ياروسلاف كوزمينوف وماريا يودكيفيتش
فيكتوريا زاريتوفسكايا *
يكشفُ لنا هذا الكتاب كيفية نشوء نظام التعليم العالي الروسي، وما إذا كان مجرد اقتباس من النظام الأوروبي واستعارة لأفكار محورية من أنظمة جامعية أكثر نضجًا في أوروبا، أم أنه ظاهرة أصيلة تحمل ما تحمله من ميزات بارزة وإخفاقات عميقة تراكمتْ عبر التاريخ. فكيف يتمُّ تنظيم الجامعات وإدارتها في روسيا؟ كيف ولماذا تتغير مهامها وهياكلها وقواعد تمويلها؟ وما هو الدور الذي تلعبه الدولة في سيرورة عملها؟ من يدِّرس وماذا يُقدَّم في جامعات الاتحاد الروسي؟ كيف يتم اختيار وتشكيل كوادر التدريس؟ وما هو الدور الذي يلعبه العلم في أنشطة الجامعات؟
ترد أجوبة هذه الأسئلة المتمحورة حول "كيف ولماذا؟" والعديد غيرها بين طيات هذا الكتاب الذي يتبنى مؤلفاه مبدأ أن التعليم العالي مرتبط بشكل وثيق ببنية المجتمع: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولا يمكن النظر إليه خارج هذا السياق. ومن جهة أخرى، يؤثر نظام التعليم العالي على المجتمع: من خلال تكوين نخبة فكرية، والمساهمة في الموارد البشرية للجيل الجديد، ونقل منظومة القيم، وتوسيع القدرات الذاتية لأفراد المجتمع. وإلى جانب مناقشتهما محصلة التعليم العالي في روسيا عبر تصنيف جداول تحدد معاييره الكمية والنوعية والهيكلية والديناميكية، يصف المؤلفان الهياكل الاجتماعية التي يعتمد عليها هذا النظام وكيفية تصميم النظام التعليمي وخصائصه.
وينقسمُ الكتاب إلى فصول عدّة، تنقسم بدورها إلى فقرات ليس بوسع هذا المقال أن يستوعبها جميعها لذا اقتصرنا على ما وجدناه أكثر أهمية وراهنية. ففي الفصل الأول، يتناول المؤلفان مؤسسات التعليم العالي في القرن الثامن عشر وتطور التعليم العالي طيلة القرن التاسع عشر. أما الفصل الثاني، فيدور حول مرحلة مهمة في تطوير النظام الشامل للتعليم العالي في الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية.
ويشير الكتاب إلى أنه بحلول منتصف القرن الثامن عشر، إبان تأسيس أول جامعة في روسيا، ولم يكن أساتذتها وعلماؤها الجامعيون قد ظهروا آنئذٍ بعد، كان للعديد من الدول الأوروبية تقاليد جامعية عريقة؛ فجامعة بولونيا قد تأسَّست منذ ما يقرب من سبعة قرون، وجامعة باريس كانت موجودة منذ أكثر من ستة قرون، وجامعة هارفارد، ومع أنها لم تكن مشهورة آنذاك، إلا أنَّ قرنًا قد مرّ على تأسيسها. وكان من المتوقع أن تحتل روسيا، بنظامها غير المطوّر للتعليم الثانوي، مراكز متأخرة لعصور طويلة قادمة. ومع ذلك، وبعد قرن واحد فقط من ظهور نظام التعليم العالي في روسيا، أفصحت الدولة الروسية عن قوة جامعية تتمتع بإمكانيات علمية كبيرة ومستوى تعليمي يتوافق مع المعايير الأوروبية الرائدة. وبعد 50 عامًا أخرى، وضمن ظروف تشكل نظام سياسي واقتصادي جديد (النظام السوفييتي)، بدأ العالم يتحدث بإعجاب عن التعليم العالي السوفييتي ونجاحه غير المسبوق. اليوم ، في بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، يتابع المجتمع الدولي عن كثب التطور السريع لقطاع التعليم العالي في روسيا والتغيرات واسعة النطاق التي تستجد فيه.
ويبدو أن تغييرات جديدة تلوح في الأفق، وما خروج روسيا من نظام بولونيا العالمي للتعليم في شهر مايو للعام الجاري إلا مؤشر لجذرية التغيرات المرتقبة. نرى أن سمات تطور الجامعات الروسية قد ظلت مستمرة وذلك برغم الانقلابات الراديكالية الاجتماعية التي أعقبت الاضطرابات السياسية الكبرى في أعوام 1861 و1917 و1991؛ أي تواريخ إلغاء العبودية والثورة البولشفية وانهيار الاتحاد السوفييتي، وهذا دليل على عمق التقاليد التي تأسس بها نظام التعليم العالي، أما آلية انتقال هذه التقاليد فهي ظاهرة اجتماعية مثيرة للاهتمام وتستحق دراسة مستقلة يقوم بها مؤرخون وعلماء اجتماع.
ما هي هذه السمات إذن؟
يرى الباحثان أن أبرز سمة فيها هي أن تأسيس الجامعات الروسية جاء من قبل السلطات وليس عبر المجتمع المدني كما حدث في معظم البلدان الأخرى. ثمة جزئية مهمة أخرى وهي أن الكنيسة في روسيا القيصرية، ومع أنها كانت جزءًا من نظام الدولة، إلا أن تأثيرها في الجامعات كان ضئيلًا. وبالمقابل، سنرى وضوح الدور الذي لعبته الكنيسة والدين في مراحل التعليم الأدنى (بدأ من الصفوف الابتدائية وحتى المعاهد المتوسطة) حيث كانت مادة ما يسمى بقانون الله مادة إلزامية. وعلى عكس الجامعات الأوروبية وحتى الأمريكية، فإن الجامعات الروسية تشكلت بالكامل خارج التقاليد الدينية والكنسية وبنت قناعاتها وسلوكياتها على أسس علمية لا دينية، وبكلمة واحدة فإن اللبنات التي تأسست بها تقاليد الجامعة الروسية ترتكز على الجدارة وعالمية القيم والشعور بالمهمة المحورية للجامعة تجاه المجتمعات المحلية والدولة ككل. كما لم تهدف الجامعات الروسية إلى تشكيل النخبة، أي أولئك الذين سيحكمون الدولة. هذه الميزة لا تقتصر على الإمبراطورية الروسية؛ حيث شملت النظام السوفييتي كذلك. ويشير الكتاب إلى فترة الإمبراطورية حيث كان تجنيد القادة والضباط يتم في مدارس خاصة وفي ظل النظام السوفييتي كانت الطبقة الحاكمة تتمخض عبر نظام خاص للمدارس الحزبية. أما الجامعة، فكانت تنشئ النخب المهنية للدولة. ومع أنَّ الخريجين كانوا جزءًا من الدولة، إلَّا أنهم كانوا متخصصين في مجالاتهم المهنية ولا يتولون مهام الدولة باعتبارها تخصصا. لقد تربى الطلاب الروس على أفكار التقدم وليس على مفهوم الأمن الاجتماعي. لذلك؛ فقد شكلت الطبقة المتعلمة للدولة الروسية، والسوفييتية فيما بعد، منجمًا ثريا لبناء الدولة والمجتمع. "بالطبع أدى ذلك بصيغته النهائية إلى عدم القدرة على إشراك المجتمع الأكاديمي في حل المشاكل السياسية والإدارية الراهنة" (ص:14).
ومن تركة الحقبة السوفييتة التي تعرضت لها الدراسة، نذكر: التمويل المنخفض للغاية للبحوث العلمية. حيث يعتبر التمويل المخصص لكل طالب للبحث الجامعي في روسيا أقل من مثيله في العديد من بلدان العالم، لكن هذا لا يجعل الجامعات الروسية مؤسسات تعليمية جافة: لا يزال البحث جاريًا، لكن مستواه محدود بشكل خطير بسبب عدم كفاية الموارد. ويُعيد الباحثان إلى الأذهان مسألة التعليم السائد في الجامعات الروسية؛ حيث لا يشكل التعليم التطبيقي فيها أكثر من 20% من الميزانية، كما أنَّ عناصر البحث والمشاريع تبقى غير متطورة في هذه الجامعات.
وهناك أيضًا الفرص المحدودة للنشاط الاقتصادي والاستثماري للجامعات الروسية؛ وذلك بسبب وضعها الاقتصادي القانوني، مع أنَّ هذا أمر تقتسمه روسيا مع عدد من الدول الأخرى. وليست الحال أفضل فيما يتعلق بحرية الأنشطة التعليمية للجامعات فهي محدودة بدورها؛ إذ تمتثل للمعايير التعليمية الحكومية.
ويضع الباحثان القارئ أمام صورة شاملة للتعليم العالي في روسيا مدعومة بالنسب والجداول التوضيحية. هناك، بادئ ذي بدء، نسبة اعتناء ساكنة روسيا بتحصيل أبنائهم على مستوى عال من التعليم حيث تصل نسبة هؤلاء إلى 80 ٪ من إجمالي السكان. هنا بمقدورنا القول إن التعليم العالي ما زال مؤشرا قويا للوضعية الاجتماعية تماما مثلما كان الحال في الاتحاد السوفياتي وما قبله، وما زال التعليم العالي موجها حاسما للسلوك الاجتماعي وتحسين حياة الفرد وترقيته في المجتمع. يعود ذلك إلى حقيقة تميز اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية بظاهرة الحراك الاجتماعي الهائل، أي إمكانية الترقية السريعة للفرد على أسس المساواة بين الجميع والتي تم ضمانها من خلال عدد من العوامل المستقرة طويلة الأجل: فالتعليم المدرسي يشمل الجميع والتعليم المهني العالي يمكن الوصول إليه بسهولة. ولكن الأمر تغير حينما مُنحت مؤسسات التعليم العالي الحق في تقديم خدمات تعليمية مدفوعة الأجر في العام 1992م؛ أي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي مباشرة ودخول عناصر التجارة في المؤسسات التعليمية، حينئذ ارتفع عدد الطلاب الذين يتلقون تعليمًا عاليًا بعد المدرسة مباشرة إلى 50%، وهنا "سيساورنا الشك في جودة الكفاءات المهنية لخريجي الجامعات والبرامج التعليمية التي ظهرت في التسعينيات بلا أي مسمى. هناك شيء واحد مؤكد - لقد أتاح هذا الوضع لملايين المواطنين الروس الحصول على وضع اجتماعي كان بعيد المنال عن آبائهم".
وتتمثل إحدى ميزات نظام التعليم العالي في روسيا في تقسيمه البيّن على المستوى التعليمي والبرامج المنهجية (مدفوعة الأجر، مجانية، بدوام كامل، بدوام جزئي، بجدول مسائي) ويشرح هذا التباين بشكل شامل اختلاف نوعية الخريجين وجودة وحجم محصلتهم المعرفية. اليوم، ووفقا للإحصاءات المتاحة في هذا الكتاب، يوجد في روسيا حوالي 50 جامعة رائدة يمكن وصفها بأنها ذات أهمية عالمية إذ تم تضمينها في التصنيفات الدولية، من بينها 15 جامعة ضمن أفضل 100 مادة أو تصنيف صناعي معين.
أما ظاهرة عدد الخريجين البارزين من الجامعات الروسية، الذين جعلت قدراتهم التحليلية والإبداعية من روسيا رقما عالميا مهما، فتعود إلى طبيعة تعليمهم الأساسي والاهتمام الكبير بتكوين الأدوات التحليلية والتفكير المنهجي لديهم.
ويُركِّز الكتاب على العملية الدراسية نفسها وتعدد المواد الدراسية والفصول؛ فإذا قارنا البرامج التعليمية للجامعات الروسية بمعظم الجامعات الأجنبية، نجد أن النموذج الروسي للتعليم العالي يتضمن فترات أطول لإتقان البرامج وذلك بنسبة 1.5 مرة أكثر من ساعات الدوام داخل الغرف الدراسية (المحاضرات والندوات والعمل المخبري) من المتوسط العالمي. ويشرح الكاتبان ذلك بقصر فترة الدراسة في المرحلة الثانوية مع أطول إجازة صيفية في العالم عند تلاميذ المدارس الروسية، فبالمقارنة ببعض بلدان العالم، ينتظم تلاميذ المدارس الروسية بما يقل ثلاث سنوات عن نظرائهم في الدول الأخرى. ونتيجة لذلك، يتم دراسة مواضيع مثل اللغات الأجنبية والرياضيات والفلسفة والتخصصات الاجتماعية والاقتصادية...وغيرها من المواد العامة وغير المختصة من قبل الطلاب في سنواتهم الأولى في الجامعة؛ حيث تصل إلى 25% من مجموع وقتهم الدراسي. من جهة يعطي هذا مهارات أساسية قوية، ولكن في السنوات الأخيرة يكون النظام غير فعال، فالدوام الكامل يحرم الطالب من فرصة تنفيذ مشاريعه الخاصة واتخاذ نشاطه العلمي المتفرد.
وفي الفصل السادس، يرسم لنا المؤلفان صورة للطلاب الروس وكيفية سير عملية تعليمهم كما يعرضان ماهية حياة الطالب ومراحل توظيف الخريجين. ويحدِّد الفصل السابع الدور الذي يلعبه أعضاء هيئة التدريس واصفا كيفية ترتيب السلم الوظيفي في الجامعات الروسية. وفي الفصل الثامن، نتعرف على تنظيم العلوم في روسيا وكيفية فصل التعليم العالي عن الممارسة التطبيقية لفترة طويلة وعن محاولات اليوم لسد الفجوة بين التعليم والعلوم الأكاديمية. أما الفصل التاسع، فمُكرس للحديث عن كيفية إدارة الجامعات من داخلها وتأثرها ببرامج دعم الدولة. الفصل العاشر تم تخصيصه لتدويل التعليم الروسي؛ حيث يبين العلاقة بين تنظيم التعليم العالي والمؤسسات السياسية للمجتمع.
وختاما.. يأتي هذا الكتاب في توقيت مناسب؛ حيث تشهد البلاد تغيرات كبيرة، وكما هو مُنتظر ستؤثر على نظام التعليم العالي الروسي، وربما انفصاله عن نظام بولونيا الجامعي خطوة جامحة تبشر بخطوات أخرى.
تفاصيل الكتاب:
الكتاب: الجامعات الروسية.. كيف تعمل؟
المؤلف: ياروسلاف كوزمينوف وماريا يودكيفيتش
الناشر: دار النشر التابعة للمدرسة العليا للاقتصاد، موسكو - 2022
عدد الصفحات: 616 صفحة
*أكاديمية ومستعربة روسية