فالنتينا ساغاريا روسّي
عزالدين عناية*
يدور محور هذا الكتاب الذي نتولى عرضه حول شخصية المؤرّخ والمستشرق الإيطالي ليونه كايتاني (1869-1935). وقد ذاع صيت الرجل في الأوساط الثقافية العربية الحديثة، بين عديد الكتّاب والباحثين، بفضل الصدى الواسع لأعماله الموسوعية في مجموعتيْ "دراسات التاريخ الشرقي" و"حوليات الإسلام"، وإن لم يُتَرجم إلا النزر القليل منها إلى العربية. وضمن الاهتمام بإرث كايتاني واستعادة أطوار حياته صدر كتاب فالنتينا ساغاريا روسّي التي حاولت فيه قراءة يومياته ورسائله وصوره وتحليلها ونشرها. وهي وثائق ذات صلة بشبه جزيرة سيناء ومنطقة الصحراء الكبرى بالأساس. فالكتاب هو حديثٌ في منتهى التوثيق، وصناعته في منتهى الإتقان، عن رحلة وعن مستشرق أعيد له الاعتبار في العقود الأخيرة بعد إهمال.
والكتاب هو مستخلَص من مدوَّنات الكتابات والشهادات الشبابية لشخصية فكرية إيطالية مولَعة بالشرق، كان قد لُقّب بأمير تيانو ودوق سيرمونيتا لتحدّره من عائلة أرستقراطية عريقة النسب (جدّه كان مستشرقا وأبوه تقلّد منصب وزير الخارجية في حكومة دي روديني وشغل هو بنفسه نائبا في البرلمان). إذ يُعدّ كايتاني من أوائل المؤرِّخين الإيطاليين الذين انكبّوا على دراسة مصادر الإسلام وتاريخ الجزيرة العربية، وهو يُصنَّف ضمن "المؤرِّخين الوضعيين"، بما عمله من تمهيد الطريق لغيره.
وعبر فرز مئات الوثائق غير المنشورة لكايتاني، من قِبل فالنتينا ساغاريا روسّي، جاء نشرُ يومياته ورسائله وصوره بشأن الرحلة إلى مصر (1888-1889) والجزائر (1890). وهي المرة الأولى التي يُعَدّ فيها عملٌ موسَّع حول المؤرّخ يتناول سيرته ضمن السياقين الثقافي والتاريخي، مدرَجة ضمن "مدوّنات رحلة" الشرق الأوسط في ذلك العصر. وتكتسي هذه الدراسة حول كايتاني أهمية لِما تجليه من وقائع وأحوال وعوائد عن منطقتين مهمّتين في البلاد العربية، في فترة عزّت فيها الأخبار والوثائق عنهما. والرواية فضلا عمّا تجليه من أخبار ألمّت بحياة الرجل، فهي تبرز ما لكايتاني من تأثير واضح في مسارات الاستشراق الإيطالي.
فالنصوص التي نشرتها الباحثة فالنتينا روسّي واردة من "مؤسسة كايتاني" التابعة لـ "أكاديمية لِنشيه"، أعرق المؤسسات العلمية الإيطالية وأعلاها صيتا في الوقت الحاضر. والباحثة تتولّى الإشراف على قسم كايتاني في هذه المؤسسة. وكما تخبر الوثائق، تندرج رحلة كايتاني إلى سيناء وجنوب الجزائر ضمن سلسلة من الرحلات، شملت مصر وسوريا وفلسطين وبلاد الرافدين وسيلان والهند. وبشكل عام، ساد تقليد الرحلة في أوساط العائلات الأرستقراطية في إيطاليا كشكل من أشكال التكوين التربوي للطبقة الحاكمة والشرائح الفكرية المتنفّذة. فممّا يميز كايتاني عن غيره من المستشرقين الإيطاليين أنّه استقى معلوماته مباشرة وبنفسه عن المجتمعات الإسلامية التي كتبَ عنها، ولم يحل ذلك دون أن يشهد إهمالا بين مجايِليه. ولاقت مدونات الرحلة نوعا من الاستهجان والغرابة والاحتقار من قِبل الفيلولوجيين حينها، في حين غدت اليوم ذات قيمة، لِما مثّله كايتاني من ريادة وأسبقية في اكتشاف منطقة مهمة من البلاد العربية بين الإيطاليين، وقد كانت المنطقة في ذلك العصر تقريبا حكرا على الفرنسيين والألمان دون غيرهم.
وكما أوردنا سابقا، الكتاب برمته يضمّ 561 صفحة، شمل القسم الأول (228 صفحة) وهو تمهيد وتعليقات للباحثة فالنتينا روسّي، أي بمثابة الحاشية على يوميات الرجل ورسائله وشخصه، في حين حازت الوثائق، أي اليوميات التي دوّنها كايتاني، والرسائل، والبرقيات التي بعث بها لوالديه (235 صفحة)، كما ضمّ الكتاب 100 صورة لكايتاني والأماكن التي زارها، أردفتها الباحثة بجملة من التعليقات والتحاليل. ونشير إلى أنّ اليوميات الواردة بشأن سيناء تمّ نشرها بعد وفاته، في حين تلك المتّصلة بجنوب الصحراء، فلم تنشر سوى مع فالنتينا روسّي. هذا وقد قدّمَ للكتاب المؤرخ وعالم الآثار الإيطالي ماريو ليفِراني.
وما يميّز كتاب فالنتينا ساغاريا روسّي أنّه جامع شامل، ذلك أنّ المقدّمة التي مهّدت بها للبحث وللرحلة، سيناء والصحراء الكبرى، هي عبارة عن كتاب مستقلّ بحاله (228 صفحة). ومن هذا الجانب يُعدّ الكتاب متميّزا ورياديّا. صحيح صدرت أجزاء سابقة من يوميات كايتاني في مجلات ومؤلّفات، وبأقلام معروفة –كارلو ألفونسو نللينو في مجلة "أورينتي موديرنو" العدد 16، 1936؛ فرانشيسكو غابريللي، "شخصيات ومشاهد من الجنوب"، ميلانو-نابولي 1960- ولكنّها ما كانت بهذه الدقة والشمول والتحليل.
وكما نعرف صدرت تراجم عدّة سابقة عن ليونه كايتاني وعن آل كايتاني تناولت سِير أفراد العائلة، وربما الشيء الهام في هذه الترجمة وهو "نزع الأسطرة" عن كايتاني المستشرق والمؤرخ، ومحاولة تنزيله المنزلة الصائبة ضمن أطوار الاستشراق الإيطالي. تحدّثت الكاتبة عن مستوى إلمامه المتواضع بالعربية، وعن اعتماده في استقاء معلوماته على مستشرقين غربيين سابقين مع تطعيم ذلك بالزيارات المباشرة. فما كان تكوينه في اللغة العربية، في الفترة التي زار فيها سيناء والصحراء الكبرى، يسمح له بامتلاك ناصية التحاور والفهم والقراءة بالعربية. كما تعرّضت الكاتبة إلى دواعي عدم الاعتراف به في أوساط المستشرقين في عصره، كونه كاتبا من خارج الأنماط السائدة، ونظرا لكونه فتيّا حين بدأ يتطرّق إلى مواضيع تتطلّب دراية عميقة وخبرة واطلاعا. فقد كانت زيارته على سبيل المثال إلى سيناء والجزائر، وهو في سنّ تتراوح بين التاسعة عشرة والعشرين. ويلوح ذلك بيّنا من المعلومات التي أوردها عن سيناء، كان الكثير منها مستوحى أو مستخلَصا ممّا يرد في العهد القديم، وواردا لدى كتاب غربيين، ومن جانب آخر حين خاض الرحلة إلى منطقة الصحراء الكبرى تقلّصت معلوماته إلى درجة كبيرة ليغدو الرصد أنثروبولوجيًّا منحصرًا في حدود المشاهَدة والمعايَنة المباشرة لا غير. من جانب آخر أيضا، في الأربع مئة ورقة من المذكرات المدوَّنة بقلم كايتاني، التي اعتمدتها الباحثة فالنتينا روسّي، يَغيب الحديث عن الدين الإسلامي في معيش الناس، أو داخل الزوايا، سوى بعض الإشارات العابرة عن صدق البدو، بما يشبه الحديث عن "البريّ الطيب" مع المستشرق واكلان ساويرين رزيفوسكي. وهذا كلّه يبرز الجانب الخفي في شخصية كايتاني، لكن الاحتفاء بكايتاني في الثقافة العربية ما كان ناتجا عن تقييم علميّ لعمله وأثره، بل لانطباع طيّب خَلّفه حديثه عن المسلمين، حيث صرّحَ في أكثر من موضع من مؤلّفاته انه أحسَّ دائما أنّه بين ذويه في أوساط المسلمين، ولم يستشعر ذلك الاقتحام عليه من دين الإسلام.
وتكمن أهمية يوميات كايتاني في كونها أرضية تطوّرَ على أساسها مشروع التـأريخ للإسلام معه، وهو بالفعل ما يخلص إليه المستشرق أليساندرو باوزاني، معتبرًا كايتاني "دارس الإسلاميات الأكثر إيغالا في الدراسات الإسلامية بين الإيطاليين".
حاولت الباحثة فالنتينا روسّي الإحاطة بموضوع بحثها من جميع جوانبه، حيث يهيمن المنهج التاريخي الفيلولوجي على الكتاب. وللتوضيح نشير إلى أنّ كايتاني قد قام بالعديد من الرحلات سواء نحو البلاد الإسلامية أو غيرها. وقد شاءت الكاتبة، وهي المكلَّفة والمعنيّة بوثائق كايتاني وتراثه في أكاديمية لينشيه، أن تُخصِّص كتابها لفضاءين دون سواهما، سيناء والصحراء الكبرى، ولعلّها تخطّط لأعمال أخرى حول الرجل في قادم الأيام. وما نودّ قوله انّ كتابها أتى محيطا وملمّا بموضوعه. بدا منهج الاشتغال على المخطوطات، بتأنّيه وتدقيقه وتثبّته، جليّ التأثير في صياغة مؤلف فالنتينا روسّي، حيث حرصت على التدقيق والشرح والتفصيل وآثرت إثراء نصّها بجملة من التفاصيل المفيدة. وقد صيغ النصّ صياغة لغوية واضحة يطبعها طابع أكاديمي، خلا فيها من التجريد والغموض، حيث وفّقت الكاتبة في جعل هذه الدراسة، على طولها ووفرة استطراداتها وتشعّب مواضيعها، يسيرة القراءة على غير المتخصّص أو غير المتابع للدراسات الاستشراقية. حيث تَبرُز الكاتبة على دراية معمَّقة بالمصطلحات العربية ذات الصلة بمجال الدراسة، وعلى إلمام جيد بالأبحاث الاستشراقية في المجال. كما تبدو على إلمام بالمصطلح الديني والاجتماعي والتاريخي، وقد تسنى لها ذلك بفضل تخصّصها الفيلولوجي.
وبوصف مؤلف فالنتينا روسّي يتضمّن نصّا آخر بداخله اشتغلت عليه الباحثة، فإنّنا نجد من ناحية الفهارس أجندة تستعيد في ضوئها التواريخ ولحظات الانطلاق والوصول والزيارات لكافة المحطات التي مرّ بها ليونه كايتاني، في رحلتيه نحو سيناء والصحراء الكبرى. تلت تلك الأجندة خريطة أولى تعود إلى كايتاني وقد رسم مسارها بنفسه وأشار إلى محطاتها، وهي على صلة بالرحلة إلى سيناء، ثم خريطة ثانية تعود إلى الفترة التي زار فيها الصحراء الكبرى، وقد حاولت الباحثة فالنتينا روسّي بنفسها رسم مسار كايتاني فيها مهتدية بما ورد في المذكرات والرسائل. ثم في آخر الكتاب نجد فهرسا بأسماء الأعلام والأماكن الواردة في اليوميات.
نشير إلى أنّ مؤلفة الكتاب، فالنتينا ساغاريا روسّي، قد سبق لها أن أصدرت ثلاثة أعمال معتبرة: "كتاب الأمثال في الحديث النبويّ" لأبي الشيخ الأصبهاني، (منشورات جامعة "الأورينتالي" نابولي 2002)؛ "أرشيف ليونه كايتاني في أكاديمية لينشيه" بالاشتراك مع باولا غيونه (منشورات ليرما روما 2004)؛ "المخطوطات المدوَّنة بالحرف العربي" بالاشتراك مع فرانسوا ديروش (منشورات فييلا روما 2012). كما نشرت مجموعة من الدراسات والمقالات العلمية في دوريات أكاديمية. وخلال مشوارها الدراسي، سواء في رسالة التخرج بالإجازة أو أثناء الحصول على الدكتوراه اشتغلت فالنتينا روسّي على مخطوطتين عربيّتين. وتَواصلَ اهتمامها بالمخطوطات العربية في إيطاليا مع التحاقها بالتدريس واشتغالها في أكاديمية لينشيه، ما جعلها اليوم أبرز باحثة مهتمّة بالمخطوطات العربية والإسلامية في إيطاليا.
لم نلاحظ مواقف تنمّ عن مركزية غربية لديها أو أحكام أو تقولات في كتاباتها أو تصريحاتها متحيزة أو مخالفة لما هو علمي. وعلى العموم تبقى فالنتينا ساغاريا روسّي باحثة غربية تشتغل على الثقافة العربية، وتكتب عن الثقافة العربية، من زاوية نظر غربية وبأدوات غربية. فهي تفتقر إلى تلك المقدرة النقدية المتعالية والمتميّزة التي تؤهلها للخروج عن الأنماط السائدة بشأن المجتمعات العربية أو بشأن الثقافة العربية. لكن ذلك لا يخفي شغفها بمجال عملها وسعيها الدؤوب للنهوض بالقطاع المعرفي الذي تشتغل فيه والإضافة إليه.
بقي أن نشير إلى أنّ كتابا بهذا الحجم والثراء، كان من الأجدى تنويع الفهارس والتفصيلات الإضافية فيه، على غرار بيان المصادر والشخصيات المحورية التي استقى منها كايتاني معلوماته، وجرد الأماكن التي حلّ بها، وذكر أسماء الأشخاص الذين قابلهم، والتفصيل في اللغات واللهجات التي استعملها، وأي وسطاء أعانوه في التواصل مع الناس حتى تسنى له تدوين مذكراته.
كما أنّ الكاتبة لم تعوّل على الرسوم والجداول، وما الخريطتان والصور الواردة في الكتاب، سوى قسم من المادة التي اشتغلت عليها وهي تعود إلى المؤرخ كايتاني، في حين هي لم تعمل على إضافة عناصر أخرى كوسائل مكمّلة لشرح ما ورد في الكتاب. كنتُ قد أشرت إلى الخريطتين المدرجتين في آخر الكتاب وكذلك إلى الصور، لكن ما أريد توضيحه أن الصور الواردة في الكتاب هي صور على صلة بالرحلة، أردفتها الكاتبة بضبط لمقاساتها وشرح لفحواها وذكر لتواريخها.
لقد وفّقت الكاتبة في الإحاطة بموضوعها والتطرّق لتفاصيله من جوانب مختلفة، ومن هذا الباب قدّمت عملا جيدا على صلة بشخص المستشرق كايتاني، وعلى صلة بحقبة شبه معتمة، وبمنطقة جغرافية تبدو معزولة. الكتاب يقدّم خدمة جليلة للثقافة العربية، بما يوفّره من إضاءات على شخصية دارسة للحضارة العربية، من حيث منهجها ونظرتها وتعاطيها مع الوقائع. صحيح لا يقدّم الكتاب خدمة مباشرة للثقافة العربية وللدراسات العربية، ولكنه ييسّر ويثري متابَعة حقل دراسات الاستشراق بشكل عام.
وصحيح لا يتعلّق الكتاب بدراسة قضية مباشرة على صلة بالتاريخ الإسلامي أو بالحضارة العربية، وإنّما يتركز اهتمام صاحبته حول شخصية درست الحضارة العربية، سواء كان في جانبها الاستشراقي الغربي أو في جانب اتصالها بالواقع العربي، مع ذلك فإنّ الكتاب فيه خدمة جليلة وقيّمة للحضارة العربية. ورغم أنّ الكتاب حديث الصدور، فقد لقي صدى طيبا في الأوساط الثقافية الإيطالية، كما دعيت مؤلفته إلى عرضه في عدد من المؤسسات البحثية والأكاديمية المهتمة بالدراسات الشرقية. ثمة مجهود واضح في إنجاز الكتاب، فضلا عن دقة في التعامل مع الوثائق التي بنيت عليها الدراسة. أقدّرُ أن تلك الخاصيات سوف تبوّئ العمل مكانة مرموقة كمرجع أساسي لدى كلّ باحث مهتمّ بالكتابة عن ليونه كايتاني. ونشير كذلك إلى أن الكتاب لم يُترجم بعد إلى لغات غربية أخرى، وأقدّر أنه سيحظى بالترجمة، في حين من الجانب العربي فإنّ العمل لم يترجم لا كلّيا ولا جزئيّا، ولم يرد له أي ذكر له في الصحافة العربية المعنية بالمنشورات الغربية الحديثة.
تفاصيل الكتاب:
الكتاب: المستشرق ليونه كايتاني في الصحراء العربية
تأليف: فالنتينا ساغاريا روسّي.
الناشر: أكاديمية لينشيه- منشورات باردي (روما -إيطاليا) "باللغة الإيطالية".
سنة النشر: 2021.
عدد الصفحات: 561 ص.
