الليبرالية والتسخطات منها

الليبرالية.jpg

فرانسيس فوكوياما

محمد الشيخ

بعد إعلانه إعلانا واثقا عن نهاية التاريخ بانتصار الدولة الليبرالية المرتبطة باقتصاد السوق على منافساتها من الأنظمة الإيديولوجية التي وضعتها البشرية (1992)؛ وبعد إبدائه في كتابيه اللاحقين ـ  "أصل النظام السياسي" (2011) و"النظام السياسي والانحطاط السياسي" (2014) ـ محاولته إعادة كتابة "نهاية التاريخ وخاتمة البشر" بإدخال تعديلين على نبوءته: 1- صعوبة تطوير دولة حديثة لا يطغى عليها الطابع الشخصي ـ الأوتوقراطي. 2- إمكان تراجع أية ديمقراطية ليبرالية حديثة؛ وبعد استدراكه في كتابه ـ "الهوية: مطلب الكرامة وسياسة الضغن" (2018) ـ بالتذكير بأهمية الاعتراف بالهوية؛ ها هو فرانسيس فوكوياما يعود إلى تفصيل القول في حال الليبرالية اليوم وفي البديل الذي يراه عنها؛ والذي ما كان شيئا آخر ـ ولا مفاجأة ثمة! ـ سوى الليبرالية عينها ـ إذ هي الداء وهي الدواء الذي لا محيد عنه ـ لا "الليبرالية الجديدة" وإنما "الليبرالية الكلاسيكية". 

يعلن فوكوياما عن سياق وضع هذا الكتاب: "أكتب هذا الكتاب في حقبة باتت تواجه فيها الليبرالية العديد من الانتقادات والتحديات، وصارت تبدو للعديد من الناس وكأنها أدلوجة عتيقة ومستهلكة تخفق في الجواب عن تحديات هذه الأوقات". ويلاحظ أنه ما كانت هذه أول مرة تنتقد فيها الليبرالية؛ إذ ما أن صارت هي أدلوجة معيشة فجر الثورة الفرنسية حتى هاجمتها الانتقادات الرومانسية التي رأت فيها أنها مبنية على رؤية للعالم حسابية عقيمة. ثم هاجمها القوميون، إبان الحرب العالمية الأولى، ممهدين السبيل للشيوعيين الذين عارضوها. على أنها صمدت رغم التحديات، بل تحولت إلى مبدأ تنظيمي مهيمن نهاية القرن العشرين. وبقاؤها ينهض، في رأي المؤلف، على أن لها تسويغات عملية وخلقية واقتصادية تجتذب الكثير من الناس؛ لا سيما بعد أن جرّبوا بدائل تبدت غير مقنعة. ولهذا الداعي، بات من الضروري ـ وهذه هي دعوى الكتاب الأساسية ـ إحياء مسوغات الليبرالية، ولكن أيضا تحليل الدواعي التي تجعل الكثير من الأفراد يرون أنها باتت غير متوفرة اليوم. وهو يقر أنه أفنى قسطا كبيرا من عمره باحثا في السياسة العمومية ومعلما وكاتبا، وأنها جالت بخلده أفكار لا حصر لها حول المبادرات الخاصة التي يمكن اتخاذها لتحسين العيش في الديمقراطيات الليبرالية المعاصرة. وها هو يتقاسم مع القارئ بعض هذه الأفكار بالوقوف على المبادئ الأساسية التي يستند إليها الأنموذج الليبرالي، مؤكدا على أن هذه المبادئ تبقى أسمى من مبادئ البدائل غير الليبرالية.   

 

الليبرالية: التسخط

يلاحظ فوكوياما أن الليبرالية باتت في تراجع اليوم أمام موجات التسخط من جانبين: 1- الشعبوية (أوربان بهنغاريا، كازينسكي ببولندا، بولسانو بالبرازيل، أردوغان بتركيا، ترامب بأمريكا) التي باتت تهاجم المؤسسات الليبرالية الأساسية: المحاكم والنظام القضائي، الجهاز البيروقراطي غير المتحزب، استقلال الإعلام ... بحيث صار كل المحافظين يرون في الليبرالية، بدفاعها عن استقلال الفرد، تهجما على معنى "الحياة الطيبة" التي تدعو إليها الأديان والتقاليد الثقافية. وأمسوا يرون فيها تهديدا لمعتقداتهم العميقة، تساعدها في ذلك الصحافة والجامعات والمحاكم. 2- اليسارية التي تلوم على الليبرالية عنايتها بالفرد وإهمالها للجماعة، ودفاعها عن المساواة الكونية المجردة بين الأفراد، وعن حرية الخطاب، وعن العقلانية العلمية ... وأطروحة المؤلف بهذا الصدد أن هذا التسخط لا يتعلق حقيقة بضعف معتبر في المذهب الليبرالي، بقدر ما يتصل بالسبيل الذي سلكه تطور الليبرالية لدى الأجيال المتأخرة ضمن ما بات يعرف باسم النيوليبرالية، والذي تأدى إلى تزايد حاد في التفاوت الاقتصادي والاجتماعي وإلى أزمات مالية اجتاحت العالم وصدمت أفناء الناس. إذ تحولت الليبرالية إلى أساس أيديولوجي لاقتصاد السوق؛ ومن ثمة باتت، في اعتبار العديدين، متورطة في أنحاء التفاوت التي نجمت عن الرأسمالية. وبات هؤلاء المتسخطون يدعون إلى إيجاد بديل جذري لليبرالية، حتى لو كان عنيفا. والمفترق بين المتسخطين: التسخط الأول آت من اليمين، وهو تسخط مباشر وسياسي، والثاني آت من اليسار، وهو تسخط ثقافي وغير مباشر. والمشترك بينهما: كلاهما لا يناقش جوهر الليبرالية، وإنما تبدياتها. 

 

الليبرالية: الجوهر

حقيقة الليبرالية أنها حل مؤسسي لمشكلة حكم التعددية، أو هي: "طريقة سلمية لتدبير التنوع في مجتمعات تعددية". وأهم مبادئها عند روادها الأوائل (هوبز، لوك، روسو، جيفرسون، كانط) التسامح والملكية الخاصة وحرية السوق. ومن شأن هذه المبادئ أن "تُسوِّغ" اختيار الليبرالية وتفضيلها على غيرها من الأنظمة السياسية: 1- التسامح. لكل أن يعتقد ما شاء، لكن في حياته الحميمية، لا يفرض وجهات نظره على مواطنيه. وفي هذا تسويغ عملي لليبرالية: لو أن مجتمعا تعدديا أعرض عن الليبرالية واتبع فكرة الهوية القومية المبنية على العرق أو الجماعة أو الدين، أو أي تصور جوهري للحياة الطيبة، لعاد هو إلى الصراع العنيف. 2- كرامة الإنسان. لليبرالية تسويغ ثان خلقي هذه المرة؛ وهي أن الشأن في المجتمع الليبرالي أنه يحمي كرامة الإنسان ضامنا للمواطنين حقا متساويا في الاستقلال بأنفسهم: إذ لكل واحد أن يحيا وفق ما يرتسمه لنفسه من غاية. 2- النمو. التسويغ الثالث لليبرالية له صلة بالنمو الاقتصادي وبالتحديث. إذ لكل إنسان المقدرة على أن يبيع ويبتاع ويستثمر بحرية في سوق حرة. 

 

الليبرالية: الانحراف يمينا ويسارا

حدث أن تم الانحراف بالليبرالية نحو منحيين: يميني ويساري. فأما الانحراف يمينا فقد حققه "ليبراليو اليمين" الذين اختزلوا قيم الليبرالية كلها في "الحرية الاقتصادية". وأما الانحراف يسارا فقد قام به "ليبراليو اليسار" الذين اختزلوا قيم الليبرالية سائرها في "استقلال المرء بنفسه" و"تحقيق الفرد لذاته". وهكذا، فإن ثمة شيئين أفسدا الليبرالية: اقتصاديو السوق الحرة في اليمين، والنقاد الثقافيون في اليسار. الأوائل حولوا حرية السوق إلى ديانة يتعبدون بها، والثواني صيّروا فكرة الاستقلال إلى عبادة هوية. من جهة أولى، تم الانحراف من الليبرالية الكلاسيكية إلى الليبرالية الجديدة؛ وذلك بجهد من مدرسة في الفكر الاقتصادي ارتبطت بجامعة شيكاجو وبالمدرسة النمساوية وبعلماء اقتصاد (فريدمان، بيكر، ستيجلر، ميسز، هايك) أنكروا دور الدولة في الاقتصاد، وركزوا على فكرة أن الأسواق الحرة محفزات للنمو وموزعات فعالة للموارد. وهو ما تجسد في سياسات تاتشر وريجن. وقد أثمر ذلك عن النزعة الحُرَّانية (الليبرتارية) المناوئة للدولة. والحال أن الأصل ألا تعارض، عند فوكوياما، بين الليبرالية بمعناها الأقوم والحماية الاجتماعية، ولَئِنْ صح أن الأفراد مسؤولين عن حياتهم وسعادتهم، صح أيضا أن ثمة ظروفا قد تفوق تحملهم. ومن هنا يأتي دور الدولة، على نحو ما أثبتته الجائحة الأخيرة. ومما طم الوادي على القرى مبالغة النيوليبرالية في الإعلاء من شأن الفرد حد التأسيس للفرد الأناني. وكـأن الإنسان ما كان إلا فردا ليس إلا، وكأنه ما كان كائنا اجتماعيا أيضا؛ شأنه أن يسعد باعتراف الغير به. ومن شأنه لا أن يرغب في أن يُعترف به الغير وحسب، وإنما أن يُعترف بمعتقداته الدينية وأدواره الاجتماعية وتقاليده الموروثة في إطار من قيم الاحترام والفخر والثبات على المبدأ والتضامن. ولو ما كان البشر سوى آلات تبحث عن تأويج منفعتها وحسب، لما دافعوا عن الأوطان، ولما انتخبوا. وما كانت النظرية الليبرالية بهذا الصدد خاطئة، وإنما هي غير تامة. 

ولَئِنْ هدد الأوائل الديمقراطية الليبرالية بخلق التفاوت المبالغ فيه، وعدم الاستقرار المالي؛ والذي انتهى بها إلى صدام مالي، ونمو بطيء، وتقشف شديد من دون تقديم بدائل لاجتياح العولمة؛ فإنَّ الثواني جنحوا بالليبرالية منذ الستينيات ـ ماركوز (التسامح قمعي)، باتمان (الليبرالية ذكورية)، ميلز (الليبرالية عنصرية) ـ نحو سياسة الهوية التي تقوض أسس الليبرالية نفسها. وبدل خدمة التعدد، وضعت سياسة الهوية استقلال الفرد تحت سطوة الجماعة. ذلك أنهم في البداية أطلقوا مفهوم الاستقلال إطلاقات باتت تهدد السدى الاجتماعي. ومثلما تم إحداث منعطف من الليبرالية الكلاسيكية إلى الليبرالية الجديدة، فكذلك تم إطلاق منعطف من ليبرالية لوك وجيفرسون إلى ليبرالية راولز. المنعطف الأول تم على أساس فوائد السوق، والمنعطف الثاني على أساس قيمة استقلال الفرد. وكلاهما غلو. إذ الذي عند راولز إطلاق مبالغ فيه لمبدأ استقلال الفرد وإعلاء من شأن "الخيار" إلى حد جعله فوق كل خيرات الإنسان الأخرى. وهكذا تم توسيع مفهوم استقلال الشخص من الاختيار ضمن إطار خلقي قائم ـ قيم جماعية ـ إلى اختيار الإطار نفسه بالتشكيك في قيم الجماعة تشكيكا مبالغا فيه. وحدث أن انقلب السحر على الساحر لما هي وُضعت الجماعة محل الفرد، فصارت كل جماعة فرحة بما لديها؛ أي بهويتها. وبالجملة، باتت كل أساسيات المجتمعات الليبرالية ـ التسامح مع الاختلاف، احترام حقوق الأفراد، حكم القانون ـ في خطر اليوم.

ومن العجيب، أن النقد اليساري لليبرالية أمسى يلتقي اليوم مع النقد اليميني لها؛ إذ صارت تُوظف أفكار فوكو ودريدا عن تمركز الإنسان الغربي على ذاته وعن سياسة تدبير الأحياء (كما لاحظنا في الجائحة) في مهاجمة الليبرالية والتشكيك في نزعتها الأولى إلى التحرر من الشعوذة والظلامية والتعويل على العقلانية والعلم؛ وذلك بالزعم أن: "لا شيء حق، كل شيء ممكن"، وأن لا علم ثمة إنما هي سياسة تدبر بليل، وصارت الجماعات تطالب بالاعتراف بها وتنتقد الليبرالية ومؤسساتها التي تعدها مؤسسات تهمش الهويات، مطالبة بمنح الجماعات كرامة واعترافا  على حد المساواة كما كانت قد وعدت الليبرالية الفرد ـ لا الجماعة ـ بمنحه الكرامة والمساواة. أكثر من هذا، ما عادت تطلب هذه الانتقادات المساواة للجماعة بل راحت تنشد التفوق لها (الجماعات اليمينية)؛ ومن ثمة باتت تنتقد هي "الكونية" و"الشمولية" ـ أساس الليبرالية ـ وتقول بالخصوصية والأصالة ...  

 

الليبرالية: البديل

ودعوى فوكوياما بهذا الصدد دعوتان: أولا، لا بديل عن الليبرالية؛ وثانيا، لا بديل عند الليبرالية اللهم إلا الليبرالية نفسها: الليبرالية الكلاسيكية بديلا عن الليبرالية الجديدة. إذ منذ مفتتح كتابه، يعلن أن البغية من كتابه إنما هي "الدفاع عن الليبرالية الكلاسيكية". وما هذه "الليبرالية الكلاسيكية" يا ترى؟ مثلما كان تحدث أصحاب جماعة "الاشتراكية أو البربرية" عن "اشتراكية ذات وجه إنساني"، يستعير فوكوياما من عالمة الاقتصاد الأمريكية ماكلوسكي ـ صاحبة كتاب: "لماذا تنجح الليبرالية: كيف تُنتج القيم الليبرالية الحقة عالما للجميع أكثر حرية ومساواة وازدهارا" (2019) ـ تعبير "ليبرالية إنسانية". هذا ويتمثل البديل الليبرالي عن النيوليبرالية وعن المتسخطين عليها، على حد السواء، في ستة مبادئ: 

تملك الليبرالية عنصر قوة عجيب: المقدرة على تدبير التعددية. هذا بينما المتسخطون عليها يجدون صعوبة في قبول التعددية. إذ جوهر اليمين القومي الشعبوي أنه عرقي قومي يخشى التعددية في العرق والإثنية والجندر والدين والتوجه الجنسي. وهو ما يلجؤه إلى إعمال العنف، بدل الاحتكام إلى حقيقة التنوع الديمغرافي. على أن هؤلاء يذهلون عن مقصد أساس من مقاصد الليبرالية؛ وهو أنه يمكنهم أن يفيدوا منها في إقناع الأجناس المخالفة التي تعيش بين ظهرانيهم بجاذبية الفكرة المحافظة، وهنا يمكن أن يتبنوا المبادئ الكلاسيكية: يحتاجون إلى القبول بواقعة التنوع الديمغرافي واستغلالها للدفاع عن القيم المحافظة التي لا ترتبط بجوانب جامدة من الهوية. أما اليسار النقدي، فلا يدرك التنوع إلا بمعناه الاجتماعي (العرقي، الإثنيي، الجندري، الجنسي)، لا بمعناه السياسي، لا ولا يدرك تعدد رؤى العالم الدينية، ولا يدرك أن أهدافه قد لا يتقاسمها معه قطاع عريض من السكان.

الحاجة إلى الدولة: ما فتئ الليبراليون الكلاسيكيون يقرون بهذه الحاجة، وعليهم أن يتجاوزوا الحقبة النيوليبرالية التي تمت فيها شيطنة الدولة وحسبانها عدوا للنمو الاقتصادي ولحرية الفرد لا يمكن تفادي عدائه. وعلى العكس من ذلك، لكي تشتغل الديمقراطية الليبرالية الحديثة الاشتغال الأقوم، تحتاج إلى مستوى عال من الثقة في الحكومة، لا ثقة عمياء، وإنما ثقة ناشئة عن أن الحكومة تخدم أهدافا عمومية جوهرية، بعيدا عن كل نظرية مؤامرة استعدائية ضد الحكم والحكومة تعتبرها فاسدة وعاجزة وغير شرعية. كلا؛ لا سبيل إلى إنكار الحاجة إلى مقدرة الدولة؛ أي إلى حكم يملك من الموارد البشرية والمادية ما يكفي لتأمين الخدمات الضرورية. وتحتاج الدولة الحديثة إلى أن تكون غير شخصية؛ أي تسعى إلى أن ترتبط بالمواطنين وفق أساس المساواة والتجرد، وليس على أساس شخصي وزبوني وعائلي. 

الحاجة إلى حماية حرية التعبير، مع فهم مناسب لحدود هذه الحرية: لَئِنْ حقَّ أن بعض الحكومات تهدد حرية التعبير، وهو محل قلق، فإن حرية التعبير يمكن أن تصير مهددة أيضا من لدن سلطات خاصة؛ شأن المجموعات الإعلامية ومنصات الإنترنت التي تضخم من قيمة أصوات على حساب أخرى. والجواب على هذا التحدي ما كان تدخل الدولة تدخلا مباشرا بآلتها التشريعية الثقيلة، وإنما تفادي الاحتكار وتشجيع المنافسة. ذلك أن المجتمعات الليبرالية تحتاج إلى حماية حوزة الخصوصية المحيطة بكل فرد. والحميمية شرط لتشجيع التشاور الديمقراطي والتوافق لَئِنْ رغب الأفراد في أن يبقوا نزهين اتجاه وجهات نظرهم، وما رغبوا في أن يتحولوا إلى قنافذ لا يوجد فيهم أملس. 

استمرار أولوية الحقوق الفردية على الحقوق الثقافية للجماعات: ذلك أن الأفراد لا يتحددون بالتمام بالانتماء إلى جماعاتهم، وإنما شأن الأفراد أنهم فاعلون بصفتهم الفردية هذه. وإذا صح أن الجماعات الهوياتية تؤثر في تكوينهم، فإنه يصح أيضا أن لهم اختياراتهم الشخصية. 

الإقرار بأن استقلال الإنسان بنفسه ما كان من غير حدود: ذلك أن المجتمعات الليبرالية تدعو إلى تساو في كرامة الإنسان، وهي كرامة تجد جذورها في مقدرة الأفراد على القيام باختيارات حرة. لكن، إذا كانت الاستقلالية قيمة ليبرالية جوهرية، فإنها ما كانت الخير البشري الذي شأنه أن يعلو على رؤى أخرى للحياة الطيبة علوا بالتلقاء. إذ ما كان كل كائن بشري يعتقد أن تأويج استقلاله الشخصي هو أعظم غاية لحياته، أو أن رفض كل سلطان عليه أمر حسن. فالكثير من الأشخاص يسعدون للحد من حرية خيارهم بقبول إطارات دينية وأخلاقية وثقافية تربطهم بالآخرين. وما كانت البشر بكائنات تشكل نفسها كما شاءت بما شاءت كيف شاءت أنى شاءت، وكأنها كائنات متخيلة افتراضية نخبة هواء لا طبيعة لها ولا ميراث ولا بيئة.

لا بد من الاعتدال: والاعتدال يعني تحكما في جموح النفس، وجهدا في كف الذات عن السعي إلى تحقيق أعظم الانفعال. وما كان من شأن هذا المبدأ أن ينطبق على حياة الفرد وحدها، وإنما شأنه أن ينطبق على السياسة أيضا. وهكذا، لَئِنْ كانت الحرية الاقتصادية في الشراء والبيع والاستثمار أمرا طيبا، فإن هذا ليس يعني أن إزالة كل الضوابط من النشاط الاقتصادي أمر أفضل. وإذا كان استقلال الفرد مصدرا لتحقيقه لذاته، فإن هذا لا يعني أن الحرية الجموحة تصيِّر الفرد أكثر اكتمالا. ومن ثمة، كان استرجاع معنى الاعتدال، فرديا وجماعيا، هو مفتاح إحياء الليبرالية نفسها.  

 

تفاصيل الكتاب:

عنوان الكتاب: الليبرالية والتسخطات عليها

اسم المؤلف: فرانسيس فوكوياما

دار النشر: بروفايل بوك

سنة النشر: 2022

أخبار ذات صلة