لوي كيري
سعيد بوكرامي
تتحكم عواطف الإنسان في طريقة إدراكه للعالم، وتضعه على المحك لتجعله يتصرف موظفا في الآن نفسه قدراته العاطفية والعقلية. إن البحوث الحديثة، التي تشمل علم الأعصاب وكذلك العلوم الإنسانية والاجتماعية، تميل إلى اعتبار العواطف محركًا لأفعال الإنسان، فهي توجهها نحو البيئة التي تصنعها وتقوم بتعديلها. يقترح هذا الكتاب استكشاف أوجه التقدم في علم العواطف، وإعطاء أهمية للبراغماتية، دون إهمال المقاربات الفينومينلوجية. وعلى النقيض من أطروحات علم الأحياء العصبية التي قد تقلل من قوة العاطفة البيولوجية، فإن المؤلف مهتم بالأبعاد الاجتماعية الثقافية والتعبيرية للعواطف التي يدافع عنها ديوي ويتغنشتاين. كما يتناول ظاهرة العواطف الجماعية من زاوية اجتماعية وأنثروبولوجية تبدأ من أعمال دوركهايم وماوس، للتأكيد على دور المجموعة في نشأة العواطف المدمرة في بعض الأحيان، ولكن الإبداعية أيضًا. وتحليل هذه الظاهرة حاسم لفهم الأحداث السياسية وما تثيره من عواطف اجتماعية، فضلاً عن الطقوس والممارسات الفنية.
يحلل عالم الاجتماع لوي كيري العواطف، سواء كانت فردية أو جماعية؛ فيقوم بتشريح هذه التأثيرات الشعبية التي تعتبر في الأصل أفكارا وردود أفعال. لا يوجد شيء أكثر كونية من العواطف؛ لأنها لا تخضع للزمان أو المكان، وتتجاوز الثقافة والتاريخ. في كتابه الجديد يسعى عالم الاجتماع لوي كيري إلى تعرية هذه الأسطورة. لهذا نجده يقول :" في الواقع، تختلف العواطف باختلاف السياق، والقيم التي تَعْبر وجود الأفراد. بمعنى آخر، العواطف قابلة للتغيير، والانحراف، والتعديل، والتوجيه. وبالتالي هناك عواطف قد اختفت، واستبدلت بعواطف أخرى، في الواقع، اختفت العاطفة جزئيًا من سياق المعتقدات والممارسات والأعراف والقيم التي جعلتها تتمظهر في وقت من الأوقات. علاوة على ذلك، تختلف العاطفة عن الإحساس. وهكذا، فإن ما يمكن أن يُنظر إليه على أنه شعور خاص بكل فرد يتبين أنه أكثر مؤسسية ولا شخصية، أي أنه "راسخ في مجتمع وثقافة معينة. ومع ذلك، لا ينكر المؤلف الظاهرة البيولوجية: لأن العواطف وظيفية للحفاظ على حياة الأفراد. وبناءً على هذا البحث الذي أنجز داخل الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية، عاد لوي كيري إلى أصل مصطلح "العاطفة" وبحث في جذوره، بحيث يذكر أنَّ الكلمة ظهرت في القرن الخامس عشر. في ذلك الوقت، كان لكلمة "عاطفة" معنى ازدرائي، يتردد صداه في الانتفاضة الشعبية. لكن مع مرور القرون، اتخذ هذا المصطلح المرتبط بالمزاج السياسي معنى آخر ارتبط بما هو "نفسي" ولا يختص إلا بالفرد. لكن لوي كيري سيستفيد من تحليلات داروين وجيمس حول العواطف، التي تتناول التأثيرات الجماعية بغض النظر عن العواطف الفردية. وتتجلى عموما في التأثيرات الإيديولوجية والسياسة، التي تبرز على سبيل المثال، خلال المظاهرات والمناظرات والمباريات إذ تحاول العواطف الجماعية فرض نفسها، كي تتحول إلى عواطف شرعية.
لا تنفلت هذه العواطف غالبًا من بعض الانحرافات: وبالتالي، يمكن أن تتحول إلى بغضاء مثلما نلاحظ( في الانتخابات السياسة ومباريات كرة القدم). يقتبس عالم الاجتماع مفهومه من نيتشه الذي يعتبر: "أن البغضاء هي أولاً وقبل كل شيء ذلك التأثير الذي ينشأ عن عجز المرء عن إخضاع من يصيبه بالأذى والجرح " ثم يتابع لوي كيري: " إن الإنسان الحاقد يسمم نفسه في سياق مستمر من الانغلاق". ولأن هذه المجتمعات أزعجت نظام القيم؛ فهي تفضل طرح قيم مرتبطة بالجمود على حساب القيم الحيوية. بالنسبة إلى كيري، يتضح أن التعليم هو أحد الحواجز التي تمنع العواطف من الاستنارة. إن الأمر يقتضي "تثقيف العواطف حتى تستنير بالذكاء" وحتى لا يتحول الشعور بالظلم إلى شعور بالعجز، يجب أن يكون الأفراد قادرين على الاعتماد على المجتمعات المنظمة، الخالية من التأجيج العاطفي على البغضاء وتقديم مؤسسات قوية تضمن لهم العدل، وإلا ستكون نتائج العواطف المدجنة والمسيّسة عداوات وحروب وكوارث إنسانية؛ لأن العواطف المعتدلة البعيدة عن مصالح النخب المستفيدة من النزاعات السياسية والعسكرية، تظل دليلاً على الصحة الجيدة للحياة السياسية والديمقراطية.
تشكل مسألة العواطف مشكلة علمية في غاية التعقيد: كيف نحددها؟ من أين تنبع؟ هل هي فطرية أم مكتسبة؟ هل هي كونية أم محلية؟ هناك الكثير من الأسئلة التي لا تزال دون إجابة، على الرغم من الأدبيات الكثيرة الموجودة حول العواطف في جميع التخصصات: الفلسفة، وعلم الأحياء، وعلم الأعصاب، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، إلخ. لذلك من البديهي أن يشكل العمل على العواطف تحديًا حقيقيًا لأي بحث علمي. ومع ذلك، يبدو أن عالم الاجتماع لوي كيري واجه هذا التحدي في كتابه "صناعة العواطف"، والذي يقدم انعكاسًا مبتكرًا ومحفزًا للغاية حول نظريات العواطف. يقدم عالم الاجتماع مجلدًا مهمًا من 426 صفحة، يتكون من جزأين رئيسيين: "العواطف: بين علم الأحياء والثقافة والمجتمع"، يتكون الجزء الأول من أربعة فصول. أما الجزء الثاني فيتألف من خمسة فصول، وجاء تحت عنوان "طبيعة وأشكال العواطف الجماعية". من خلال نظرة قرائية عامة، فإنَّ الكتاب يقدم بلغة تفسيرية بسيطة، حيث تتخلل كل فصل خاتمة مختصرة تجعل القراءة في غاية السلاسة. علاوة على ذلك، يضع عالم الاجتماع لنفسه هدفًا مزدوجًا يتجلى ماديًا في جزئي الكتاب. من ناحية أخرى، يتعلق الأمر بتقديم قراءة نقدية للأفكار السابقة حول نظريات العواطف في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع. ومن ناحية أخرى، يقدم كيري فرضيات مبتكرة حول ما يسمى بالعواطف الجماعية: من خلال مقاربة براغماتية، معتمدا خصوصا على نظرية جون ديوي حول السلوك، فيقوم بفحص العواطف في تمظهراتها الفردية والجماعية.
خصص الجزء الأول من الكتاب لمراجعة نظريات العواطف، بالإضافة إلى جوانبها البيولوجية والنفسية، والجوانب التقييمية والمؤسسية. يبدأ كيري بأول إشكال صعب ويتمثل في المصطلحات. في الواقع، لطالما كانت مصطلحات التأثير، أو ما يسميه فيتجنشتاين "لغة العواطف العادية"، مصدر التباس وارتباك. وهكذا يتتبع كيري تاريخ المفردات الدالة على التأثير والانفعال، وعلى وجه الخصوص كلمة "العاطفة": بداية سيبحث عن أصلها، ثم تطورها الدلالي إلى معنى سياسي مثل "الاضطرابات الشعبية، التي تثير" اختلالًا اجتماعيًا "" (ص 31) ) وانتقالها إلى معنى نفسي. سيشرح كيري لاحقًا (الفصل الثاني) أن مفردات العواطف والمصطلحات التي تتكون منها لا تنطبق على الإطلاق على حالات الدماغ بل تنطبق، كما يشير ماكسويل بينيت وبيتر هاكر، "على الكائنات التي تختبر العواطف وتظهرها في تصرفاتها". ثم يقدم كيري فصلًا ثانيًا مهمّا انتقد فيه أكثر نظريات العواطف شهرة، ولا سيما نظريات داروين وجيمس. وعند قيامه بذلك، اقترح عالم الاجتماع العودة إلى نظرية العواطف عند جون ديوي، وهي نظرية أقل شهرة من نظرية ويليام جيمس. في الواقع، إذا كانت نظرية الأخير معروفة بشكل أفضل، فإن كيري ينتقد مفهومها الثابت والخطيّ، لذلك فهو يعتمد على فكر ديوي، الذي يدعونا لفهم التجربة العاطفية بطريقة شمولية وليس بطريقة مجزأة. وبالتالي، فالمسألة لا يمكن ربطها بالعواطف مثل - الفرح، والغضب، والخوف - ككيانات مستقلة، ولكن يجب أن تؤخذ كتدفق عاطفي مختلط.
عند هذه اللحظة من التأمل، يطرح كيري فرضيته عن العواطف الموزعة. استنادًا إلى "الإدراك الموزع"، تشير الصيغة إلى اعتماد كيري على المنهج البيئي. وبالتالي، تُفْهم العواطف على أنها تجارب موزعة بين الكائن الحي والبيئة. يدعم عالم الاجتماع فرضيته بالفصلين التاليين (الثالث والرابع)، حيث يوضح أولاً أن السلوكات العاطفية تتشكل، وإن لم تتشكل بالكامل، بواسطة الظروف الاجتماعية والثقافية. ولتوضيح ذلك، يستحضر بعض الأمثلة عن العواطف التي لا توجد في الغرب، مثل العاطفة المسماة "فاغو"، والتي لاحظتها عالمة الأنثروبولوجيا الأمريكية كاثرين لوتز لدى شعب إيفالوك. وهكذا، فإن الطابع المؤسسي للذخيرة العاطفية يبرر بالنسبة له فرضية توزيع العواطف. ثم يفحص كيري طرق اشتغال العواطف، هذا "الاشتغال الذي تقوم به العواطف نفسها، وليس بواسطة الشخص الذي ينبغي عليه أن يدير عواطفه وتعبيراتها" (ص 213). في الواقع، يعتقد كيري أن العواطف تعمل وفق الموضوع و البيئة، بقدر ما "تعيد تكوين البيئة أو توحد أو تدمج التجربة؛ إذ يستعاد توجيه النشاط الحالي بحيث يمكن إكماله حتى نهايته "(ص 213). لكن فرضية العواطف الموزعة تتجاوز مجرد التوزيع البسيط بين الموضوع والبيئة لتشمل عدة مواضيع تعمل في البيئة نفسها. على هذا المنوال يتناول كيري في الجزء الثاني من كتابه مسألة أكثر تعقيدًا تتعلق بالعواطف الجماعية، من خلال طرح السؤال التالي: "كيف يمكن وصف هذه العواطف التي تُختبر جماعيا ويُعبر عنها في انسجام؟ (ص 217). للإجابة عن هذا السؤال، يبدأ عالم الاجتماع بمناقشة نموذج الجمهور، لا سيما في الأساليب التي يشار إليها عادة باسم "علم نفس الجماهير" منذ القرن التاسع عشر. يتقاسم كيري مع دوركهايم انتقاداته حول هذا الموضوع، ويفضل الوصف "الجماعي". ويشير إلى أن نظريات الجمهور قد أهملت على حساب العواطف الجماعية. ومن هذا المنظور، تعتبر العواطف أحد العناصر المكونة لأي مجموعة.
يعتمد عالم الاجتماع بعد ذلك على المناهج الفلسفية، لا سيما تلك المتعلقة بعلم الوجود الاجتماعي، في محاولة لمواجهة التحدي المتمثل في الفردية المنهجية، التي ترى في العواطف الجماعية مجموعات فقط من العواطف الفردية. يقدم كيري مجموعة من المقاربات، مثل تلك المرتبطة بالتّذَاوُت، حيث تتداخل عواطف الموضوعات و "تساهم في تزويد المجموعة بوعي أوضح عن الذات" (ص 263)، أو المقاربة الجماعية، حيث أن" الأفراد الذين يختبرون العواطف المشتركة [هم] جزء من التعددية غير المنظمة "(ص 280). ثم يدرس كيف يمكن أن يكون الانتماء إلى مجموعة ما معينا لا ينضب للعاطفة الجماعية، مستشهداً على وجه الخصوص بأبحاث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية حول الطقوس الجماعية. في الفصلين الأخيرين، يتعلق الأمر قبل كل شيء بالعواطف الجماعية في السياق العام اعتمادا على أفكار "موس" حول التعبيرات الطقسية - ولا سيما في حالة الحداد - سيحاول كيري فحص الأدوات اللغوية والرمزية للعواطف: "لكي تكون هناك عاطفة جماعية، يجب أن تكون هناك أداة ترميز تمثلها عن طريق الإيماءات والأفعال والحركات التقليدية. تمثل طقوس الجنازة هذه الآلية بحيث يتم إنتاج التعبير عن العواطف بشكل جماعي وسلوك جماعي "(ص 333). في حالة العواطف العامة، "لا تعطي المشاركة للعاطفة شكلها الجماعي، بل ترميزها في الفضاء العام، باستخدام الوساطات المادية والرمزية التي تتمظهر على شكل" فعل جماعي "(ص 352) . وبذلك، يُبين كيري أخيرًا أن العواطف الجماعية، المستثمرة في المجال السياسي، يمكن أن تكون مدمرة بل يمكن اعتبارها "لعنات للديمقراطية" (ص 222).
في الختام، لا يسعنا إلا أن نحيي ثراء كتاب صناعة العواطف، والذي تمكن من مواجهة مجموعة كاملة من التحديات المعرفية المتعلقة بالعواطف. في الوقت الذي نشهد فيه انتشارًا للأبحاث التي تكشف استغلال العواطف في الاقتصاد والسياسة والتوجيهات الايديلوجية. إن كتاب كيري يتميز عن غيره بقوة مقترحاته النظرية وصلابة فرضياته، لا سيما حول العواطف الجماعية.
تفاصيل الكتاب:
الكتاب: صناعة العواطف.
المؤلف: لوي كيري
الناشر: دار بيف. باريس. فرنسا.
تاريخ النشر: 2022
عدد الصفحات:425 ص
اللغة الفرنسية
