أسس وقواعد التحقق القانونية.. مبدأ التحقق ودفع الشبهات

أمجد سعيد

في مقاله المعنون بـ"مبدأ التحقق ودفع الشبهات"، والمنشور في مجلة "التفاهم"، ناقش أستاذ القانون الدولي أحمد أبو الوفا مبادئ القانون العامة، ودورها في العلاقات بين الدول والنظم القانونية الوطنية، ويرى أن المبادئ العامة للقانون التي أقرتها الأمم المدنية تًعد مصدرا من المصادر الرئيسة التي يمكن اللجوء إليها لحل أي نزاع دولي، ويذكر أيضا أن في إطار النظم القانونية الوطنية للمبادئ العامة للقانون، هناك دور هائل للمصالحة القانونية الدولية لايمكن إنكاره.

تطبيق المبادئ العامة تحكمُه قاعدتان؛ أولاً: يجب أن تكون هذه المبادئ متصفة بصفة العمومية، بمعنى أنها مبادئ مشتركة توجد في مختلف الأنظمة القانونيه العالمية؛ ومن ثم لا يمكن أن تُعتبر من المبادئ العامة للقانون، تلك التي يقتصر تطبيقها على دولة معينة بذاتها، وإنما لابد من أن يتوفر قدرٌ من العمومية في المبادئ التي نريد وصفها بهذا الوصف، وإلا لكان الوصف الذي ينطبق عليها هو الوصف المحلي أو الإقليمي. ثانيا: يجب أن يتم تطبيق المبادئ العامة للقانون كمصدر من مصادر القانون ذاته، في حالة عدم وجود قاعدة اتفاقية أو عرفية؛ ذلك أنه إذا وجدت قاعدة اتفاقية أو عرفية فيجب تطبيقها، ويرجع السبب في ذلك إلى أنها ستكون أكثر وضوحا، كما أن لزومها في مثل هذه الحالة لن يكون محل نزاع أو جدل مقارنة بالمبادئ العامة للقانون التي قد يقول أحد الطرفين المتنازعين إنها غير موجودة في بعض الأنظمة القانونية.

الهدف من ذلك هو أن المبادئ العامة للقانون تعمل على سد أي ثغرة ممكنه في قواعد القانون، وإن كان ذلك ليس أمرا حتميا؛ لأنه في بعض المسائل قد لا توجد أية قاعدة مكتوبة أو متعارف عليها أو مبدأ من مبادئ القانون العامة، ومن المتعارف عليه أنه إذا وجد نص في القانون يقنن صراحة أحد المبادئ القانونية، أكان ذلك بصفة عامة أم بصفة خاصة، فإنَّ ذلك يضفي عليه أهمية كبيرة ذات جانبين، جانب كنص مدون وآخر كمبدأ عام للقانون.

هناك عدة أسس يستند إليها مبدأ التحقق ودفع الشبهات، منها مبدأ الأصل في الأنسان البراءة، يعد هذا المبدأ من المبادئ الأساسية للسياسية الجنائية، القديمة والحديثة، بوصفها المظهر الأساسي لحماية حقوق الإنسان. وهو مبدأ يتفق مع الفطرة والمنطق والسليقة الحسنة؛ فالأصل البراءة وكل شيء يبقى مثل ما كان عليه إلا إذا حدث أمر ما يغيره عن أصله، وهذا هو جوهر فكرة الاستصحاب في الفقه الإسلامي. وهنا نموذج لما قررته المحكمة العليا في سلطنة عمان بقولها: "الأصل في الإنسان البراءة، والإدانة عارض، ولا يترك الأصل إلا بناء على حجج قطعية الثبوت". وجنائيًّا: يجب التحقق وعدم الاستناد إلى الشبهات حتى عند البحث عن إدانة أو عدم إدانة شخص ما. ومن المعلوم أن الأسس التي يقوم عليها مبدأ البراءة الأصلية في الفقه الإسلامي تعود إلى ثلاثة أمور جذرية؛ هي: الإباحة الأصلية، واستصحاب الحال، ومبدأ اليقين لا يزول بالشك. الأساس الثاني الذي يستند إليه مبدأ التحقق ودفع الشبهات هو: مبدأ درء العقوبة بالشبهة، ويطبق المبدأ على كل العقوبات وليس فقط الحدود، بل يجب تطبيقه ويتم تطبيقه في كل جوانب الحياة الأخرى، ذلك أن الفطرة السليمة ترفض أن يوقع عقاب على شخص ما إذا وجد شك أو شبهة في أنه هو الذي ارتكب الجريمة المعاقب عليها. لذلك تأتي عبارة: "ولأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة". ووفقاً لهذا المبدأ، فإن تطبيق العقوبات بكل أنواعها يفترض أمرين لا يفصل بينهم فاصل؛ هما: عدم وجود شبهة في ارتكاب الجاني للجريمة والتحقق من ارتكاب الجاني للجريمة، ومن ثم استناد إدانة المتهم إلى يقين لا شك فيه. أما الأساس الثالث، فهو ضرورة استناد الأحكام إلى الجزم واليقين لا الشك والتخمين، هذه مسلمة أبجدية، وهي مظهر أساس لمبدأ التحقق؛ ذلك أن إدانة المتهم يجب أن تثبت ثبوتا يقينيا. وشددت المحكمة العليا في سلطنة عمان على ضرورة ألا يختلط الحكم بأي قدر بسيط من الشبهة أو الشك: "يترتب على قرينة البراءة أن كل شك في ثبوت التهمة يجب أن يفسر لمصلحة المتهم؛ فالأحكام يجب أن تبنى على الجزم واليقين لا على الظن والاحتمال".

وفي مبدأ التحقُّق ودفع الشبهات، هناك قاعدتان أساسيتان يجب الأخذ بهما في اتخاذ الأحكام؛ هما: قاعدة مراعاة التثبت والتحري، وقد أكد الفقهاء على مبدأ التثبت والتحري كمبدأ عام يجب مراعاته في النطق بالإحكام، ويجب أيضا ربطه بالتأني في الأمور المتعلقه بالمسألة، وأن يستبعد مسألة الحكم بالظن. ومن القواعد الفقهية التي تقول: "إذا حصل الالتباس وجب التحري"؛ فهذه القاعدة تقول بالتأني والتثبت ومراعاة المدة الزمنية في الالتفاف حول جميع جوانب المسألة التي يجب البت فيها بحكم معين. والقاعدة الثانية هي: الأخذ بقاعدة الاحتياط؛ من مظاهر مبدأ التحقق ودفع الشبهة الأخذ بقاعدة الاحتياط عند تقرير أمر ما أو تطبيق العقوبات، لذلك أكد الفقه وشدد على هذه القاعدة المهمة.

... إنَّ مبدأ التحقق ودفع الشبهة له أسسه التي تمت مناقشتها، والتي تبث الآثار الإيجابية في العلاقات القانونية؛ سواء أكانت محلية أم إقليمية أم دولية، والواقعة بين مختلف الأشخاص القانونية. ولهذا المبدأ قيمة قانونية، وأيضا قيمة أخلافية مضافة؛ فمعرفة الجميع بهذه المبادئ والقوانين قد تردع من لديهم نزعة الكذب والخداع وتزيد من كثافة الإحساس بالمسؤولية في القول والعمل وتأكيد الضمير المسالم في حق الآخر.

أخبار ذات صلة