الحياة على الحافّة

لحياة.jpg

كارل زيمر

طلال اليزيدي

في الوقت الراهن ومع تقدم العلم والتكنولوجيا، يفترض الجميع أننا تمكنا من الوصول إلى مرحلة نفهم فيها الحياة، ولكن كلما اكتشف العلماء المزيد عن العالم الحي -من الخلايا الأولية إلى أدمغة الكائنات المعقدة، ومن خلايا البويضات الملقحة إلى الفيروسات الوبائية- واجهنا صعوبة في إيجاد حدود لتعريف الحياة. كارل زيمر Carl Zimmer في كتابه "الحياة على الحافة" يحقق في أحد أكثر الأسئلة حيرة وشهرة على الإطلاق، حاول المفكرون الإجابة عليه على مدى التاريخ: ما هي الحياة؟ 

في مستهل الأمر، تبدو الإجابة واضحة حتى أن تبدأ بالتفكير والإجابة عليه بجدية. يعد كتاب "الحياة على الحافة" تحقيقًا رائعاً لا يتمكن أحد من صياغته إلا واحدًا من أشهر وأمهر الكتاب العِلْميين في جيلنا. كارل زيمر كاتب عِلْمي مميز يكتب في العديد من المجلات والصحف العالمية، نشر ما يقارب الثلاثة عشر كتابًا علمياً وحصل على العديد من الجوائز الدولية والعالمية عن مؤلفاته. الكاتب كارل زيمر يقوم برحلات عبر التجارب الغريبة التي حاولت إعادة خلق الحياة. توجد مئات المحاولات لإعادة خلق حياة بأي شكلٍ من الأشكال، ولكن لم يظهر أي من هذه المحاولات كفائز واضح. 

 

يبدأ كتاب كارل زيمر بقصة تجربة الفيزيائي جون باتلر بيرك John Butler Burke البالغ من العمر آنذاك 31 عامًا، والذي كان يعمل في مختبر كافنديش Cavendish Laboratory في جامعة كامبريدج. صنع باترك بيرك في خريف عام 1904 مرقًا من قطع لحم البقر المسلوق في الماء. أضاف إلى هذا المزيج من الماء واللحم كمية من الراديوم، العنصر المتوهج بالطاقة المشعة المكتشف حديثًا حينها، ثم انتظر طوال الليل. في صباح اليوم التالي، كشط عن الحساء المشع، ولطخ طبقة على شريحة زجاجية ووضعها تحت المجهر. رأى أشواكا من مادة مُلتحمة أسماها "المشعات" Radiobes تشبه في عينيه أكثر أشكال الحياة بدائية. بيرك كان مقتنعًا بأنه قد حقق اكتشافا كبيرا. تم الإعلان عنه باعتباره تقدّمًا هائلاً في الصحف والمجلات العلمية. كتب عن اكتشافه لاحقًا: "من حق المشعات أن تُصنَّف بين الكائنات الحيَّة". في شهر ديسمبر من نفس عام التجربة 1904، اجتمع علماء الفيزياء من كافنديش للاحتفال بإنجاز بيرك وهنأوه على اكتشافه المذهل. 

 سقوط بيرك من شهرة الاكتشافات والإنجاز كان سريعًا مثل صعوده. في وقت لاحق، تبين أنَّ "المشعات" ليس لها علاقة تذكر بالمواد الكيميائية الحية أو الحياة على العموم. لكن لسوء الحظ كان بيرك مقتنعًا بأنه اكتشف حياة اصطناعية وتوقع أن اكتشافه سوف يلقي الضوء على أصول الحياة. لاحقاً، تجربة بيرك (صنع الحساء، وخلطه بمادة إشعاعية، ثم إضافة الماء فقط) تحولت من اكتشاف مذهل إلى طرفة علمية سخيفة. المجتمع العلمي لاحقًا تجاهل هذه القصة تمامًا، ونجم البيولوجيا العابر باترك بيرك أصبح في نهاية المطاف من الطرائف العلمية. قصة اكتشاف بيرك أصبحت النسخة الحديثة لقصة الكيميائي في العصور الوسطى الذي كان مقتنعًا ذات مرة بأن خليطًا من السائل المنوي واللحوم المتعفنة محتضنة في حفرة دافئة، يمكن أن تشكل بشكل عفوي إنساناً صغيرا في الحجم. يبدأ زيمر كتابه الأنيق المفصل بعمق بقصة بيرك لتذكيرنا بأن الأساطير حول أصل الحياة، على مدى قرون سلفت أبهرت المفكرين وأذهلتهم، وأحيانًا أربكتهم. يتطرق الكتاب إلى الإجابة عن أصعب الأسئلة وأكثرها حيرة: ما الحياة؟ وكيف بدأت؟ وما المعايير التي يجب أن نستخدمها لتعريف شيء ما على أنه "حي"؟

 

على غرار الطرائف العلمية، الموضوع السائد في القسم الأول من كتاب زيمر هو تعريفات الحياة التي نشأت من عقول مفكري القرن التاسع عشر كالتمثيل الغذائي، والوعي، والتوازن، والتطور، أوصاف فيزيولوجية تتعامل بالكامل مع العمليات البيولوجية، تفسر الحياة بشرح آلية عمل الحياة. في الأربعينيات من القرن المنصرم، بدأ ظهور إحساس جديد يعرّف الحياة. غالبًا ما يُعزى هذا الإنجاز العلمي إلى كتاب صغير سجل كلمات محاضرة للفيزيائي إروين شرودنجر Erwin Schrödinger في عام 1944. لكن جذور هذه الثورة العلمية أكثر تعقيدًا من أن تعزى إلى تلك المُلاحظات، فقد أدت الحرب العالمية الثانية والسياسة المرعبة التي صاحبتها إلى إجبار مجموعة من العلماء الفيزيائيين والكيميائيين على وجه الخصوص على الهجرة من أوروبا إلى المملكة المتحدة والأمريكيتين. الهجرة الجسدية هذه كانت مصحوبة بهجرة فكرية أيضًا؛ فالعلماء المهاجرون استكشفوا الأحياء في القارة الجديدة، وطرحوا سؤالًا جديدًا لتفسير الحياة: هل يمكننا التفكير في الحياة كمجموعة من الجزيئات والتفاعلات الخاصة؟ في عام 1944، تحدث الفيزيائي إروين شرودنجر عن هذه الأفكار في محاضرة في دبلن، وفي النهاية صقل أفكاره في كتاب، "ما الحياة؟".

في كتابه، جادل شرودنغر بأنه لمعرفة أساس الحياة يجب أن نفهم كيف يتم تشفير المعلومات البيولوجية ونقلها وإعادة إنتاجها. تنبأ شرودنغر بعمق أن معلومات الحياة يتم نقلها في جزيء بيولوجي، يمكن أن يوفر "نصًا برمجيًا" لبناء كائن حي بأكمله، هذا الجزيء بالطبع يعرف حاليًا بالحمض النووي DNA. يشير زيمر إلى أنَّ علم الأحياء الجديد لم يعد متعلقًا بوصف كيفية تكُّون الحياة، بل يتعلق بآلية عمل الحياة. كتب كريك كتابه الخاص كنوع من الإجابة على كتاب إروين شرودنجر، الذي على الرغم من انتقاده بكونه مفرطًا في تبسيط علم الأحياء، تم الإشادة به أيضًا لوضعه بيانًا جديدًا. تطرق زيمر في كتابه إلى التعريفات المشهورة في تفسير الحياة المتعلقة بآلية عمل الحياة. أحد التعريفات الواضحة للحياة، وفقًا لفرانسيس كريك -عالم حاصل على جائزه نوبل سنسرد قصته لاحقا ً في هذا المقال- ينص على "أنها ظاهرة ثانوية للفيزياء والكيمياء معقدة لكنها لا تزال قابلة للتفسير من الناحية الجزيئية". في اجتماع ناسا في عام 1992، التقط العلماء هذا التعريف الجديد للصورة الكبيرة في تعريف الحياة في جملة: "الحياة عبارة عن نظام كيميائي قائم بذاته وقادر على الخضوع للتطورات الداروينية".

 

زيمر في كتابه كان بارعًا بشكل خاص في سرد ​​قصة الحمض النووي DNA. يعيدنا إلى كامبريدج، حيث التقى العالم الفيزيائي الحالم فرانسيس كريك Francis Crick البريطاني بعالم بيولوجي أمريكي مفعم بالحيوية اسمه جيمس واتسون James Watson. في عام 1951 تقابل العالمان في جامعة كامبريدج، وكان جيمس واتسون سعيدًا بالحديث عن الحمض النووي مع كريك لساعات متتالية. فاز الثنائي بجائزة نوبل بعد أن تمكّنا من تحديد الهيكل الحلزوني المزدوج لDNA. يلخص زيمر قصة الاكتشاف بحذر، خاصةً الدور الرائع لروزاليند فرانكلين Rosalind Franklin التي كانت تعمل بدقة على الحمض النووي وعلى وشك اكتشاف هيكله. اطلع واتسون على صور الأشعة السينية الخاصة بها التي تظهر الهيكل الأيقوني الحلزوني المزدوج للحمض النووي الـ DNA. زيمر في سرده لهذه القصة المثيرة للجدل حريص على ملاحظة أن اكتشافات روزاليند كانت مجرد بداية، وليست النهاية، لفهمنا للحياة. لسوء الحظ، لم تحصل فرانكلين على التقدير الكامل لعملها؛ لأنه بحلول الوقت الذي مُنحت فيه جائزة نوبل لفك تشفير بنية الحمض النووي، كانت قد ماتت بسبب سرطان المبيض. اكتشاف بنية الحمض النووي كانت مجرد مقدمة لفهمنا للحياة. بعد هذا الاكتشاف واصل كريك، وواتسون، وسيدني برينر، وماثيو ميسلسون، وفرانك ستال، ومارشال نيرنبرغ، من بين آخرين كثيرين من العلماء، مهمة فك شفرة كيف يؤدي "نص الكود" المكتوب في جزيء الحمض النووي إلى كيفية "حدوث" الحياة وكيف تتكاثر هذه الجزيئات الوراثية، وكيف يتم نقل هذه الجزيئات الوراثية بين الأجيال. 

يُطعّم زيمر كتابَه بالقصص التي تثقف القارئ وتُبهره. أثناء سرده يتنقل جغرافيا؛ فتجده على شاطئ في لا جولا -شاطئ بولاية كاليفورنيا الأمريكية- ينظر إلى عشب البحر، وهو نوع من الطحالب اسمه kelp ذو حجم كبير، ويتساءل عما إذا كان يمكن عده من بين الأحياء. ثم ينتقل إلى المختبرات حيث العلماء يبتكرون أدمغة صغيرة محاكاة للأدمغة البشرية الحقيقية من الخلايا العصبية المتمايزة، القادرة على الانقسام والتخصص في وظائف عصبية محددة. يتساءل زيمر إذا ما كانت الأدمغة المبتكرة هذه قادرة على التفكير والحلم والإحساس؟ يعتبر زيمر أن القدرة على الإحساس هي التي تمكّن الكائن بالشعور بالحياة والعالم من حوله وفقدان كل الحواس أشبه بالموت. لكن الإحساس نفسه لا يمكن أن يكون كافياً لتفسير الحياة. زيمر يناقش أنه الآن يوجد لدينا آلات وروبوتات يمكنها محاكاة هذا النوع من الوعي والإحساس، حتى لو لم يتواجد هذا "الإحساس" في الكائن حي. فعلى الصعيد البشري مثلاً، الآلات تمكّن فاقدي السمع من السماع مجدداً، وتمكّن فاقدي الأطراف من التحكم بأطراف صناعية مربوطة بجهازهم العصبي. 

 

يناقش زيمر أننا ربما نطرح السؤال الخطأ بتعريف الحياة، ويتساءل: ما تفسير الحياة في مقاومة الموت؟ إحدى علامات مقاومة الموت هي التمثيل الغذائي. التمثيل الغذائي "الأيض" هو تحويل المادة إلى أشكال جزيئية للطاقة، وتحويل الطاقة الجزيئية لتغذية النمو. التمثيل الغذائي أمر بالغ الأهمية لجميع الكائنات الحية للنمو والازدهار. يسرد زيمر بعض الحقائق عن ثعابين البايثون المخبرية التي تظل في حالة استقلابية قليلة -نشاط التمثيل الغذائي يقل بشكل ملحوظ- حتى يتم إطعامها، ثم تكثف النشاط في أنسجتها، وهذا التغيير من حالة الراحة إلى حالة ما بعد الأكل عند البايثون ليس له مثيل في عالم الفقاريات. ينتقل زيمر إلى أعماق كهف من الخفافيش ليكتشف سمة أخرى من مميزات الحياة في التوازن والحفاظ على الثبات. يناقش الخفافيش صغيرة الحجم التي تزن بقدر ما يزن ظرفًا فارغًا. تدخل الخفافيش حالة من السبات خلال فصل الشتاء، بالاختباء في الصخر وتستخدم التوازن الحراري الخاص بالكهف لدعم توازنها الحراري، ويحتفظ الكهف بدرجة حرارة متساوية نسبيًا بسبب قلة التبادل الجوي مع العالم الخارجي، فتبقى صخور الكهف دافئة نسبياً، مثلها مثل الخفافيش. عندما يحين الربيع، وتضطر الخفافيش إلى الطيران، فإنها تتوازن مع هبوب الرياح لتوفير طاقة الطيران وتحافظ على مكانها في الجو. يذكر الكاتب قصة زيارته لمختبرات العلماء الذين يخزنون أبواغ فطريات العفن لتجارب مستقبلية. هذه الأبواغ ميتة بكل المعايير، فنشاط الاستقلاب منعدم وكذلك الإحساس، لكن مع إضافة القليل من الماء إلى هذه الأبواغ تدب فيها الحياة من جديد، فتنمو الأبواغ إلى فطريات العفن وبمجرد أن تكون هذه الفطريات على قيد الحياة، يمكنها أن تخترق متاهات وتصل إلى تحت الصخور وتجد مصادر للسكر والماء. 

 

في القسم الأخير من الكتاب، يتحول زيمر إلى الفيروسات. في إشارة إلى فايروس كورونا المستجد كتب: "قطعة من الحمض النووي الريبي، معبأة داخل غلاف جزيئي، استولت على الكرة الأرضية وتسببت في جائحة، وقلبت العالم رأسًا على عقب". تحليله لعلم الفيروسات موجز ولكنه يسمح بالتعقيد، فهو يعترف بالجدل في علم الفيروسات، و يعطي القارئ لمحة داخلية عن كيفية تعلم العلماء التفكير في مجال الميكروبات التي ليست على قيد الحياة، ولكن يمكنها التطفل على بيولوجيا الكائنات الحية.

 ينتهي الكتاب من حيث بدأ بالبحث عن أصل الحياة. ينهي زيمر كتابه بسرد قصة في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي عن تجربة أجراها ستانلي ميللر Stanley Miller وهارولد أوري Harold Urey، وهذه التجربة مماثلة لتجربة باترك بيرك التي تطرقنا لها في بداية المقال عن "المشعات". في هذه التجربة قام العالِمان بتشكيل حساء بدائي آخر بمزيج الماء والميثان والأمونيا والهيدروجين في زجاجة مغلقة، ثم أطلقا على المزيج شرارات كهربائية وامضة لمُحاكاة البرق. لم يلاحظا "مُشِعّات" باترك بيرك الوهمية تزحف خارج أنبوب الاختبار طبعاً، لكن ميلر وأوري وجدا مواد كيميائية تكونت من ذلك المزيج بعد إطلاق شرارات كهربائية عليه بما في ذلك بعض الأحماض الأمينية، التي قد تشكل الأساس الجزيئي للكائنات الحية.

 زيمر كاتب ذكي وجذاب يقوم بإدخال الحكاية ويرسم قصصا علمية ويجلب التجارب المعملية إلى الحياة. هذا الكتاب ليس فقط عن الحياة، ولكن عن الاكتشاف نفسه. محاور الكتاب تدور حول الاكتشافات والأخطاء والغطرسة في تفسير الحياة. قصص الكتاب محفوفة بالدهشة وتبين مدى ومحدودية العلم في الإجابة عن أبسط الأسئلة وأعمقها: ما الحياة؟ 

 

تفاصيل الكتاب:

الكتاب: الحياة على الحافّة، البحث عن ماذا يعني أن تكون حياًّ

الكاتب: كارل زيمر Carl Zimmer 

عام النشر: 2021 

دار النشر: Dutton Books 

اللغة : الإنجليزية 

عدد الصفحات: 368

أخبار ذات صلة