مارك ليوناردو
محمد السالمي
منذ انتهاء الحرب الباردة، عمل قادة العالم على دمج الاقتصاد العالمي، وكسروا الحدود، وعززوا من سائل النقل والاتصالات على أمل جعل الحرب مستحيلة مجددا. وعلى الرغم من هذه الجهود، نشهد الآن تزايدا مستمرا لأنواع جديدة من الأسلحة على الساحة الدولية، وكذلك تصاعد مستويات التصعيد والحافز لمواصلة الصراع. ورغم أن التكنولوجيا التي تبقينا على اتصال بالعالم قد غيرت أفكارنا حول العمل والرعاية والتواصل والاستهلاك، إلا أنها فشلت بطريقة ما في إبعادنا عن العنف المُنتشر في واقعنا الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وتصورنا للصراع. وقد شهد العقد الماضي عداوة جديدة بين الولايات المتحدة والصين، وعدم القدرة على التعاون في القضايا العالمية مثل تغير المناخ أو الاستجابة للوباء، وانهيار التمييز بين الحرب والسلام دون أن ننسى الصراع الإيراني الأمريكي، والروسي الأوكراني مؤخرا. في كتاب "عصر اللا سِلم " يقدم مارك ليوناردو تحليلًا فريدًا لبعض الموضوعات الرئيسية في الشؤون العالمية اليوم. ويشير إلى أنه مع تقدم العولمة والاتصال، يبدو أن هناك اختلافات عدائية أدت إلى إبطاء التكامل العالمي، إضافة إلى قيام الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية بتوظيف ملفات مثل الهجرة، والاقتصاد، والمناخ ، والصحة لتعزيز هذه الاختلافات.
مارك ليونارد هو مؤسس مشارك ومدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، كما يملك بودكاست أسبوعيا يناقش فيه مواضيع حول الجغرافيا السياسية والاقتصادية العالمية وسياسات الاتحاد الأوروبي ومؤسساته. كما حصد كتاباه "لماذا ستدير أوروبا القرن الحادي والعشرين"، وكتاب "بماذا تفكر الصين؟" على أكثر الكتب مبيعًا على مستوى العالم، وقد ترجما لعدة لغات.
ساد اعتقاد تام لدى المؤلف في كتابه السابق "لماذا ستدير أوروبا القرن الحادي والعشرين؟"، أن الأسس التي يجسدها المشروع الأوروبي يجلب الكثير من الثراء للعالم ويقدم نموذجاً حياً لكيفية ازدهار البلدان. كان الاعتقاد بأن نظاماً عالمياً ليبرالياً واحداً من شأنه أن يجمع الدول المتحاربة في سلام ديمقراطي واسع الانتشار، وهذا ما تصوره القصة الأوسع للعولمة.
ولكن مع التطورات التي سادت في العقد الأخير أجبر المؤلف إلى إعادة التفكير في افتراضاته حول كيفية عمل العالم وإلى أين يتجه. حيث ينظر الكثيرون إلى أن هذا الترابط يجلب الضعف والتهديدات بدلاً من الأمن. فعلى سبيل المثال صوت أغلب البريطانيين لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفي الولايات المتحدة، تم انتخاب ترامب، وأقدمت أغلب الدول في جميع أنحاء العالم إلى سياسة بناء الجدران، وإغلاق الأبواب، وتمزيق المعاهدات الدولية.
استطاعت العولمة والثورة الرقمية معاً بطرق غير مسبوقة تقليص العالم بطرق دراماتيكية، كما أصبحت سلاسل التوريد معقدة للغاية لدرجة أن الهاتف الذكي يحتوي على مكونات من مختلف دول العالم، وإن كمية البيانات التي نمتلكها حول ما يجري في المحيط، وحجم الأشخاص الذين يسافرون العالم، ومدى ارتباط الاقتصادات في نظام مالي عالمي واحد أمر فريد من نوعه في التاريخ.
منذ التوترات التي حدثت في القرن التاسع عشر وحتى الحرب الباردة، تطورت الاتصالات بشكل متسارع. وفي الحقبة التي تلت نهاية الحرب الباردة، أتى عصر جديد للاتصال يتمثل في توسع الإنترنت، والثورة الصناعية الجديدة، مما يخلق مستوى آخر من التفاعل. ومن هذا المنطلق، يسوغ لدى كثير من المحللين حول الصورة الشاملة للعولمة من تخيلات حول الكيفية التي ستجلب بها الإنترنت والعولمة الديمقراطية والحرية إلى تكوين عالم واحد، مما يجعل الحرب مستحيلة. وعلى الرغم أننا لم نشهد حرباً عالمية ثالثة حتى الآن، لكن النَّاس يدركون الجوانب السلبية لهذا الانقسام.
يتوجه المؤلف الى استعمال مصطلح اللا سِلم بدلاً من النزاع المسلح أو حتى الحرب، وذلك عبر تحليل المفهوم التقليدي للحرب. فالحرب بمعناها هي صراع منظم يحدث بين دولتين، تبدأ بإعلان الحرب وتنتهي بمعاهدة سلام. وما يميز هذا التعريف أن هناك قواعد وقوانين للحرب تنص على التمييز بين المدنيين والمقاتلين. ولا ريب أن هذا النوع من الحروب لا يزال موجودا في عالم اليوم، لكنه نادر. وحتى لو أخذنا نظرة أوسع وقمنا بتضمين الحروب الأهلية وأنواع أخرى من النزاعات المسلحة، فمن الناحية التاريخية يموت عدد صغير جدًا من الناس بسببها اليوم. يزداد عدد الأشخاص الذين ينتحرون كل عام عن عدد الذين يموتون في النزاعات المسلحة بين البلدان. ويرى المؤلف من هذا المنطلق أننا نعيش في عصر السلام حسب وصفه. ولكن إذا نظرنا إلى الوجه الآخر لحجم العنف والتوتر، فإن الصراع بين جميع القوى العظمى يخرج عن نطاق السيطرة، ويظهر بشكل جلي بين الصين والولايات المتحدة، وبين روسيا والاتحاد الأوروبي، وكذلك بين المملكة العربية السعودية وإيران. كما أن هناك ملايين الهجمات كل عام بين لاعبين مختلفين، وغالبًا ما يتم تنظيمها من قبل الدول. ومن حيث الضحايا، ووفقًا للأمم المتحدة وغيرها من الأبحاث، قُتل مئات الآلاف أو فقدوا وظائفهم أو حُرموا من الحصول على الأدوية نتيجة الحروب التجارية. ولكن لم ينظر أحد حقاً في عدد الأشخاص الذين تضرروا من الأوضاع غير المواتية التي لحقت بالاقتصاد بسبب العقوبات. وبالتالي، فإنَّ استعمال خيوط العولمة للصراع لا يتوافق مع التعريف التقليدي للحرب، لذلك هناك شعور واسع النطاق بأننا نعيش في عصر من السلام، وأن تسليح هذه الروابط في الواقع يضر عدداً أكبر من الناس أكثر مما تسببه الحروب التقليدية.
ويشير الكاتب إلى أن الاتصال يمنح الدافع للناس لمحاربة بعضهم البعض، فعندما نقارن أنفسنا بالآخرين حول العالم، نقسم مجتمعاتنا إلى بؤر مستقطبة، ويسود وباء الحسد بينها، وعندما يشعر الناس أن ظروفهم لا تتوافق مع الحياة المثالية للمتميزين، أو يشعرون بأنهم مستبعدون في خطاب الهوية، يكون هناك شعور ساحق بفقدان السيطرة. ولكن بعيداً عن الدوافع، فإن الشيء المخيف هو أننا نمتلك ترسانة أسلحة مستحدثة يمكن أن نتنافس بها مع بعضنا البعض، حيث أصبحت الحرب بين القوى العظمى أكثر خطورة مع مرور السنوات لدرجة أنها يمكن أن تدمر المحيط الحيوي بأكمله. وبعيدا عن الخيار النووي، بدأت تتعزز الروابط عبر التسليح. وفي خضم صراع الاتصال والترابط، نؤذي بعضنا البعض من خلال تحويل كل خيوط العولمة إلى أسلحة، فنحن نستخدم التجارة والتمويل، وحركة الأشخاص عبر الحدود، والقانون الدولي ، وكذلك الإنترنت للتلاعب وإلحاق الضرر.
ففي القرن التاسع عشر، شعر الكثير من الناس أن العالم بأسره يتشكل من خلال سياسات تُتخذ من العواصم الكبرى، وهذا ما يشعر به الكثير من الناس تجاه النخب العالمية الآن، بحيث أن حكوماتهم أو الشركات الكبرى تتخذ قرارات لها تأثير هائل على حياتهم، ولا يملكون السيطرة عليها. فالرغبة في المزيد من التحكم في النتائج هي أحد الأشياء التي تدفع الناس إلى اللجوء إلى الرجال الأقوياء، ويتوهمون على الأقل أنهم قادرون على استعادة السيطرة ، حتى لو لم يتمكنوا من فعل ذلك عبر الممارسة.
كما تطرق الكتاب حول موضوع تنظيم استخدام الإنترنت ومسألة إخفاء الهوية على الويب بين الصين والولايات المتحدة. يستطيع الفرد في المجتمع الغربي الالتقاء مع أشخاص متشابهين بالأفكار وإن كانت ضارة أحياناً، سواء بشكل مجهول أو تحت أسماء مستعارة. أما في الأيام الأولى للإنترنت في الصين، لم تكن لديك هذه المتطلبات القانونية لاستخدام اسمك الخاص. ولكن مع انتشار التوترات السياسية الدولية حول الإنترنت، قدمت الصين على عدداً من الاستراتيجيات لإنهاء إخفاء الهوية والحصول على مزيد من السيطرة، وإحدى الطرق التي قاموا بها هي جعل الشركات تراقب نفسها. تمتلك المنصات الكبيرة في الصين جيوشًا من مئات الآلاف من المراقبين، وهو بالمثل ما تقوم به فيس بوك حاليا. بهذا المعنى، هناك بعض المعايير العالمية الناشئة حول الخصوصية، حول ما يُسمح لك بوضعه على الإنترنت، وحول مسؤولية الأنظمة الأساسية. والشيء الوحيد الواضح، هو عودة المكبوتين في هذه المجتمعات للتصرف بطرق غير مقبولة بالضرورة في المجتمع، لأنهم يشعرون بالأمان في فقاعات الإنترنت هذه، وهذا أمر مخيف للحكومات الغربية والصين على حد سواء.
وعلى الرغم من صعود تهديدات الخصوصية من داخل الولايات المتحدة نفسها والمتمثلة بفيس بوك، لكنها تخشى فقدان السيطرة على الصين. يبين الكتاب أن الخوف الأكثر جوهرية في مشاركة دول أخرى عملية السياسية والسيطرة عليها، ولهذا السبب لا يُسمح للمواطنين الصينيين بامتلاك تيك توك أو الذهاب إلى فيس بوك أو استخدام تويتر، ولكن هناك أيضاً قلق متزايد بين المواطنين بشأن رأسمالية المراقبة، ومخاوف بشأن نماذج الربح التي تتعقب بياناتنا وتتلاعب بسلوكنا.
ويؤكد ليناردو أنه يتعين علينا أن نصبح أكثر وعياً بما يحدث، وبالتالي يمكننا تطوير معايير لتنظيم وتخفيف الخطر. فخلال الحرب الباردة، كان أكبر خطر على البشرية هو خروج الأسلحة النووية عن نطاق السيطرة، فتم إنشاء سلسلة كاملة من القواعد والأنظمة للحد من التسلح للتخفيف من هذا الخطر. وعلى الرغم من أن صراعات الاتصال أكثر شيوعًا وأكثر فاعلية وفتكاً من الحروب التقليدية، فإننا لا ندرك حقًا أنها تحدث، وليس لدينا حتى مصطلح لوصفها. المشكلة هي النظرة للعولمة من منظور عالمي شمولي؛ فإذا نظرنا إلى العالم ككتلة واحدة، فإن الإجابة الواضحة أن الأمور تسير على ما يرام، فنحن أغنى بكثير مما كنا عليه من قبل، ولدينا تكنولوجيا أفضل بكثير. في المقابل، معظم الناس لا ينظرون إلى العالم بهذا الشكل، إنهم يفكرون في أنفسهم ويقارنون أنفسهم بالآخرين. لقد غيّر الاتصال العالمي بشكل أساسي من نقارن أنفسنا به، ولم يعد الأمر يتعلق فقط بالمحيط المحلي.
وفي المجمل، يلتقط الكتاب ببراعة الاضطرابات التي ولّدها الترابط العالمي، حيث تتمثل الأطروحة الأساسية في أن الاتصال يجب أن يقربنا جميعًا من بعضنا البعض، ولكنه أدى بذلك إلى ظهور العديد من النزاعات. ولسوء الحظ، غالباً ما تكون هذه الأطروحة غارقة في تيار هذه التحديات التي لا نهاية لها، والتي تتراوح من الشعبوية إلى الحرب غير المتكافئة، وعدم المساواة إلى المنافسة على السلطة الجيوسياسية. يقوم الكتاب بعمل رائع في جعل القراء على اطلاع دائم بالتحديات العالمية التي يشرحها بالتفصيل. تم تضمين الكتاب في قائمة الفايننشال تايمز لأفضل الكتب لعام ٢٠٢١م. ولسوء الحظ، غالباً ما يفشل المؤلف في الربط بين القضايا التي يثيرها في فرضيته المركزية، من حيث دعمها بالحجج المقنعة بعيداً عما يريده القارئ الغربي.
تفاصيل الكتاب:
اسم الكتاب: عصر اللا سِلم: كيف يتسبب الاتصال في الصراع
المؤلف: Mark Leonard
الناشر: Bantam Press
سنة النشر: ٢٠٢١
عدد الصفحات: ٢٤٠
اللغة: الإنجليزية
