالتنوع بين البشر هو سنة من سنن الله تعالى، "ومن آياته خلْق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين"، ويقول جل في علاه أيضا "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا".

وبالعودة إلى تاريخ الحضارة الإسلامية، والحواضر التي قامت تحت مظلة الإسلام وكانت في أوج ازدهارها وتطورها، كالأندلس، نجد أنها تأسست على قيم التسامح والتعايش ونبذ العنف والتعصب، واستفادت من كافة الفئات المختلفة في المجتمع من أجل بناء الحضارة وبلوغ غايات أسمى. وفي هذا السياق يقول أحد المفكرين الإغريق، حين انتصرت اليونان على إسبرطة، "هزمناهم ليس حين غزوناهم، بل حين أنسيناهم تاريخهم". فعلينا أن ننظر إلى الماضي وننهل من تجاربه، ونفهم ديننا الفهم الصحيحكي لا نسمح لهذا الفكر المتطرف، الذي يتغذى من عصب الإرهاب ويتفرع منه، أن يقوّض أسس مجتمعاتنا ويفكك أواصرها.

وبالإشارة إلى مقالة (السُنّة النبوية في الخوف والأمن)، تضيء لنا الدكتورة سعاد الحكيم، وهي أستاذة علم التصوف بكلية الآداب بالجامعة اللبنانية، بعضا من سطور السيرة النبوية، التي ينبغي أن تكون منارات للمغرّر بهم، وإشارات لمن ضلت بهم السبل. فالسنة النبوية، لا سيما في المرحلة المكيّة_ تزخر بجملة من البراهين والأدلة الكفيلة بدحض العديد من حجج المجموعات المتطرفة في حراكها العنيف المسلح، المخالف للشرع والعقل.

لقد احترم الرسول النظام السائد في مكة والتركيبة الاجتماعية بها،فكان حراكه لنشر الدعوة منضبطا بالنظام الاجتماعي، ليجري تغييرا سلميا من داخل النظام نفسه، بلا عنف ولا فوضى، ويستفيد من هذا النظام القبلي لحمايته وحماية أصحابه. فعندما أعلن أبو طالب حمايته للنبي، لم يرفض النبي حماية العم بحجة أنه ليس على دينه، وهو بذلك لم يُسقط دور القبيلة، بل حث أصحابه على تفعيل دور قبائلهم، وذلك من أجل الحصول على الحماية ممن يتربصون بهم وبنبيهم من رؤساء قريش، الذين أعلنوا الحرب على كل من آمن بمحمد رسولا.

وكذلك نرى الرسول يطلب جوار أحد من رجال قريش بعد أن عاد من الطائف، وقد ذاق من أهلها ما ذاق من الأذى، ورموه بالحجارة حتى سالت الدماء من قدميه الشريفتين. إن رسول الله لم يكن محتاجا حقيقة لحماية عمه أبي طالب ولا لجوار القرشي، بدليل أنه عندما أراد الهجرة إلى المدينة المنورة فتح باب بيته وخرج، وكان في الخارج عصبة أشداء من فتيان قريش، يحملون سيوفهم ورماحهم ليسددوها عليه. فماذا فعل عليه الصلاة والسلام؟ جعل ينثر فوق رؤوسهم حفنة من التراب وهو يتلو سورة يس حتى الآية "فأغشيناهم فهم لا يبصرون"، فأنامهم الله جل علاه وهم على حالهم.

إنّ الاسلام لم يخلُ في الفترة المكية من رجال أشداء (كأسد الله حمزة وعمر بن الخطاب)، مستعدين ومتحمسين للقتال، واغتيال عتاة قريش، الذين تربطهم بهم علاقة القربى والقبيلة، ولكن النبي لم يأذن لأي واحد منهم بأي عمل عنيف، لقد كان حريصا ألا يسبب هذا العنف حربا أهلية. وهذا يعني أن أي حرب أهلية هي مخالفة لشريعة الإسلام ولسنة النبي عليه لصلاة والسلام.

لقد احترم الرسول الكريم العصبية القبلية طوال المرحلة المكية، ولكنه بعد أن جمع المسلمين في المدينة المنورة، أبطل العصبية القبلية (سمة المجتمع الجاهلي)، وأصبح أمن المسلم مشبوكا بأمة المسلمين لا بقبيلته.

اعتماد أسلوب الإقناع والحوار

كثيرا ما سنجد حوارات عقلانية من قِبل الرسول الكريم مع أهل مكة، ولكننا قد لا نجد بعد البحث والتفتيش حوارا فكريا واحدا لكبراء قريش، فكل ما نجده هو التهديد والترهيب، أو المساومات والترغيب، أو محاولات الاغتيال، أو مطالبات بأنواع المعجزات ليؤمنوا به رسولا. ومن هذه الحوارات النبوية، يتبدى لنا نهج الرسول الكريم في اعتماد الحوار الرفيق لنشر الإسلام، بإقناع العقول، وفي المقابل نفهم لماذا يتجه للعنف كل مقصر في الحجج، ضعيف في الحوار الكلامي.

إن الأمن والأمان هو غاية إسلامية. وعليها أشارت الكثير من الأحكام والنصوص الثابتة في القرآن والسنة. يقول عليه الصلاة والسلام؛ (من أصبح منكم معافى في جسده، آمنا في سربه،عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بما فيها). فالأمن هو نعمة عظمى، تستجلب العديد من النعم الحياتية، لعل أهمها؛ وفرة الرزق والتنمية البشرية. إن الأمن الحقيقي هو انعدام أي تهديد يُخاف منه على الدين والعقل والنفس والعِرض والمال. وفي المقابل فإن الخوف هو معوّقٌ أساس للإنسان عن أداء مهماته الحياتية، وعن عمارة الأرض.

 إن المؤمن في الاجتماع البشري، هو الأمين المؤتمن على دماء الناس وأموالهم؛ إذ يقول الرسول الكريم في حجة الوداع: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ). ونلاحظ من الحديث الشريف أن الرسول لم يحصر أمن المؤمن على إخوانه المؤمنين فحسب، بل ليعم الناس جميعا؛ وذلك لأن مجتمع الإسلام مجتمع تعددي لا أحادي، يعيش فيه المسلم وغير ذلك، والدليل أن الرسول حين استقر في المدينة المنورة أمر بكتابة "صحيفة" هي بمثابة دستور ينظم العلاقات بين أهلها من مسلمين ويهود. وهذه الصحيفة تجري الاستفادة منها اليوم على نطاق واسع في تنظيم العلاقة مع الآخر، المواطن أو المجاور العالمي.

إن الأمن الاجتماعي في الإسلام ليس مسؤولية السلطة وحدها، ولكنه مسؤولية كل فرد في المجتمع، فهو شريك فاعل في الأمن الاجتماعي، وذلك بأن يكون رحيما حسن الخُلق، مشكاةمنفعة للآخرين دون تمييز، يقول الرسول الكريم (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَضَعُ اللَّهُ رَحْمَتَهُ إِلَّا عَلَى رَحِيمٍ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّنَا يَرْحَمُ، قَالَ: ( لَيْسَ برحمة أحدكم نفسِهِ وأهل بيته، حتى يَرحمَ الناسَ كافّة)، ويقول أيضا (ولَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَاد اللَّه إِخْوَانًا)، ويقول عليه الصلاة والسلام ( رأس العقل بعد الدين التوددإلى الناس، واصطناع العقل إلى كلّ برٍ وفاجر)، ويقول؛ ( المؤمن يألف و يُؤلف، ولا خيرَ فيمن يألَف ولا يُؤلف).

والأمن الاجتماعي عنصر مرتبط ارتباطا وثيقا بالأمن العائلي، وهو الذي يوفر بيئة آمنة لكل أفراد العائلة، إذ يرتكز على أربع قيم سلوكية حرص عليها الإسلام؛ الرفق والرحمة والمودة وحسن الأدب، يقول سبحانه وتعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، ويقول رسوله الكريم؛ (إذا أرادَ اللهُ بأهلِ بيْتٍ خيرًا أدخلَ عليهِمُ الرِّفْقَ)، ويقول أيضا؛ (أكرموا أولادكم وأحسِنوا أدبهم).

وأما عن أمن الدول والمدن، فهو خط أحمر في شرع الإسلام الحنيف، ولا يحلّ لإنسان أو جماعة ترويع الأهالي بثورة مسلحة مهما كانت الظروف؛ فالدرب المفتوح-شبه الوحيد-هو التغيير السلمي لنمط التعايش أو الحكم السائد. يقول صلى الله عليه وسلم (لا تقربوا الفتنة إذا حميَت، ولا تعرّضوا لها إذا أعرضت، واصبروا لها إذا أقبلت).

وتذكر الدكتورة سعاد الحكيم في خاتمة مقالها، أنّ السنة النبوية في مكة المكرمة واضحة البيان؛ في أنه لا يحق لأي جماعة مسلمة ترويع الناس وممارسة العنف والتسبب بثورات غير محسوبة وربما بحرب أهلية، حتى وإن كانت هذه الجماعة مقيمة في وطنها الأم، وأن المجتمع القائم "جاهلي" والحكم المسيطر "جاهلي"، وهذا لا يعني هدم أي محاولة للتغيير، بل يعني وجوب تبني سياسة التغيير السلمي من داخل بنية المجتمع القائم.

أخبار ذات صلة