الله، العلم، الدلائل: فجر ثورة

العلم.png

تأليف: ميشيل-إيف بولوري وأوليفييه بوناسي

محمد الشيخ

ثمَّة خلل رهيب في هذا الكتاب المُثير للجدل: لا تُجزي الحملة الضخمة لتسويقه، حتى بيعت في الثلاثة أشهر الأولى من صدروه أزيد من مائة ألف نسخة، "سخافة" بعض دعاوى الكتاب؛ لعل أشدها غرابة وإثارة دعوى أنَّ دولة إسرائيل تنهض دليلا على وجود الله! أو أن ما يسميه "مناهضة نظرية الانفجار الأعظم وملاحقة القائلين بها" تقوم حجة على صحة النظرية ووجود الله! وبهذا جعل المؤلفان الكاثوليكيان الله عرضة "تهيؤاتهما"!

في تقديم روبرت ولسون، وهو عالم فيزياء أمريكي حاصل على جائزة نوبل عام 1978، يذكر كيف يشكل هذا الكتاب عرضا جيدا لنظرية الانفجار الأعظم ولأثرها على اعتقاداتنا وتصورنا للعالم. ويرى أنه حسب مؤلفيه، وكلاهما رجل مهندس، يمكن أن يوجد كائن عقلي أسمى في أصل هذا الكون. ويضيف قائلا: على الرغم من أن هذه الأطروحة العامة لا تحمل إليّ تفسيرا كافياً، فإنني أقبل اتساقها. ذلك أنه بالرغم من أن اشتغالي، بحسباني عالما يقتصر على القبول بتأويل عملي محض، يمكنني أن أتفهم كيف أنَّ نظرية الانفجار الأعظم قد تستحث على تفسير ميتافيزيقي. ثم يحكي ولسون كيف أنه من قبل كان يؤمن بأن الكون أزلي أبدي، إلى أن كشفت له نظرية الانفجار الأعظم عن أن للكون بداية وتطورا. على أن هذا لا يمنعه من إبداء تحفظ؛ إذ يذكر أننا لا نعلم حتى اليوم إلا 4% من مادة الكون وطاقته؛ علما بأن المادة السوداء والطاقة السوداء تشكل على التوالي % 26 و70 % مما يحتويه الكون، لكننا لا نعلم عنهما فتيلا. وحل هذا الإعضال قد تنبثق عنه فيزياء جديدة سوف تقلب فهمنا الحالي لنشأة كوننا منذ الانفجار الأعظم وتطوره. كما أنه لكي يتطور الكون البدائي نحو ذلك الذي عنه نشأنا ونفهمه اليوم، يفترض هذا الأمر بالضرورة أنه تم إعداد الانفجار الأعظم إعدادا بميزان، وإلا اختل نظام الكون. ومن هنا، يستكشف هذا الكتاب فكرة روح أو إله خالق. وهي الفكرة التي نعثر عليها في العديد من الأديان. وهنا يضيف: لَئِنْ كان المرء متدينا بحسب التقليد اليهودي-المسيحي، فإنه يرى أن لا نظرية أفضل من نظرية الانفجار الأعظم وأصل العالم تقبل أن تتوافق ومرويات بداية الخلق الواردة في الأديان. على أن هذا الأمر يرجئ مرة أخرى طرح مسألة الأصل الأول: كيف ظهرت هذه الروح أو الرب؟ وما هي صفاته؟ ويختم مقدم الكتاب بالقول: يحدث لي أحيانا أنه عندما أرفع عيني إلى آلاف النجوم التي تومض في الليل، أفكر في كل الأشخاص الذين، شأني، رفعوا أعينهم صوب السماء وتساءلوا: كيف بدأ هذا كله؟ ويضيف: بكل تأكيد لا أعلم لهذا الأمر تفسيرا. ولكن، لربما بعض القراء سوف يحظون بحظوة أن يجدوا بداية جواب في هذا الكتاب. 

 

ينبه مؤلفا الكتاب إلى أن هذا العمل استغرق منهما ثلاث سنوات، وأنه تمَّ إعداده بمساعدة من 20 متخصصا، وأن غرضه فريد من نوعه: تزويد القارئ بالعناصر الأساسية للتفكير في مسألة وجود رب خالق؛ وهي مسألة باتت اليوم تطرح وفق اصطلاحات جديدة كل الجدة، وأن موضوعه عرض الحجج الجديدة على وجود الله لكي يتم إدراك حجم "الثورة الفكرية" التي نحن شاهدون عليها اليوم. ويعرب المؤلفان عن أمنية أن يتمكن القارئ، عند نهاية القراءة، من أن يكون قد تزود بكل العناصر التي تسمح له باتخاذ القرار حول ما الذي يريد أن يعتقده بكل حرية وبينة. ويذكراننا أنهما لا يقدمان في هذا الكتاب سوى "الوقائع"، ولا شيء غير الوقائع. ويأملان أن يقود كتابهما إلى فتح نقاش جوهري. ويذكر المؤلفان أنهما لطالما شغفا بالمواجهة بين العلم ومسألة وجود الله، وأنهما ما عثرا على الكتاب الذي يشفي الغليل؛ ولهذا انتدبا نفسيهما لهذه المهمة. وقد أجرياه كما يجرى استقصاء صارم، وفق منهج المعقولية؛ متجنبين موقفين: موقف القائلين بالخلق الذين يستبعدون كل الاكتشافات الحديثة ويؤمنون باعتقادات مجنحة، وموقف الماديين الذين يرفضون أخذ نتائج التقدمات التي يحققها العلم بعين الاعتبار. ويؤكدان أن ما يشهده العلم من مستجدات من شأنه أن يغير نظرتنا إلى الكثير من الأمور. ذلك أنه إلى عهد قريب، كان يبدو الإيمان بالله أمرا ليس يمكن التوفيق بينه وبين العلم. لكن الآن، وعلى نحو ما كان متوقعا، يبدو أن العلم قد أمسى حليف الله، وأن المادية، التي ما هي إلا اعتقاد بين اعتقادات، تترنح يومًا عن يوم. وإننا لعلى عهد فجر ثورة. وقد شاء المؤلفان أن يرويا عن هذه الثورة حيث أن تطور الرياضيات والفيزياء طرح أسئلة كان يُعتقد أنها تقع خارج تناول المعرفة البشرية؛ شأن الزمان والأبدية وبداية العالم ونهايته وإعداد الكون وظهور الحياة، وباتت اليوم موضوعات علمية. وهكذا، فإنه بعد قرون بدت فيها النظريات العلمية تسير ضد الإيمان ـ دوران الأرض حول الشمس، الوصف الرياضي لعالم آلي، قدم تاريخ الأرض، حتمية نظام الكون وعدم حاجته إلى ملائكة تدبره، الظهور التطوري للحياة، فكرة أن التطور لا يقوم على تدخل الرب وإنما على الاصطفاء الطبيعي، المادية الجدلية، نظرية فرويد ... فإن النصف الثاني من القرن العشرين شهد على أفول هذا النزوع المادي ـ ميكانيكا الكوانطا التي طعنت في فكرة كون بسيط آلي حتمي، أفول المعسكر الشيوعي حامل لواء الإلحاد، بيان فضائح الفرويدية ... بما ينبئ عن أن نهر الفيزياء الطافح قد خرج عن ضفتيه لكي يصب في مجال الإلهيات، ومن هذا الصبيب لاحت عناصر تُظهر ضرورة وجود ذكاء خلاق في أصل هذا الكون. وهو الشيء الذي يرويه هذا الكتاب المكون من ثلاثة أقسام.

 

القسم الأول من الكتاب

الدلائل على وجود الله المرتبطة بالعلم

يركز هذا القسم على "الاكتشافات الثورية" الخمسة، ويقدمها على أنها دلائل تنهض على وجود الله. وهي دلائل مستقاة من مجالين: مجال علم الكون، ومجال علم الحياة: 

أولا؛ الموت الحراري للكون. وهذه نظرية اشتُقت من النظرية الحرارية الدينامية التي كانت ظهرت عام 1824، وتأكدت عام 1998 باكتشاف التمدد المتسارع للكون. وفكرة الموت الحراري للكون تنهض، في رأي المؤلفين، حجة على أن للكون بداية. والحال أن ما من بداية إلا ولها باري. إذ لئن كانت للكون بداية زمنية، فإن له علة تتقدم عليه. علما أن هذه البداية تقتضي إعدادا دقيقا.

ثانيا؛ نظرية النسبية التي أقيمت ما بين عام 1905 وعام 1915 من لدن آينشتاين وتم تأكيد صحتها بعده تأكيدات عدة. وهي نظرية تؤكد على أن الزمان والمكان متعالقين؛ بحيث لا يمكن أن يوجد الواحد منهما من دون سواه. وهذا ينهض حجة ـ في رأي المؤلفين ـ على أنه لئن كانت ثمة من علة للكون، فإنها بالضرورة علة غير زمنية وغير مكانية وغير مادية، هي التي خلقت الزمان والمكان والمادة. 

ثالثا؛ نظرية الانفجار الأعظم. وقد نظّر فريدمان لها في العشرينات من القرن الماضي، ونظّر لها لوميتر عام 1964. ويستشف من هذه النظرية أن بداية الكون شهدت على تعالق بين الفيزياء والعلة الخالقة الخارجة عن الكون. ومن ثمة تتطابق فكرة الانفجار الأعظم مع فكرتنا عن خلق العالم من لدن الخالق، وكوننا لا نستطيع التفكير في ما قبل الانفجار الأعظم ـ لأن مقولات الزمان والمكان والمادة لا يمكن تصورها خارج هذه الفرادة الأولية ـ أمر يعزز فكرة حركة خلاقة. 

رابعا؛ الإعداد الدقيق للكون. يشي مبدأ أن هذا الكون أعد للإنسان إعدادا ـ وهو المبدأ الذي بات مقبولا على نطاق واسع من العلماء ـ عن أنه تم الإعداد للكون إعدادا؛ مما ينهض دليلا على وجود مُعِدٍّ ما كان سوى الباري. فلا يمكن أن نصدق، حسب عبارة فولتير، وجود ساعة (كون) من دون ساعاتي (رب). ثمة إعدادات مسبقة بني عليها الكون تخص قوة الجاذبية والقوة الكهرومغناطيسية والتفاعل بين العناصر الذرية وسرعة الضوء ... كل هذه الأمور ضبطت ضبطا بحيث لو اختلت لاختل نظام الكون وتهاوى؛ فلا بد من ضابط لها ومُعِدٍّ. 

خامسا؛ أظهر علم الأحياء أن ثمة هوة سحيقة بين الجامد والحي، وقفزة مدوخة؛ بحيث لا يمكن أن تتم النقلة بمحض الصدفة؛ بما ينهض دليلا على أن هناك "تصورا مسبقا" و"يدا خفية" لهذه النقلة ناجمة عن "ذكاء خلاق": لقد تجمعت المادة على نحو أشد فأشد تعقيدا في كواركات وذرات وجزيئات بسيطة فمركبة، ثم أنشأت، قبل وجود أي كائن حي، لغات حمض نووي فائقة التعقيد وبروتينات، وتم تجميع كل هذا لكي يظهر أول كائن عضوي حي وحيد الخلية؛ كلا لا يمكن أن يحدث هذا لولا وجود رب خالق. 

 

القسم الثاني من الكتاب

الدلائل على وجود الله المستقاة من خارج العلم

في هذا القسم محاولة للتدليل على وجود الله من خارج المجال العلمي. إذ ثمة ظواهر في الكون ليس يمكن بأي حال من الأحوال أن نجد لها تفسيرا عقليا ومعقولا إذا ما نحن افترضنا أنه لا وجود اللهم إلا لكون مادي. وهنا ينهل المؤلفان دلائلهما من تراثهما الديني؛ بحيث يحاولان الإجابة عن التساؤلات التالية: ما مصدر حقائق التوراة التي لا يمكن تفسيرها؟ ترى، من يكون يسوع المسيح: أحكيم هو أم مغامر فاشل أم نبي؟ وهل يمكن تفسير مصير الشعب اليهودي تفسيرا طبيعيا أم أنه يشهد على "معجزة"؟ ما الذي حدث في كرامة قرية فاطمة البرتغالية التي ظهرت فيها السيدة العذراء في السماء وشهد الكل على رؤيتها: أَوَ كانت هي وهما أم خدعة أم أمارة ربانية؟ هل يقبل الخير والشر أن يتحددا من لدن الإنسان بلا حد؟ ما طبيعة الحجج الفلسفية على وجود الله؟ 

وهكذا، يتساءل المؤلفان: كيف لشعب غامض وفقير أن يحمل حقائق كبرى إلى العالم لو لم تكن هي حقائق منزلة؟ وهي: ما الشمس والقمر إلا جسمين نورانيين. العالم مخلوق من لا شيء وله بداية. سوف تكون للكون نهاية. الإنسان مركب من مادة. لا وجود لأرباب لا في النجوم ولا في الأنهار ولا في العيون ولا في الغابات. كل البشر ينحدرون من أصل واحد؛ بما يوجب مساواتهم. ما الملوك والأباطرة إلا بشر. ما خُلق العالم دفعة واحدة وإنما على تدرج. في عملية الخلق ظهر الإنسان هو الآخِر. كانت هناك سلالات بشرية أخرى انقرضت. إنما علم التنجيم والطقوس السحرية التي آمنت بها سائر الشعوب شعبذات. أكثر من هذا، ما كانت "أغلاط التوراة" أغلاطا وإنما نحن من لم يفهم مجازات التوراة التي لا يمكن أن تفهم على حرف: خلق العالم في سبعة أيام بدل 13 مليار سنة، في البدء خلق الرب السماء والأرض بينما لم تخلق الأرض إلا بعد 9 مليار سنة بعد الانفجار الأعظم، خلق النور بداية ... كما أننا نسبنا إلى التوراة ما لا يوجد فيه: انبساط الأرض. ثم يأتي المؤلفان إلى بيت القصيد: الحديث عن "سر" الشعب اليهودي الذي يعتبره المؤلفان الشعب الوحيد الذي فقد أرضه بالكامل واستردها بعد 18 قرن، وهو الشعب الوحيد الذي بعد أن ضيع لغته ثم أحياها بعد 2500 عام، والشعب الوحيد الذي يحيط به أعداؤه وصمد، والشعب الفريد الذي الجميع عنصري ضده، ومع ذلك الشعب الاستثنائي الذي توفر له هذا العدد الهائل من المفكرين والعلماء! كل هذا ينهض، في رأي المؤلفين، حجة على وجود الله، وعلى أن الله يتدخل في التاريخ! ثم يتساءل المؤلفان عن سر ظهور السيدة مريم العذراء قرب قرية فاطمة بالبرتغال (13 أكتوبر 1917) في حوالي منتصف النهار في ضيعة شبه مهجورة بالبرتغال بعد أن تنبأ ثلاثة أطفال أميين بظهورها في السماء في ذاك اليوم. وجواب المؤلفين أن هذه معجزة تنهض على وجود الله!  

 

القسم الثالث

في هذا القسم يروم الباحثان الحسم مع كل الاعتراضات الشائعة على وجود إله خالق؛ شأن حجة عدم وجود الله إذ لو احتاج الأمر إلى وجود حجة عليه لما وجد حقا، وحجة أن وجود الرب غير ضروري لتفسير الكون، وحجة أن التوراة ما كان سوى حديث خرافة يعج بالأغاليط، وحجة أنه ما تولدت عن الأديان سوى الحروب، وحجة أنه لو كان الله موجودا حقا، كيف نفسر وجود الشر في العالم؟ في رده على المؤلفين، يذهب فيلسوف العلم الفرنسي إيف كلاين إلى أن ادعاء إثبات وجود الله إثباتا علميا إنما يدل على نوع من "السذاجة"؛ أولا اتجاه الرب نفسه؛ لأنه لَئِنْ صار وجوده ثمرة منهج علمي؛ أي رهينة لبحث عقلي يقوده مجمع باحثين، فإن في ذلك إساءة إلى هيبته؛ بحيث لن يصير مقامه اللهم إلا مقام معرفة؛ بينما يمثل الله بالنسبة إلى المتدينين أكثر من موضوع معرفة، بل هو موضوع محبة وعبادة. وسوف يكون "هذا السقوط الأنطلوجي" لا مجرد "موت للإله"، على الأقل إله الدين أو الإيمان، لأن هذا يفترض أن الله ما كان، قبل هذه الاكتشافات، إلا كائنا تملأ به ثقوب المعرفة البشرية. وثانيا، إساءة اتجاه العلم؛ لأن هذا المجال يقع خارج نطاق حقل العلم وبحوثه؛ مما يجعل العلم يَتَطَوَّس ويدعي حسم كل الإشكالات التي تطرح علينا، بما فيها تلك الإشكالات غير العلمية.   

ينتهي الكتاب بنوع من تمجيد النفس غريب؛ حيث ينشئ المؤلفان القول: دلائل هذا الكتاب حديثة، بينة، عقلانية، مستقاة من تخصصات متعددة، متنوعة ... لا واحد منها أمكن وجوده حتى القرن 20. ومعنى هذا، عند المؤلفين، أن ما تحقق من تدليل على وجود الله في زماننا هذا أمر هائل يضعنا على أعتاب "ثورة جديدة". والحال أنه بالنظر إلى "دلائل" هذا الكتاب، يبدو لي أن كل "الحجج" و"الشبه" مباحة عند المؤلفين، بغاية مواجهة المستهدف من هذا الكتاب بأكمله: ما يسميانه "المادية". وهذا يذكرني بالمتكلم أبي القاسم الوسياني وتناظر زوجته وتلميذه في مسائل علم الكلام. فقد ذكر التلميذ أنه كان في أيام قراءته على الشيخ حضر يوما إلى منزله، فوجده راقدا، وطفق يتناظر هو وزوج الشيخ في مسألة من علم الكلام، فلما أفاق الشيخ قال له التلميذ: هل سمعت ما نحن فيه؟ قال: نعم سمعتكما تتراميان بالخزف؛ يريد ضعف جحجهما في المناظرة. كذلك هي دلائل هذا الكتاب: أشبه شيء تكون برمي المؤلفين النفاة بالخزف.

 

تفاصيل الكتاب:

عنوان الكتاب: الله، العلم، الدلائل (فجر ثورة)

المؤلفان: ميشيل-إيف بولوري وأوليفييه بوناسي

دار النشر: غي تريدانييل/ باريس

سنة النشر: 2021

أخبار ذات صلة