ماركوس هول ودان تامور
محمد بن علي الإسماعيلي*
ثمة تبعيات عديدة تربط بين صحة الإنسان والأنظمة الطبيعية التي يعيش فيها، تبرز في كثيرٍ من الدراسات البيئية والنفسية والاجتماعية والفلسفية؛ لإيجاد توازنٍ نحو توطين طرق أفضل للعيش في هذا العالم الطبيعي. وتبرز في هذا السياق إحدى الدراسات الحديثة التي تُناقش مستقبل التعايش المنسجم بين الإنسان والبعوضة، التي تعد أكثر الحيوانات فتكاً بالبشرية على مرّ السنين؛ لما تسببه من أمراض خطيرة، مثل: نقل الملاريا والحمى الصفراء وزيكا، في وفاة مليون شخص كل عام تقريباً، إلّا أن علماء الطبيعة وعلماء الاجتماع وعلماء الإنسانية أكدوا أن بضع عشرات فقط من البعوض من بين 3500 نوع تشكل خطرا على النوع البشري.
إن كتاب (البعوض: مكان الآفات في عالم صحي) لمؤلفيه ماركوس هول، وهو مؤرخ بيئي وأستاذ في جامعة زيورخ السويسرية، وباحث في استكشاف العلاقات الإنسانية المتغيرة مع العالم الطبيعي، ودان تامور، وهو مؤرخ بيئي وباحث مشارك في جامعة زيورخ، ومتخصص في دراسات الدوران العالمي والتكيفات المحلية للأيديولوجيات والأنواع والموارد، بالإضافة إلى تعاونه في المجال السياسي العالمي لاستهداف الأمراض التي ينقلها البعوض في القرن الماضي. يطرح الكتاب عددا من التساؤلات فيما إذا كانت هناك للبشر والبعوض سبلٌ لتعلم العيش بسلام مع بعضهم، أو السيطرة على البعوض والقضاء عليه بقتله، مع توضيح العواقب المحتملة لكلا التوجهين الموضوعين؛ وعرض رؤى جديدة مستنيرة للخبراء الرائدين في مجالات الصحة والبيئة وحقوق الحيوان.
يُصنف كتاب (البعوض: مكان الآفات في عالم صحي) الصادر عن دار النشر البريطانية متعددة الجنسيات "روتليدج" أحدث أعمالها في العام الجاري 2022م في مجال النشر الأكاديمي. وقد قاد الانتشار الكبير لمرض الحمى الصفراء، حتى مع تراجع أعداد المصابين بالملاريا، رغم أن أكثر من نصف سكان العالم لا يزالون معرضين لهذه الأمراض وغيرها من الأمراض الخطيرة التي ينقلها البعوض، التي تشمل أيضًا حمى الضنك وغرب النيل والشيكونغونيا وزيكا، قاد المؤلفين ومجموعةً من العلماء المتعاونين في علوم البيئة والحشرات، إلى البحث في كيفية القضاء على المعاناة والألم القابع في حاضر البشرية ومستقبلها؛ وذلك بسبب ما ينقله البعوض، أو السيطرة عليه على أقل تقدير. كما يشير المؤلفان إلى احتمالية تطوير علاقة صحية مع هذه الحشرة، تسمح بخلق حالة وئام مع الإنسان؛ وذلك لعدد من الأسباب، أبرزها أننا نحارب الأمراض وليس البعوض؛ لذا توجد هنالك استراتيجيات أخلاقية أكثر فاعلية من إبادة هذا الكائن الصغير، مثل: تطوير الأدوية واللقاحات من طريق التخصصات والأبحاث الموسّعة، والسيطرة على البيئة من طريق المحافظة على نظافتها وديمومة مواردها الحيّة، وتطبيق المبدأ الوقائي على نطاق أوسع وأشمل بين مختلف درجات المجتمعات؛ لذا نادت العلوم الإنسانية البيئية إلى فحص مشروع مكافحة البعوض من زوايا وأبعاد عدة؛ فيما إذا كان ممكنًا تقنيًا ومتوافقًا بيئيًا ومعقولًا أخلاقياً الشروع في حملات إبادة هذه الحشرة.
وتُعد أنماط السلوك التي يُظهرها البعوض مُعقدة ومدفوعة بأنظمة حسيِّة تتكيف مع البيئات التي يسكنها والمنافذ البيئية التي يستغلها؛ وذلك وفقاً لما جاء في دراسة بحثية قدمها عالم الأحياء الهولندي نيكولاس تينبرغن عام 1963م، مشيرا إلى أنَّ دورة حياة البعوضة، وعلم التشريح، وعلم وظائف الأعضاء والسلوك، تجعل هذا المخلوق الفريد موضوعًا استثنائيًا للدراسة، حاسمة في ذات الوقت للثقافة البشرية على مختلف المستويات. وقد استعان المؤلفان بمجموعة كبيرة من الأبحاث لفهم آلية انتشار الأمراض التي ينقلها البعوض، وتوجيه تطوير أساليب مكافحة البعوض وتلك الأمراض. وخرج الباحثان إلى أن إحدى النتائج الرائعة لتلك المجموعة البحثية هي الكشف عن بيولوجيا معقدة تظهر سمات سلوكية وتشريحية وفسيولوجية للبعوض. ويُشير الكتاب إلى بعض الجوانب الأقل شيوعًا في بيولوجيا البعوض التي تُظهر بالفعل تفاعلات حيوية أكثر تعقيدًا من تلك الخاصة بآفات بسيطة تمتص الدم وتنقل المرض. رغم أنَّ الدراسات بدأت حديثاً في الكشف عن بعض سلوكياتها الأكثر غموضًا، لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به، فقد طوّرت آلاف الأنواع من البعوض تكيفات بيولوجية رائعة ومعقدة لتوليد سمات سلوكية وبيئية متنوعة لا تزال غير معروفة في أروقة العلم. وتعد أنشطة البعوض في النظام البيئي متطورة ومتخصصة، وهي في الواقع أكثر تعقيدًا من بين العديد من الكائنات الأخرى. وقد تكشف دراسة بيولوجيا البعوض عن أسرار كيميائية حيوية وتشريحية وسلوكية قد لا تثري فهمنا للطبيعة فحسب، بل تُصبح أيضًا مصدرًا للإلهام الحيوي في العلوم والتقنيات المستقبلية، أبرزها قد يكمن في تصميم إبر مجهرية خالية من الألم.
ركّز الكثير من الدراسات على الأمراض التي ينقلها البعوض؛ عندما كانت مسألة بقاء الإنسان على قيد الحياة والانقراض غير البشري بارزة لعقود عديدة، والعلاقات بين الإنسان والبعوض خاصة في غرب القارة الإفريقية، وكشفت دراسات مرجعية أخرى في الوقت نفسه عن الحركة النشطة التي امتاز بها البعوض في ظل توسع العولمة والمناخ الدافئ. وأشارت الدراسات إلى أن العديد من تدخلات مكافحة البعوض في الماضي ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بسياسات التوسع الإمبريالي والاستعماري؛ لذا سعى الباحثون إلى اكتشاف أكثر الأساليب ملاءمة لفهم ارتباط حركات الإنسان والبعوض معاً، فقد أظهرت الحقائق المرونة والقدرة الهائلة للبعوض في التكيّف مع الظروف الجغرافية والمناخية المختلفة والاستفادة من البيئات والبنى التحتية التي يصنعها الإنسان؛ مما أدى إلى انتشاره الواسع، الذي بدوره دفع المتخصصين لتكثيف التعاون المنهجي الوثيق متعدد التخصصات بين علماء الحشرات وعلماء الاجتماع والتقنيين والمجتمعات نفسها، سعيا للجمع بين خيوط البحث في كيفية تنقّل الإنسان والناقل والفيروس في آنٍ واحد.
ثمة مخاوف بيولوجية ضارة أثارها مراقبو البيئة بصدد تحديث أدوات جديدة لمكافحة البعوض في السنوات الأخيرة، مثل إطلاق البعوض "العقيم" أو "المعدّل وراثيًا"؛ لمنع انتقال المرض؛ إلا أن هذه الأساليب أثارت جدلا واسعا مسّ قضايا أخلاقيات البيئة، محفوفا بالمخاطر والعواقب على نطاق إقليمي وعالمي؛ لذا كان السعي لاستهداف تقليل أعداد ناقلات الأمراض هذه بدلاً من القضاء عليها. كما كان للحركة البيئية رأي آخر تجاه تدمير الطبيعة واستطلاح الأراضي الرطبة؛ لذلك سعى علماء البيئة إلى حظر المبيدات الحشرية الاصطناعية الكيميائية حتى لمكافحة الأمراض؛ باعتبارها ملوثات عضوية ضارة بالبيئة على المدى البعيد.
وقد سجّل مراقبو البيئة عددا من أنواع البعوض التي تفضّل البيئات المعدلة من قبل الإنسان، تتراوح بدءا من المستوطنات الزراعية الصغيرة مرورا بالمدن الكبرى الحضرية. وعلى الأرجح ستعمل المجتمعات البشرية على جذب البعوض بمجرد وجودها؛ تحديدا في البيئات المبنية والأراضي الرطبة، وقد سمحت تأثيرات: العولمة والتنمية الحضرية والنمو السكاني البشري وتغير المناخ؛ بتوسّع الحدود البيئية للبعوض لتندمج مع المجتمعات البشرية؛ إذ شهد النصف الثاني من القرن العشرين نموا كبيرا في أعداد البعوض عبر حيّز جغرافي واسع النطاق. وقد يصبح أمر التعامل أو التعايش مع البعوض واقعاً لا بديل عنه؛ بل سيكون واقع التعامل مع مكافحته محتاجاً إلى نهج أكثر حذراً؛ طالما استمر البشر في تغيير الأراضي البرية واستصلاح الغابات؛ بل إن التغييرات في التخطيط الحضري وإدارة الأراضي الريفية قد تكون أفضل طريقة لتقليل هذه الحشرات الحاملة للأمراض مع مرور الوقت.
لماذا كان من الصعب إعادة تشكيل الصحة العامة في مكافحة ناقلات الأمراض باستعمال الأساليب البيئية والبيولوجية والاجتماعية المناسبة؟ تبرز العناية بطرق العيش الاجتماعي، مثل: تركيب أنابيب المياه، والنوافذ وفتحات التهوية المغطاة، وضمان جمع القمامة بانتظام؛ طرقا حيوية فاعلة لدرء البعوض وأمراضه التي ينقلها؛ لذا كانت دعوات تحسين الإسكان والظروف الاجتماعية والاقتصادية أولوية قصوى للسيطرة على تلك الأمراض. فيما كان لدولة البرازيل المنتمية لقارة أمريكا الجنوبية، تجربة بارزة في هذا المجال، فقد أرسلت نحو 220 ألف جندي إلى الأحياء البرازيلية للتعامل مع زيكا؛ بيد أنه عُدّ لاحقاً تمرينًا في العلاقات العامة أكثر من كونه مشروعًا مدروسًا للصحة العامة؛ فحكم على أن أسلوب تلك الحملة المكافحة لناقلات أمراض البعوض في المجتمع بأنها غير ناجحة بشكل عام؛ لذا يستوجب إعادة تشكيل استراتيجيات حديثة تعمل على مكافحة البعوض في البرازيل.
تدور الفكرة العامة المهمة في هذا الطرح الذي يقدمه الكتاب على المنظور الأخلاقي البيئي الذي قد يحدد آلية تقليل العبء الصحي للأمراض التي ينقلها البعوض؛ سواء أكان باستئصاله أم الحد من انتشاره بطرق متعددة؛ وذلك حتى لو كانت لدينا أسباب جيدة جدًا للدفاع عن صحتنا وحمايتها من الأوبئة والأمراض على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وإن تمكنَّا من تحصيل مطالب أخلاقية مقنعة ترى أننا بحاجة إلى القضاء على أنواع معينة من البعوض بأفضل ما لدينا من قدرات للحفاظ على الصحة العامة، إلا أنَّ القيام بذلك يتطلب إدراكًا بأن شيئًا ذا قيمة أخلاقية سيضيع، وهو خسارة نوع من أنواع الحشرات، في الجانب المقابل نجد أن نظرية أخلاقيات البيئية ترفض مثل هذه الخسارة؛ سعياً منها إلى تحقيق التوازن البيئي.
وقد حاولت البشرية السيطرة على نواقل مسببات الأمراض في البيئة الطبيعية؛ للوصول إلى نقطة تمكّن الناس والبعوض معاً من تحقيق توازن مستدام ومقبول يحافظ في نفس الوقت على صحة الإنسان ويحمي البيئة، مع توصيات علمية حثيثة بأهمية تعلّم المجتمعات الكيفية الصحيحة التي يتكيفون فيها مع عاداتهم وبيئاتهم الحضرية لتقليل تعرضهم للبعوض المسبب للأمراض الخطيرة؛ إذ قامت دعوات ذات مناهج هادفة للحد من انتقال أمراض البعوض في المناطق الحضرية لعقود من الزمن، ولكن جاء تطبيقها بشكل غير متساوٍ بسبب تكاليفها العالية، والقدرة البشرية المحدودة، واللامبالاة المجتمعية، وضعف الإرادة السياسية اللازمة للحفاظ على هذه الجهود في فترات انتشار الوباء.
في الجانب المُقابل، تلعب السياسات التقنية المتنافسة في استبدال محركات الجينات الوراثية دورًا في محاولة القضاء على ناقلات الحشرات أو إعادة تشكيلها؛ إلّا أنها -رغم بحثها عن طرق مغايرة للعيش مع البعوض- تمثّل توجهات سياسية وأخلاقية مختلفة للتحديات التي تطرحها نواقل البعوض، فقد تختلف في آثارها السياسية والاجتماعية والبيئية والصحية المستقبلية، وتهدد الدوافع الجينية من جميع النطاقات بتمزيق التوازن البيئي للبعوض في الطبيعة. كما أن إجراء البحث والتطوير على البعوض المعدل جينيا/وراثيًا من قبل مختبرات الشمال العالمي؛ أي في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول أوروبا، بعيد جدًا عن مواقع إطلاقها المزمع في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية التي تعاني من ناقلات أمراض البعوض؛ مما يُمثّل إزعاجاً حقيقياً لكيفية توزيع سلطة اتخاذ القرار سياسيا واقتصاديا واجتماعياً وتعليمياً.
ويختم المؤلفان الفصل الأخير من كتاب (البعوض: مكان الآفات في عالم صحي)، بالإشارة إلى أنَّ الأمراض التي ينقلها البعوض تمثل تهديدًا رئيسًا للصحة العامة لحالة الطوارئ العالمية القادمة؛ لذا تتطلب أقصى قدر من الاهتمام. وفي الوقت نفسه، أصبح الحفاظ على التنوع البيولوجي تحديًا اجتماعيًا وبيئيًا كبيرًا يتطلب اتخاذ إجراءات فورية، مع واحدة من أكثر الخطوات إلحاحًا تتمثل في الهروب من عصر المبيدات الحشرية لحماية طعامنا وصحتنا وبيئتنا. وضع المؤلفان عددا من الإجراءات الوقائية المهمة، هي: (1) عند التعامل مع البعوض الناقل للأمراض البشرية الرئيسة، يتعامل المرء مع جزء صغير جدًا من التنوع البيولوجي الكلي للبعوض ويعتمد على سمات بيئية محددة جدًا. (2) يرتبط هذا التجمع المحدد بأنواع البعوض ارتباطًا وثيقًا بالبشر ويعتمد عليهم؛ لذلك علينا الآن أن نتعلم كيف نستفيد من هذا الارتباط الوثيق، فلم يعد القضاء على البعوض نتيجة متوقعة أو حتى نتيجة مرغوبة، بدلاً من ذلك، فإنَّ الاعتراف به جزء لا يتجزأ من بيئتنا المباشرة يدفعنا إلى التزامنا طويل الأمد بحسن إدارة الأزمة، التي تحتاج إلى برامج عصرية لمكافحة النواقل؛ كي تتحول إلى استراتيجيات لإدارة البعوض لتحقيق الاستدامة في التخفيف من مخاطر الأمراض مع المساعدة في الحفاظ على التنوع البيولوجي وتحسين أداء النظام البيئي محليًا وإقليميًا وعالميًا.
نستطيع أن نلخص هذا الموضوع فيما لو نظرنا إلى هذا الكتاب على أنه يقدم فرضيةً فيما إذا كان من الممكن تخيّل عالم خالٍ من البعوض ... بكل تأكيد يستحيل ذلك؛ إذ إن الاستراتيجية المتبعة للقضاء على البعوض من كوكب الأرض لن تحقق مآربها؛ فعلى حد وصف أستاذ الصحة العامة الأستاذ الدكتور أندرو سيبلمان، فإن البعوض أذكى من البشر، وسيبقى على قيد الحياة لسنوات قادمة، وهو يتكيّف جيدًا مع هذه الحالة العابرة وغير المستقرة؛ لذا سوف يزدهر البعوض في هذا النظام البيئي كما فعل لملايين السنين. وفي ذات الإطار، لا نجد اختلافا في كيفية التعامل مع البعوض عن كيفية معالجتنا للنزاعات الأخرى بين الإنسان والحياة الطبيعية؛ وبافتراض ذلك يمكن للمرء أن يتخيل أن البعوض جزء لا يتجزأ من هذه الحياة؛ إذ يؤيد الكتاب نظرية تعلّم العيش مع الآفات والأعداء في عالم طبيعي واسع ومتباين؛ وذلك بعيدا عن الأفكار التي اتجهت نحو إنفاق موارد عالية الثمن لتسخير التكنولوجيا والتقنيات للقضاء على البعوض تعزيزا للنظام الصحي العالمي.
تفاصيل الكتاب:
عنوان الكتاب: (البعوض: مكان الآفات في عالم صحي).
المؤلفان: ماركوس هول ودان تامور.
اللغة: الإنجليزية.
عدد الصفحات: 290.
سنة النشر: 2022م.
دار النشر: روتليدج.
*محرر وباحث عماني
