أسطورة الذكاء الاصطناعي: لماذا لا يستطيع الحاسوب أن يفكر بطريقتنا

أسطورة الذكاء.jpg

إريك .ج.لارسون

فينان نبيل 

كاتبة وباحثة مصرية

 

يروج  المستقبليون من علماء التكنولوجيا أسطورة عن حتمية وصول الذكاء الاصطناعي لمستوى الذكاء البشري مُستقبلا، أنه سوف يتفوق عليه، ويصبح أكثر موهبة منه، وماهي إلا مسألة وقت فقط. ويزعم البعض منهم أننا شرعنا بالفعل في هذا المسار، بينما يرى إريك لارسون مؤلف كتاب "أسطورة الذكاء الاصطناعي"، أن هذا المسار لا يوجد إلا في مخيلة أصحابه، وأن الخرافة لا تكمن في عدم إمكانية تحقيقه، إنما في كون أن مستقبل الذكاء الاصطناعي مجهول علميًا، وأننا لا نعرف على وجه التحديد إلى أين يتجه مساره؛ فهناك اختلاف جذري بين ذكاء الإنسان والآلة. بينما يصر المستقبليون على أن تلك الاختلافات مؤقتة، وأن الأنظمة الذكية الأكثر قوة ستمحوها في النهاية، يرى لارسون أن التقديس المفرط "للذكاء الاصطناعي" قد يؤخر التقدم، خاصة عندما يسيئ إلى الذكاء البشري الذي لا يمكن الاستغناء عنه كمورد أساسي في أي تقدم مستقبلي، بل إنه يمنع الابتكار ويشوه قدرتنا على تحقيق القفزات الإبداعية.

كشف لارسون أن هناك فجوة شاسعة بين العلم الفعلي الكامن وراء الذكاء الاصطناعي وبين الواقع، فلم توجد آلات ذكية على هذا المستوى، والادعاءات التي يتم الترويج لها ليست سوى أساطير، وما يحدث بالفعل مجرد استفادة بسيطة، وضيقة من أجهزة الكمبيوتر، وسرعتها، وحفظها للكثير من البيانات؛ فنحن لا نحرز تقدما بقدر ما نقطف الثمار الدانية، والأكثر ترجيحا أن الأمر سوف يتطلب إنجازا علميا كبيرا لاختراق الذكاء البشري العام، ولا يوجد أحد لديه أدنى فكرة عن الهيئة التي سيبدو عليها هذا الاختراق، وما هي  التفاصيل التي يجب أن نحصل عليها.

يؤدي التمسك بفكرة حتمية وصول الذكاء الاصطناعي إلى مستوى  الذكاء البشري  إلى عدم اتخاذ موقف محايد، كما يؤدي إلى إخماد ثقافة الإبداع الضرورية لتحقيق تقدم حقيقي نحو ذكاء اصطناعي على مستوى الذكاء البشري، وهو أمر غير جيد سواء للعلم أو لنا؛  فلن نحصل على إبداع حقيقي إذا تم تجاهل لغز أساسي بدلا من مواجهته، حيث يتم تهميش الاختراع الحقيقي لصالح الأحاديث المستقبلية التي تدعو إلى توجهات معينة، وكثيرا ما تكون تعبيرا عن مصالح راسخة لأصحاب رأس المال الذكي.

 

  قارن باحثو الذكاء الاصطناعي والمتحمسون له بين منهج التفكير الخاص بالذكاء البشري، ومنهج التفكير المنطقي الخاص بالذكاء الاصطناعي، وهو خطأ فادح؛ فالذكاء الاصطناعي الحديث يعتمد على "الاستدلال الاستقرائي" الذي تقوم من خلاله أجهزة الكمبيوتر بعمل ارتباطات إحصائية لتحديد النتائج التي يحتمل أن تكون صحيحة، بينما يعمل العقل البشري بشكل مختلف تماما؛ فهو لايربط بين مجموعة من البيانات، وإنما يصل لأفضل تخمينات من خلال السياق والخبرة، والملاحظة، والمعرفة الفعلية عن العالم، وليس لدينا أي أدلة علمية على كيفية برمجة هذا النوع من التفكير البشري المسمى "بالاختطاف"، على الرغم من كونه جوهر الحس السليم.

 عرض لارسون رحلة  الذكاء الاصطناعي منذ البداية، منذ أعمال "آلان تورينج" ( 1912-1954) المبكرة إلى النماذج السائدة للتعلم الآلي اليوم، ويعد الأخير رائد علم الكمبيوتر، والذكاء الاصطناعي.  أثرت أفكاره في تطوير علم الحاسوب النظري؛ حيث قدم صياغة رسمية لمفهومي الخوارزمية، والحوسبة باستخدام "آلة تورينج" والتي يمكن اعتبارها من بين النماذج الأولى للحواسيب، وكانت أجهزة الكمبيوتر آنذاك بطيئة وغير مبهرة بمقاييس اليوم، فسرّعت قليلا من الحسابات العلمية، وأمكن تغذيتها بمعادلات فيزيائية وشروط أولية لإخراج نصف القطر النووي، وسرعان ما أدركت شركة IBM) ) قدرتها على استبدال البشر الذين يقومون بالعمليات الحسابية للشركات، ولكن ظل النظر إلى أجهزة الكمبيوتر باعتبارها " آلة تفكير" ينقصها الخيال. نشر "تورينج" ورقة بحثية عن "آلات الحوسبة والذكاء، ذكر فيها نتائج ما يعرف باسم" اختبار تورنج"، وقد كان اختبارا صعبا لم يجتزه أي حاسوب، ومع ذلك كانت مخرجات الحاسوب، ونتائجه القابلة للملاحظة مشجعة لتبني وجهة نظر تعتبر الذكاء الاصطناعي علما مشروعا ذا هدف محدد جيدا. مع تبلور الذكاء الاصطناعي في خمسينيات القرن العشرين، اتفق العديد من رواد هذا الاتجاه وأنصاره مع تورينج، أن أي جهاز كمبيوتر يجري محادثة مستمرة ومقنعة مع شخص ما لابد أنه يفعل شيئا يتطلب التفكير- أيا كان نوع هذا التفكير-  رأى تورينج أن الآلات من الممكن أن تعمل تلقائيا، و يمكنها حل المشاكل التي تواجهها، دون أي مساعدة خارجية، أو ذكاء خارجي، ويقصد به العامل البشري. ساعد عمل تورنج عام 1936على تطوير"الآلات الحاسوبية" في إطلاق علم الحاسوب كتخصص، وغاب عن تعريف تورينج شيئ أساسي هو فكرة العقل، والقدرات البشرية التي تساعد في حل المشكلات، لقد كانت محاولة ذكية ناقصة.

 

عرض الكاتب إسهامات "جودل" حول الاستدلال، والتي تم تطويرها في مجالي المنطق والرياضيات، وأصبحت تستخدم أنظمة رمزية يتم استخدامها في مجال الحاسوب، موضحا أن هناك ثلاثة أنواع من الاستدلال:  الاستدلال التقليدي "الاستنتاج"، والاستدلال الحديث "الاستقراء"، و "الاختطاف". لكل نوع ما يميزه ولا يمكن اختزال أحدها في الآخر؛ لذلك فلن يكون ذا جدوى بناء أنظمة الذكاء الاصطناعي باستخدام الاستدلال الذي يقوم عليه الذكاء العام البشري. ميز جودل بين "الإبداع الآلى"، و"الحدس العقلي"، وتساءل هل يمكن اختزال حدس العقل وقدرته على فهم الحقيقة والمعنى إلى آلة، أوفي حاسوب. كان سؤال جودل محورا للتساؤل حول مفهوم "الذكاء الاصطناعي" على الرغم من عدم صياغة المصطلح آنذاك . أكد جودل على أمر هام أن أي نظام رياضي معقد لديه بعض القيود، وهي تسمح بالتعبير الدقيق عن الحقيقة، والزيف باستخدام أدوات الإثبات، ولكن هناك بعض الحقائق لا يمكن إثباتها، فهل يستطيع العقل البشري معرفة أشياء لا يستطيع النظام معرفتها؟ بالرجوع لمفهوم الحدس يمكن للبشر إدراك صحتها؛ فالنظام أعمى، والعقل بصير، والنظام له حدود، ويمكن للعقل البشري رؤية أشياءلا يراها الحاسوب.

فند الكاتب رأيا" لكورزويل"  كان قد نشره في كتابه "عصر الآلات الروحية"، والذي ذكر فيه أن الآلات كانت مهيئة لتلائم الإدراك البشري ثم تتجاوزه، وتبلورت الفكرة في كتبه اللاحقة، واعتبر أن تجاوز الآلات لقدرات الإنسان العقلية أمر حتمي، وسيكون التحدي فيما بعد هو  اللحاق بها، ومواكبتها، وقد انتقد  كل من "جزين سيرل"، و"توماس راي" تلك الفكرة، فقال سيرل إن أجهزة الكمبيوتر لا يمكنها فهم أي شيء، وقدم "دينتون" حجة قوية حول مدى تعقيد الخلايا العصبية الفردية، ومدى عدم كفاية فهمنا وقدرتنا على تقليد هذه الخلايا بشكل واقعي، ولم تقلل تلك الانتقادات من ثقة "كورزويل" المتوهجة لمستقبل الذكاء الاصطناعي القوي .

قدم لارسون حجتين رئيستين يؤكد بهما بعدنا عن حل مشكلة الذكاء الاصطناعي العام، الحجة الأولى،  تتمثل في طبيعة الاستدلال، والثانية على طبيعة اللغة البشرية، فيما يتعلق بالاستدلال، يوضح أن الاستدلال المعروف باسم" الاختطاف"، ليس له في الوقت الحالي أي تمثيل، أو تنفيذ حسابي مناسب، ومن المؤكد أن علماء الكمبيوتر يدركون حاجتهم إليه إذا أرادوا النجاح في إنتاج ذكاء عام اصطناعي. رغم محاولتهم لتشكيل مزيج من الاستدلال "الاستنتاجي، والاستقرائي"، فإن لارسون يوضح أن المشكلة أنه لا الاستنتاج، ولا الاستقراء ولا مزيجهما كافيين لإعادة بناء الاختطاف. تكمن مشكلة هذا التفكير الافتراضي أو التخميني، في أن نطاق  الفرضيات لا نهائي تقريبًا، ويمكن للذكاء البشري فقط، بطريقة ما، التدقيق في هذه الفرضيات وتحديد ذات الصلة منها، أما فيما يتعلق بطبيعة اللغة كسبب كون الذكاء الاصطناعي بعيدا عن الانطلاق، فقدرتنا على استخدام اللغة البشرية ليست مسألة نحوية فحسب، إنما تعتمد على دلالات، ومعاني الكلمات، بشكل فردي، أو في السياق المستخدم، وهدف المتحدث في التأثير على المستمع من خلال استخدامه للغة. ويرى لارسون أنه إلى الآن ليس لدينا طريقة لتمثيل المعرفة التي تعتمد عليها دلالات اللغة الرمزية  والبراجماتية. نتيجة لذلك، فإن الألغاز اللغوية التي يسهل على البشر فهمها،  والتي تم تحديدها منذ أكثر من خمسين عامًا على أنها أبعد من فهم أجهزة الكمبيوتر، لا تزال خارج نطاق قدرتها على الفهم حتى الآن؛ فمعالجة اللغة الطبيعية أمر معقد يحتاج إلى ترميز مجموعة الأنماط النحوية، والمعاني، والمبالغات اللغوية. يحتاج أي جهاز كمبيوتر لتحقيق الفهم في بعض المجالات إلى الكثير من المعرفة التي تستلزم برمجة مضنية، حتى برامج الألعاب على المستوى العالمي تحتاج إلى العديد من القواعد والاستدلالات المبرمجة بشكل صريح. على الجانب الآخر، لا يحتاج البشر إلى أي من هذا؛ فالعقل البشري يصل إلى استنتاجات صحيحة حول العديد من الأشياء تأسيسا على بيانات محدودة للغاية، أو غير مكتملة – رغم أننا لسنا معصومين من الخطأ-لكن المعجزة تكمن في  أننا نكون على صواب في أغلب الأحيان.

 ضرب لارسون مثالا آخر للإخفاق في عالم الذكاء الاصطناعي، حيث لم تستطع القيادة الآلية أن تصل إلى المستوى الخامس دون الحاجة إلى التوجيه البشري؛ فالسيارة ذاتية القيادة قد تصطدم بحافلة ركاب حرصا على تفادي شجرة، أو حائط؛ فالأمر هنا يتعلق بأمر التمييز البصري للأشياء. كذلك يشير إلى كيفية القيادة في بلد مثل "مولودوفا" حيث لا يوجد بها إشارات، وقواعد واضحة، ولا أحد يعرف كيف يتمكن السائقون من تفادي الاصطدام ببعضهم البعض، وكيف يتراجعون، لكن فقط سائقو مولودوفا يعرفون؛ إنه التواصل البصري بينهم، فهم يتواصلون لمعرفة من لديه استعداد للتراجع، ومن سيمضي قدما. وعلى هذا يمكن الوصول إلى المستوى السادس في القيادة بدون سائق إذا تعلمت أنظمة الذكاء الاصطناعي قراءة أعين السائقين لتحديد ما إذا كانوا سيكبحون أنفسهم، أو أنهم سيختارون الاتجاه  إلى اليسار، أو اليمين. يتضح من المثال أنه حتى مع زيادة قوة التعلم الآلي /العميق المتطور؛ فالأجهزة تتطور ولكنها لم تصل إلى الآن لمستوى الذكاء البشري. يجعلنا هذا المثال نقف على النطاق الكامل للقدرات المعرفية البشرية،لنعرف ما هي القدرات التي يحتاجها الذكاء الاصطناعي فعليًا لتحقيق ما يمكن أن يفعله البشر، فإن النقص الذي يواجه الذكاء الاصطناعي شديد.

 

أكد الكاتب أن ثقافة الترويج للذكاء الاصطناعي،تبسّط الأفكار حول الإنسان،وتضخّم الأفكار حول التكنولوجيا، كما يرى أن ثقافة الاختراع يجب أن  تقوم على استكشاف الأشياء المجهولة، وليس المبالغة في ترويج الأساليب الحالية. سيستمر الذكاء الاصطناعي الاستقرائي في تحسين المهام المتاحة، ولكن إذا أردنا إحراز تقدم حقيقي، يجب أن نتخلى عن الحديث المستقبلي،  وأن نتعلم كيف نقدّر الذكاء الحقيقي الوحيد الذي نعرفه بشكل أفضل – ذكاءنا نحن.

لم يكن لارسون مناهضا لفكرة الذكاء الاصطناعي وليس لديه رغبة في انتهائه، أو الكف عن البحث فيه فهو مساهم قوي في هذا المجال، ولكنه يحاول إخراج "أبحاث الذكاء الاصطناعي من عالم الخيال الذي تسكنه، فقد واجه مشكلة "الذكاء الاصطناعي العام" كما يفضّل أن يسميها بعقل متفتح؛ فهو يرى أنه يصعب أن تتمتع الآلة بحياة معرفية، وأن الذكاء الاصطناعي ليس لديه حلول يقدمها حتى يكون الذكاء البشري قابلا في النهاية للاختزال في آلة. لا يجزم لارسون أن الذكاء الاصطناعي أمر مستحيل،لكن ليس هناك أسباب للاعتقاد في حتميته؛ لذا فهو يتحدى من يروّج له، وإن ترك الذكاء الاصطناعي العام كإمكانية لمن يقدم أفكارا جيدة للمضي قدما. نجح لارسون في كتابه "أسطورة  الذكاء الاصطناعي" في إزالة أسطورة حتمية تفوّق الآلة على الذكاء البشري؛ فمثل هذا الاعتقاد لا أساس له من الصحة كما أن العلم والفلسفة لا يدعمانه.

 

تفاصيل الكتاب:

العنوان: أسطورة الذكاء الاصطناعي: لماذا لا يستطيع الحاسوب أن يفكر بطريقتنا

المؤلف: إريك .ج.لارسون

اللغة: الإنجليزية

الناشر:  اسبن-2021

أخبار ذات صلة