ماثيو كيت
سعيد بوكرامي
شيد عالمنا المعاصر أساسا على الخدمات اللوجستية، ويشهد على ذلك العدد الكبير من الشركات والمتدخلين الذين يكرسون طاقتهم لنقل البضائع المستهلكة إلى جميع أنحاء العالم: لقد أصبح تداول البضائع محركًا أساسيًا للرأسمالية المعولمة. كيف هيمنت هذه العقلانية التجارية على الاقتصاد العالمي؟
نلاحظ في السنين الأخيرة انتشار المستودعات الشاسعة في أغنى البلدان التي حلَّت محل المصانع المهجورة. في حين تضمن الدول الفقيرة (بسبب انخفاض قيمة المواد الخام واليد العاملة) تصنيع وتجهيز السلع التي تجوب الكوكب من أجل شرائها واستهلاكها. إذا كان العالم الصناعي والتجاري هو الذي أعطى للعقلانية اللوجستية أكثر أشكالها إنجازًا ونجاحًا، فإنِّه يمتد الآن ليشمل أنشطة سكان الأرض جميعهم. من سياسات الهجرة إلى الممارسات الثقافية، ومن الحفاظ على البيئة إلى العلاقات الإنسانية، لا نكاد نجد مجالاً من مجالات الحياة لا يخضع لإدارة التدفق، باعتبار طموح الهيمنة المبدأ الأساسي للتسيير اللوجيستي.
حان الوقت لنسأل أنفسنا، كيف يحكم المجال اللوجستي حياتنا؟ يجيب هذا الكتاب المهم على كثير من الأسئلة المرتبطة بنظام التدفق التجاري الذي أضحى يتحكم تدريجيا في ميولاتنا ورغباتنا الاستهلاكية. يحاول الكتاب تفكيك آليات التدفق وابتكاراته وتصوراته التي تسعى إلى امتلاك حركة المرور والنقل والهيمنة عليها. هل هناك أجزاء من الحياة البشرية لم تخضع بعد للعقل التجاري أو للتفكير اللوجستي؟ من خلال المطالبة باعتماد نهج شمولي للخدمات اللوجستية، يقترح ماثيو كيت الإجابة على هذا السؤال. ويبدأ أولاً بتعريف اللوجستيات على نطاق واسع، على أنها "فن النقل والتنقل، والذي كان منذ الحروب القديمة ينحصر على نقل الطعام والأسلحة والحيوانات والرجال من منطقة إلى أخرى" (ص 11).
يسلط هذا التعريف الضوء على الأصل العسكري للوجستيات الذي انتشر أخيرًا في المجتمعات المعاصرة كلها، والتي أصبحت هي نفسها "مجتمعات التدفق"، حيث تتجاوز اللوجيستيات الحدود والمناطق التي تكون عادة معزولة أو محاصرة "(ص 15). في الواقع، إن هدف ماثيو كيت يتمثل في إبراز أن الخدمات اللوجستية ليست فقط "وظيفة نقل مهمة" (ص 13) ولكنها "تُنظم الاجتماعي ؛ والمجتمع؛ وتبني الحدود الدولية وتلغي عدم المساواة؛ وتساهم في بناء بيئة عالمية، تنفذ رؤية جديدة للعالم "(ص 15). يعتمد هذا الكتاب على مرجعيات عديدة منها الأنثروبولوجيا الاجتماعية للعلم والتكنولوجيا وجزء من المنهج العسكري، ويتكون الكتاب من سبعة فصول، حيث نجد مساهمات تاريخية بديلة، والنتائج الحالية تمعن في وسائل "عرقلة" الحركة وحركة التدفقات.
يفتح الفصل الأول "الصندوق الأسود للشحن" ويقترح تحليل حركة الحاويات وتطورها. وفي هذا السياق يؤكد المؤلف على أن هناك "سباقا نحو الضخامة" لسفن الحاويات الكبيرة، حيث ساهمت الزيادة في حجمها في الزيادة الإجمالية في حجم التجارة الدولية التي ارتفعت "من مائة مليون طن في عام 1980 إلى ما يقرب من ملياري طن في عام 2017 (ص 23). في الواقع، منذ عمليات التبادل الأولى في القرن الحادي عشر وحتى اليوم، حدث تغيير كبير في الحجم التجاري والذي قدم له ماثيو كيت وصفا وقياسا دقيقا. في الوقت نفسه، أدى هذا النمو إلى ظهور ما يسميه ديفيد جابوريو "مصانع الحاويات"، أي المستودعات التي تنتشر في البلدان اللوجيستية مثل موانئ بعض العواصم العالمية والتي تتراكم أكثر فأكثر، لتساهم هذه البضائع في إثراء شركات النقل العالمية (كما هو الحال فيدكس وأراميكس وأمازون) والتي تتداول بضائعها على النحو الأمثل بفضل "ترسانة من الأدوات والتقنيات" (الصفحة 26) المتمثلة في المنصات، وشفرات التعرف، والعربات، والبرمجيات، إلخ. باختصار، فإنَّ المؤلف يقوم إذن بتفكيك شبكة الرأسمالية المعولمة، أو بالأحرى غرفتها الخلفية، كما أنه لا يغفل أي جزئية من التفاصيل التي لا يعرفها القراء. كما يؤكد على أهمية خيار التركيز على "سلاسل التوزيع" بدلاً من الشركات فقط، وبالتالي يجلي أمامنا ظاهرة خدمات الشراء المعممة على نطاق دولي، وفقًا لمبادئ الإدارة الانسيابية. تؤدي "رأسمالية سلسلة التوزيع" (ص 33) إلى اعتماد اقتصاد متبادل في منتهى القوة بين البلدان المختلفة، وبالتالي، ينعكس ذلك على إدارة رشيقة للتدفقات المتمثلة في عمليات تجميع المعلومات، والنقل، والجرد، والتخزين، والمعالجة المادية والتغليف.
ينبهنا ماثيو كيت، إلى أن اللوجيستيات لم ترتبط دائمًا بتنظيم التوزيع المادي للبضائع، وأنها كانت لعدة قرون "عِلمًا عسكريًا" (ص 33). حدثت نقطة التحول المعرفية خلال الحرب الباردة، عندما دخل المصطلح عالم الإدارة من خلال ما يسميه المؤلف "البحث العملي"، وهو نشاط يتطلب تجنيد "عدد كبير من المهندسين والعلماء والاقتصاديين لترشيد وتحسين المجهود الحربي (ص 35). ومع ذلك، فإن تطبيق هذه التقنيات لم يتوقف بعد الحرب، بحيث ظهر أن تلك الجهود يمكن تطبيق نتائجها في مجالات الحياة كلها، مما أفسح المجال لعلم اللوجستيك إذ سرعان ما تطور مع عالم الأعمال، مما خلق علما حقيقيا لحوكمة الشركات الذي يهدف إلى "تحديد أكثر الطرق فعالية لإدارة التدفقات" (ص 45). ويهدف مبدأ التجارة الحرة في مجتمع معولم إلى تعزيز قوة الخدمات اللوجستية كوسيلة "لتحسين التداول" (ص 65)، والتي امتدت من الممارسات الإدارية إلى تنظيم المجتمع.و تكمن أصالة الكتاب في الدراسة الدقيقة لتوسع علم اللوجيستيات أو إدارة التدفق، ليس فقط لتشمل عالم الأشياء/ البضائع أو الموضوعات أو الإنتاج ولكن لتشمل المجتمع بأسره.
يمكن أن تكون هذه الموضوعات أشخاصًا يعتبرهم التفكير اللوجستي موارد وتدفقات ومخزونات توجه نحو اتجاه محدد مثل (المهاجرون، والمرضى في المستشفيات، وإنشاء نقاط ساخنة، أجهزة مكافحة المشردين، ونقاط التفتيش، إلخ). نجد الكائنات الحية والطبيعة معنية أيضًا كما نجد (إدارة السكان، والحيوانات، والطعام، إلخ). وبطريقة لا مادية، يشير المؤلف إلى مسألة اختلاق الذاتية الجديدة "الأكثر ملاءمة لمنطق الربح للرأسمالية المعلوماتية (ص 57). هذا هو الحال بشكل خاص مع فئة الرمز/ الكود، والتي تميل إلى الاختزال لتبلغ أبسط وظائفها العملية، والتخلص من "قضايا التفسير والتمثيل" (ص 58). يأخذ المؤلف هنا مثال البطاقة المصرفية التي تلعب دورًا لوجستيًا بشكل أساسي لأنها (رمز بدون محتوى دلالي)، وكما يسوق مثالا حيّا يتمثل في عدد مشاهدات محتوى يوتيوب(دون معرفة ما إذا كانت هذه "المشاهدات" مهتمة ومركزة). لكنها تخلق تدفقا ماديا وتجاريا.
على المستوى المادي، يوضح ماثيو كيت أيضًا الطريقة التي تستعاد بها تأثيراتنا، التي تجمع البيانات من الوسائل الرقمية وتحويلها "إلى بيانات سلوكية مناسبة وقابلة للتداول" (ص 61)، كمعلومات من قبل الشركات الرقمية لتسهل على المستخدم الوصول السريع إلى التدفقات، مثل الإعلانات على سبيل المثال (يعتمد المؤلف هنا على عمل شوشانا زوبوف "سواء أحببنا ذلك أم كرهنا، فقد بدأنا في التفكير مثل الآلات على أمل أن تخدمنا هذه في وقت لاحق" (ص 62) ). أخيرًا، على مستوى الاقتصاد الكلي، ينطبق تمديد الخدمات اللوجستية أيضًا على تدفق الأموال والعملة. ويذكرنا ماثيو كيت هنا بواقعة الغاء القيمة النقدية في الهند عام 2016، والتي كان الهدف منها "الإشراف على تدفق الأموال" عبر عملية لوجستية مالية محضة.
وضعت هذه المجالات كلها "تحت نير مشروع السيطرة الذي يكون أفقه الأساسي تجاريا وأداته الترشيد التقني" (ص 71). وهكذا، تظهر اللوجيستيات كنشاط سياسي بارز، هدفه تجاري ومبدأه رأسمالي، بمعنى أن فائض القيمة يأتي من تعظيم وتكثيف التداول والسيطرة على العمليات من خلال "العمليات اللوجستية". يشير ماثيو كيت إلى وجود عيوب في هذه المنظمة المعقدة، على الرغم من المراقبة الدائمة للتدفقات. وتتعلق هذه "المناطق المعتمة" بالتدفقات غير القانونية التي تهرب من الدول أو المنظمات وتترك "الرأسمالية اللوجيستية عمياء بين القانوني وغير القانوني، والأخلاقي وغير الأخلاقي" (ص 92)، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: تهريب العملات، والعمليات غير المشروعة ( الاتجار بالمخدرات أو المعادن النادرة)، ونقل النفايات، وإعادة التصنيف الاحتيالي للسلع (لحوم الخيول المعاد تصنيفها على أنها لحوم أبقار، إلخ).
يؤدي النمو الدائم للتدفقات إلى مظاهر متناقضة، تبرز من ناحية،في العنف الاجتماعي الذي يمارس ضد العمال (ضغط الأجور والاستثناءات من قانون العمل - لا سيما في المناطق الحرة - والتكاوين الوهمية، والضغط الإداري، إلخ) ومن ناحية أخرى، تتمثل في ظهور التوترات الجيوسياسية بسبب المنافسة بين الدول.
في الجزء الثالث يركز الكتاب على وسائل وقف أو إعادة توجيه هذا التكثيف المتزايد للتدفقات والعنف الاجتماعي الممارس في أعقابه. بتعبير أدق، يدعو ماثيو كيت على وجه التحديد عمال الخدمات اللوجستية للنضال ومقاومة العبودية الرأسمالية، فيحثهم على الضرب حيث يوجد الألم " مباشرة داخل البورصات" (ص 124). وهنا يعود الكاتب إلى أعمال بيفرلي سيلفر، مذكرا أن أكثر من ثلث المنازعات العمالية المسجلة بين عامي 1870 و1996 حدثت في عالم النقل. في الواقع، على الرغم من أن العاملين في هذا القطاع يشاركون بنشاط في إثراء الاقتصاد العالمي، إلا أنهم غالبًا ما يكونون آخر من يستفيد من الثروة المتاحة والمتعاظمة ( حققت شركات اللوجيستيك في السنوات الأخيرة أرباحا خيالية). إن المستخدمين يحتلون بشكل عام مكانة استراتيجية في النضالات (التي تتجاوز النزاعات العمالية البسيطة)، لأن لديهم إمكانية تحويل أو تحريف أو إيقاف حركة التدفقات (وبالتالي "سد عنق الزجاجة" ص 121) والتأثير بشكل مباشر على رأس المال من خلال "قطع الإمدادات " (ص 98). لهذا يدعو ماثيو كيت جميع المواطنين إلى تفضيل "الدوائر القصيرة" للتجارة، لكسر التدفق، من أجل إنشاء خدمات بديلة، "تغيير الخدمات اللوجستية" والاعتماد على المنتجات المحلية (ص. 138).
وبناء على ما سبق يعتقد عالم الاجتماع ماثيو كيت أن "اللوجستيات تتدخل حيثما أمكنها ذلك". هل هي التنظيم البسيط لنقل البضائع في عصر العولمة؟ ينفي ماثيو أن تكون بهذه البساطة؛ لأن الخدمات اللوجستية تحمل معها نهجًا عالميًا للاقتصاد وطريقة جديدة في التفكير لا نزال بعيدين عن قياس تحدّياتها. ولفهم أوسع وأعمق يعود الكاتب إلى أصلها العسكري، ومن هنا طموح التفكير اللوجستي إلى غزو التجارة العالمية عبر تسيير وتدبير دقيق للإدارة الرشيقة، وصناعة الموظفين الجدد القادرين على تنفيذ خططه وابتكار خطط جديدة؛ لتوفير الموارد أو تدبير مدخلات إدارتها على النحو الأمثل. وإذا أصبح الأشخاص والبضائع قابلين للتبادل، فلأننا نفكر الآن بالطريقة التي تريدنا إدارة التدفق أن نفكر بها، سواء أكان الأمر يتعلق بالسكان المستقرين أو بمهاجرين أو بيانات أو معاملات مالية أو بالقطاعات الصحية. وهنا يحيلنا الكاتب على جائحة كوفيد، التي أفرزت مجموعة من المشاكل تتراوح بين انتشار الفيروس إلى توجيه المرضى، من خلال توزيع الأقنعة والمواد المعقمة واللقاحات. ولكن مع رغبتها في التحكم بسيولة كل شيء وبذلك التحكم في سلسلة التوريد ("السلسلة اللوجستية")، وخفض التكلفة وتقصير الدوائر، وبذلك تتمكن هذه العقلانية الاقتصادية الجديدة من معالجة البيانات واتخاذ القرار، والتحكم في المستهلك وفق التغييرات الاجتماعية والثقافية التي تكون وليدة الواقع وتحولاته سواء في حالة السلم والاستقرار أو في حالة الأوبئة والحروب.
في الفصول جميعها، يبلور ماثيو كيت أفكاره ويكشف بالتناوب عن ملاحظاته التي تمزج بين الكتابة الأكاديمية والكتابة الأدبية ( مع استحضار شواهد عديدة منها على سبيل المثال لا الحصر: الرحلات الطويلة في البحار، وكراسات الملاحين والتجار ويومياتهم). قد يكون استخدام هذه السجلات المختلفة أمرًا مربكًا في بعض الأحيان، خاصة وأن هناك الكثير من المعلومات التي يوظفها الكاتب ومنها ما يرتبط ببيانات الخدمات اللوجستية العالمية. في اعتقادنا تصبح أطروحة المؤلف أكثر إقناعًا -بعيدا عن خطابه الوصفي –عندما تتعلق بتحليله للتفكير اللوجستي باعتباره التفكير العقلاني القائم على مبدأ الغزو التجاري بما يوفره من ترسانة رهيبة لأجل استمرارية سلسلة التوريد دون توقف كيفما كانت الظروف السياسية والإنسانية والبيئية، لتحقيق الميزة التنافسية وزيادة الأرباح.
تفاصيل الكتاب:
الكتاب: التدفقات التجارية: كيف يحكم التفكير اللوجيستي العالم
المؤلف: ماثيو كيت
دار النشر: دار زون. باريس. فرنسا
سنة النشر: 2022
عدد الصفحات: 176 ص
اللغة: الفرنسية.
