التقنيات التي تغير العالم: تطبيقها وآثارها في العالم وفي الشرق...

التقنيات.jpg

مجموعة مؤلفين

فيكتوريا زاريتوفسكايا

تتعلق هذه الدراسة بالتقنيات المبتكرة، وقد اختار مؤلفوها من التقنيات ما اعتقدوا أنها أكثر ما يغير عالمنا ويُؤثر على مستقبلنا. في الوقت نفسه، ركز الباحثون، ومعظمهم من الخبراء المستشرقين من الأكاديمية الروسية للعلوم، على تطبيق ودور هذه التقنيات في بلدان آسيا وإفريقيا.

يتكون الكتاب من مقدمة و12 فصلاً مجموعة في أربعة أبواب. يتضمن كل باب ما يسمى دراسات حالة (case story) مفصلة. ويركز مؤلفو الباب الأول على تحليل الآثار الاقتصادية للتكنولوجيات المُطبقة في راهن وقتنا (فصول: "تقنية Blockchain وتطبيقها في الاقتصاد"، و"الفرز الجماعي والاقتصاد المنظّم" ، و"الطاقة الخضراء في الصين: الاستعانة أم الصناعة المحلية؟"، "الأتمتة والروبوتات: آفاق التوظيف"). سعى مؤلفو الباب الثاني إلى استبيان كيفية عمل هذه التقنيات على تعزيز السلطة على الجماهير العريضة وذلك باستخدام مثاليَّ الهند والصين (فصول: "الحكومة الإلكترونية والمدينة الذكية في الهند: pro et contra"، "التقنيات الرقمية للتحكم بالطاقة: نظام الثقة الاجتماعية في الصين).

يعرض الباب الثالث تحليلاً للاستجابات السلوكية لفئات اجتماعية معينة (المهاجرون والشباب) ومجتمعات أوروبا وروسيا وآسيا وإفريقيا ككل للتحديات النفسية والسياسية والثقافية التي خلقتها التقنيات المذكورة (فصول: "معلومات التقنيات والديناميكيات الاجتماعية: حالتان مقنعتان"، "التقنيات الرقمية في البيئة الاجتماعية لإفريقيا: الفقر والهواتف المحمولة والشركات الناشئة"، "المنصات الرقمية للمهاجرين: كيف تساعد في التغلب على التهميش"). ويجمع الباب الرابع الدراسات التي تركز على الجوانب الإنسانية للتفاعل مع هذه التقنيات، مثل دورها في نشر الثقافة الشعبية الكورية حول العالم وخصائص العملية التعليمية في الفلبين أثناء الوباء، أو استخدامها لمُواجهة فيروس كورونا في منغوليا.

 

ينطلق المؤلفون، وهم يحددون أهداف أبحاثهم، من حقيقة أن العصر الحديث هو زمن التقنيات المتغيرة للعالم - النانو والحيوية والمعلوماتية والمعرفية والاجتماعية الإنسانية. تحفز هذه التقنيات التغيرات الاجتماعية، وبالتالي، هناك حاجة لفهم ما يحدث في راهن وقتنا من منظور تلك التحولات المستقبلية التي تجلبها التقنيات الحديثة.

وكما يؤكد المؤلفون فإنَّ هذه المهمة معقدة لأسباب عدّة أهمها أن الأهداف التي يتم لأجلها استخدام الابتكارات التكنولوجية تتوافق راهنا مع "المزاج العام لما بعد الحداثة بأخلاقها البسيطة، الخالية من أي إلزامٍ" (191)، إذن فهناك تعددية الحقيقة، وتجزئة للإدراك والقيم والسعي الدائم إلى تبسيطها أكثر وأكثر.

ووفقًا لمُلاحظات المؤلفين، يلعب التوقيت لتقييم هذه التقنيات دورًا مُهمًا: فكلما اقتربنا من المرحلة الأخيرة من الحداثة، كان التقييم أكثر تفاؤلاً، وكلما اقتربنا من نهاية ما بعد الحداثة، جاء أشدّ توترًا. بهذا المعنى، فإن التركيز على التوقيت المناسب للأحكام المتفائلة والمتشائمة حول الآثار الاجتماعية للتكنولوجيات التي تغير العالم يُعبّر عن نفسه بأن الأولى تنجذب نحو نهاية القرن العشرين، والثانية تشتد بمرور قرننا هذا.

وكما يرى المؤلفون، من الضروري إجراء النقاش حول تطوير التقنيات ضمن إطار الثورة العلمية والتكنولوجية وعواقبها الاجتماعية، لأنَّ التقنيات تغير العالم بشكل أسرع من تغير الثقافة البشرية، بحيث تتشكل ثقافة تطبيق التقنيات المبتكرة فيما بعد. وهكذا رسم فنانو المستقبلية صورًا للانتصار الرمزي للتكنولوجيا، لكن الواقع بعيد كل البعد عن التوافق مع أعمالهم. فمن ناحية، نجد أن التطورات العلمية تخلق عالماً جديداً، ومن ناحية أخرى، تدمر نماذج الحياة المعتادة والقيم التي تدعمها الثقافات التقليدية كما تُفقدها فعاليتها وتضعها في خانة الشك. وعليه، يستنتج المؤلفون أن البشرية تضطر إلى تغيير جميع أنواع العلاقات بالطريقة التي يقترحها الابتكار التكنولوجي. 

علاوة على ذلك، ووفقًا لوجهة النظر الشائعة، يُعد الابتكار (والتكنولوجيا بشكل عام )عاملاً مهمًا ليس للتنمية وحسب، ولكن للتحول الحقيقي والإيجابي للإنسان والمجتمع في القرن الحادي والعشرين. بالمقابل، ووفقًا لرأي آخر يتم تداوله على نطاق واسع كذلك، يمكن أن يؤدي هذا بالعالم إلى التدهور والانهيار. "التقنيات نفسها لا تُحَسّن المجتمعات أو تدمرها. إن تأثيرها ثوري بمعنى أنها تؤثر بعمق على طريقة ونوعية حياة الناس وهويتهم وقيمهم وأهدافهم وأنواع وطرق تكوين علاقات العمل والأسرة وغيرها. يكون دورها مدمرا أو منعشا اعتمادا على طبيعة تفاعل المجتمع والدولة معها، وهو ما يحدد درجة ونوع تأثير التقنيات على الحياة".

 

انطلاقا مما سبق، يجيب البحث على عدد من الأسئلة الملحة: ما هو تأثير التقنيات الرقمية وانتشار الاتصالات على البلدان الأقل نمواً؟ هل تجعل الحياة فيها أسهل؟ هل تقدم للناس فرصًا جديدة لتحسن حياتهم؟ يعتقد البعض أن تقنيات الثورة الصناعية الرابعة تسمح للاقتصادات بتخطي المناهج السابقة وتمكين الاقتصادات الناشئة من تحقيق النجاح بشكل أسرع مما كان ممكنًا مع مسارات التنمية الصناعية التقليدية. بمعنى آخر، هل ستتمكن البلدان النامية، كما لو أننا حيال ضربٍ من السحر، من تحقيق قفزة حقيقية بمساعدة هذه التقنيات؟

لمحاولة الإجابة على هذه الأسئلة، يشير المؤلفون إلى تجربة بلدان إفريقيا الاستوائية. يذكرون مثلا أن: "حصة التعليم العالي من إجمالي عدد الشبان صغيرة في البلدان الإفريقية. في 2018 بلغت 24٪ في جمهورية الرأس الأخضر، 16٪ في غانا، 13٪ في السنغال والكونغو، 12٪ في كينيا، 6.5٪ في بوركينا فاسو. وفضلا عن ذلك، غالبًا ما يكون هؤلاء الشبان غير مطلوبين في سوق العمل. فنسبة العاطلين عن العمل بينهم أعلى من أقرانهم الذين لم يحصلوا سوى على تعليم ابتدائي أو ثانوي (...) قد يجد المتخرج الحاصل على دبلوم جامعي صعوبة في الحصول على وظيفة أكثر من الأمي الذي ينتظره القطاع غير الرسمي في جميع الأحوال (...) إنه أمرٌ عجيب حقًا لا سيما على خلفية ما يتمُّ إقراره في المنظمات الدولية حول أهمية رأس المال البشري لحصول البلدان النامية على ثمار الثورة الصناعية الرابعة. في هذه الحالة، فإن التناقض بين المهارات التي يوفرها التعليم العالي وبين متطلبات سوق العمل المحلي واضح، ففي جميع هذه البلدان، باستثناء جنوب إفريقيا، يعمل عدد قليل من الشركات ضمن القطاع الحديث (...) ومع ذلك، شرع هذا الوضع في التبلور في العقد الأخير من القرن العشرين (...) في هذا الصدد، سأستشهد بملاحظتي الشخصية لما رأيته في السنغال. ففي خريف عام 1991 توقفت جامعة الشيخ أنتا ديوب في داكار عن العمل لمدة شهرين بسبب الإضرابات الطلابية (...) لم يحتجّ الطلبة على الرسوم الدراسية، إذ كانت الدراسة مجانية، ولم يكن هناك حديث عن المنح الدراسية وسكنات الطلبة، ولكن الطلاب طالبوا بإتاحة فرص عمل لهم في نهاية دراستهم” (234). بالإضافة إلى ذلك، وعند الحديث عن آفاق انتشار التقنيات الرقمية، ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار أنه في عدد من البلدان الإفريقية، لا تحصل نسبة كبيرة من السكان على الكهرباء. ونسبة أولئك الذين يحصلون على الكهرباء منخفضة للغاية في إثيوبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى ورواندا وبوركينا فاسو حيث تتراوح بين 20 و 29٪.

 

بالنسبة للمنطقة الآسيوية، يركز المؤلفون بشكل خاص على ظاهرة الهاليو الكورية، أي الموجة. فمنذ نهاية القرن العشرين بدأوا يطلقون هذه الكلمة الكورية على انتشار الموسيقى والمسلسلات التلفزيونية والألعاب الكورية عبر الإنترنت والطعام والأزياء الكورية وانتقالها خارج الحدود سواء إلى الشرق (الصين واليابان وتايلاند) أو إلى الغرب (روسيا وأوروبا وأمريكا). مما لا شك فيه أن وراء هذه الظاهرة الفريدة سببا لا يقتصر على الجانب الاقتصادي والسياسي ولكن أيضًا على الإمكانيات التكنولوجية الجديدة. فالجانب الأول كان بمثابة قوة دافعة، بينما شكّل الأخير وسيلة لتصدير منتجات الصناعة الإبداعية الكورية غير المادية خارج البلاد.

لا شك أن ظاهرة هاليو فريدة من نوعها من حيث أنها يمكن أن تحدث فقط في دولة حديثة، متطورة اقتصاديًا ومتقدمة تقنيًا مثل كوريا. "الأشخاص ذوو القوة الاقتصادية لديهم رغبة ثابتة في تعزيز المنتج الثقافي للأمة، والتي في المستقبل، على المدى القصير والطويل، يمكنها رفع مكانة الدولة في السوق الاجتماعية والثقافية والفكرية" (297). ونرى بشكل واضح أنه في ظل ظروف التقنيات الجديدة يصبح الإبداع مجالًا واسعًا للعمليات الاقتصادية ويصبح المنتج الثقافي هدفا رئيسيا في السوق الحديثة.

لا بدّ للمؤلفين، والحال كذلك، أن يتطرقوا للإنتاج والخدمات الصينية على مدى العقدين الماضيين حيث حققت الصين قفزة هائلة في تطورها التكنولوجي، كما اقتحمت الشركات الصينية السوق العالمية وأصبحت منافسًا للشركات المصنعة من الولايات المتحدة واليابان وأوروبا وكوريا الجنوبية. كيف حدث هذا؟ وفقًا للطرف الأمريكي، استخدمت جمهورية الصين الشعبية عدة طرق غير شريفة دفعة واحدة، في مقدمتها التجسس الصناعي. فهل الأمر  كذلك فعلا؟ يعتقد المؤلفون أنه ليس بهذه البساطة.

"لقد تمَّ تهيأة الظروف للابتكارات على الأراضي الصينية من قِبل حكومة جمهورية الصين الشعبية لفترة طويلة ضمن منهجية محددة. لا شك أن التقنيات الأجنبية لعبت دورًا كبيرًا في ذلك. ومع ذلك، لا يمكن استبعاد مبالغة المنافسين في اتهام الصين بقرصنة الابتكارات وتقليدها" (62). لتحديد ما إذا كان الاتهام صحيحًا أم لا، يجب على المراقب تتبع استراتيجية وتاريخ الإنجاز العلمي والتكنولوجي الصيني وكيف تم إعداده من قبل الدولة. كما يجب النظر في حجم وبنية وخصائص نشاط براءات الاختراع في الصين، والتي بدونها يصعب تخيل نسبة التقليد والابتكار في النمو التكنولوجي للصين. وفي هذا الكتاب يقوم الباحثون بإدراج مثال الطاقة الخضراء بشكل عام ومجالاتها الديناميكية مثل الحفاظ على الطاقة وإنشاء النقل الكهربائي وطاقة الهيدروجين بشكل خاص.

 

من المناسب في هذا السياق التذكير بموقف الأكاديمي الروسي فيكتور بولتيروفيتش الذي أشار إلى أنه "في مرحلة التحديث لا يعّد إنشاء تقنيات جديدة تمامًا أمرا أساسيا مهما، ولكن ما هو فعاّل حقا، استعارة تلك التقنيات التي أثبتت نجاعتها وبعد ذلك يتمّ تحديثها وتوزيعها". ويرى الأكاديمي أنه في ظل اقتصاد متخلف "من المستحيل تحقيق اختراق مبتكر. إذ يحتاج الأمر، بادئ ذي بدء، إلى إنتاج تقنيات جديدة بمساعدة التقنيات المتوفرة بالفعل. ثانيًا، لاستخدام تقنية أو منتج أو طريقة إدارة جديدة في وحدة إنتاجية ما، يلزمنا إجراء تغييرات في العديد من الوحدات الأخرى، وهو ما يتجاوز قدرات حتى أكبر الشركات، وهذا ما يسمى "فخ التنسيق في الصناعة".

تكمن أهمية الكتاب في التركيز على المناطق التي تفتقر إلى التقنيات الحديثة، مثل إفريقيا، أو المناطق التي أظهرت تغيرات كبيرة في المجتمع والثقافة في فترة زمنية قصيرة بسبب إدخال هذه التقنيات، مثل شرق آسيا. ومع ذلك، يبدو لنا أن ما ينقص الكتاب - الالتفات إلى منطقة الشرق الأوسط التي تشهد تجاذبا لا يستهان به في عالم التقنيات وتأثيراته المباشرة والمستقبلية على المجتمع والحياة.

 

تفاصيل الكتاب:

الكتاب: التقنيات التي تغير العالم: تطبيقها وآثارها في العالم وفي الشرق.

المؤلف: مجموعة مؤلفين

الناشر: نيستور إستوريا/سانت بطرسبورغ/2021

اللغة: الروسية

عدد الصفحات: 452

*أكاديمية ومستعربة روسية

أخبار ذات صلة