باولو مييلي
فاتنة نوفل
محكمة التاريخ -محاكمة التزوير هو أحدث كتاب لِباولو مييلي، المؤرخ والصحفي، يُحَقْق ويُناقِش نتائج الأحداث التي غالبًا ما أعطت أبطال الرواية عبر القرون حُكْمًا متسرعًا وافتقرت في بعض الحالات إلى جميع الأدلة التي يجب أن تأخذها المحكمة في الاعتبار ليقودنا إلى مراجعة الحقائق في ضوء مختلف. المسار الذي اتبعه الكاتب يعتمد على عاملين أولهما: عزل ووضع تحت العدسة مجموعة من التفاصيل التي تم إغفالها بسبب السطحية أو بدافع التحيز لتحقيق سابق في الأحداث والسلوكيات؛ ما تسبب بإصدار أحكام غير كاملة أو مشوهة. ثانيهما: من خلال التركيز على تفصيل واحد وإمكانية إجراء تحليل جديد يمكن أن يؤدي إلى "النظر من زوايا أخرى" وإعادة النظر فيها.
هناك عدد لا يُحْصى من مؤرخي اليوم الذين قاموا بإعادة قراءة للتاريخ، بعضهم معروف بالفعل لعامة الناس والبعض الآخر أقل شهرة؛ مثل فرانشيسكو بينينيو الذي يُوَضّح في كتابه طائفة La mala ويهدف إلى معالجة قضية الجريمة المنظمة الإيطالية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بطريقة جديدة وذلك باستخدام مصطلح "الطبقات الخطيرة" وكيف أن الحكومات الإيطالية "كانت لها علاقات مع الجريمة المنظمة منذ تأسيس الدولة الإيطالية الموحدة".
يتكون التاريخ بالتحديد من هذا: في البحث عن كل نوع من الأدلة أو الدليل الذي يؤدي إلى مراجعة الأحكام الصادرة في العصور السابقة، كل ذلك بدأ عندما غضب فولتير وقام بنشر وثيقة معاهدة التسامح في قضية محاكمة لأب وإعدامه إثر حادثة وفاة ابنه مارك أنطوان كالاس، والتي تحولت فيما بعد من قضية قتل إلى واقعة انتحار، تمَّ فيها إصدار الحكم على الأب البريء وانتهت المحاكمة بإعدام والده جان كالاس بناءً على طلب من ملك فرنسا لويس الخامس عشر.
حدثت الواقعة في مدينة تولوز الفرنسية، في تاريخ 13 تشرين أول/ أكتوبر 1761. في نهاية وجبة الطعام مع عائلته، غادر مارك أنطوان كالاس المنزل على عَجَل وبعد لحظات قليلة، انتحر، وأثبتت الكنيسة أن هذا الشاب كان على وشك التحول إلى الديانة الكاثوليكية وأن والده قتله لمنع هذه "الخيانة"، ليكون ذلك الحدث المأساوي عملية مُصمّمة لصنع التاريخ. في البداية حاولت عائلة مارك أنطوان إخفاء حقيقة أن الشاب قد انتحر ونظمت الكنيسة جنازة دينية للشاب"شهيد الإيمان"؛ لأنَّ الانتحار كان يُعْتَبر جريمة خطيرة للغاية في ذلك الوقت، يُعاقَب بِجَّر الجثة ووجهها للأسفل في شوارع المدينة ومصادرة ممتلكات العائلة بأكملها، لكن أطروحة التسامح الشهيرة أزعجت ثقافة ذلك العصر وأعادت الشرف إلى ذكرى الأب الذي تم إعدامه ورَدَّ الاعتبار للأسرة في العام التالي لإصدار الحُكم، لتصبح هذه الحادثة رمزًا للمراجعة الممكنة لحقائق الماضي.
هناك كذلك أسماء لطالما اسْتُحْضرت لسبب ما في معاني أحادية الاتجاه مثل اسم "واترلو" تلك القرية الصغيرة في الريف بجنوب بروكسل للإشارة إلى انهيار نابوليون؛ لذلك فإن واترلو تعني الهزيمة الكاملة والنهائية للإمبراطور والتي بقيت لأكثر من قرنين من الزمان مرادفة لهزيمة نابليون بونابرت والتي من وجهة نظر السير آرثر ويليسلي، دوق ويلينجتون كانت المعركة الشرسة التي قادها التحالف الأنجلو روسي النمساوي السابع وقاتل في 18 حزيران/يونيو 1815 ضد جيش الإمبراطور الفرنسي وانتهت بانتصار مأمول ومذهل وبشكل قاطع (بفضل التدخل الحاسم للبروسيين). نتيجة تلك المعركة التي تسببت في مقتل خمسين ألفًا خلال اثنتي عشرة ساعة، كان يجب أن تمحي إلى الأبد ذكرى الإمبراطور الفرنسي، هكذا كان يعتقد البريطانيون الذين توسل إليهم نابليون بنفسه؛ لدرجة أنه لتحقيق ذلك الهدف، تم نفيه إلى جزيرة نائية في منتصف الطريق بين سواحل إفريقيا وأمريكا الجنوبية (سانت هيلانة) ليبقى نابليون هناك ست سنوات إلى أن توفي في 5 أيار/ مايو 1821، ربما بسبب تفاقم التهاب الكبد أو بالسُّم حسب البعض، ولكن عندما عاد رفاته إلى باريس عام 1840، حصل على انتصار بطل بدلاً من الذهاب إلى غياهب النسيان.
كان نابليون في منفاه قد بنى لنفسه يومًا بعد يوم أسطورته التي يحتفل بها الشعراء والكُتَّاب لتكون تلك هي الطريقة التي سيتمكن بها المُدعى عليه نابليون بونابرت من مغادرة قاعة المحكمة المثالية للتاريخ ولم يعد مهزومًا إلى الأبد، كان ذلك انتصاره الحقيقي الأخير والنهائي بخلاف واترلو.
في حالة فيدل كاسترو الزعيم الشيوعي العظيم، ليس الهدف من تحليل تلك الشخصية المعقدة، هو التقليل من الأخطاء التي كان يقوم بها كديكتاتور، لكن هي محاولة فهم أي نوع من الديكتاتوريين كان؛ لأن بعض الديكتاتوريين يتركون علامة من نوع ما في التاريخ، والبعض الآخر يترك علامة مختلفة تمامًا.
كوبا فيها قمع عنيف جدا وأناس يفرون عن طريق البحر، لكن لماذا بقي كاسترو شخصية مختلفة في التاريخ وفي الذاكرة؟ عندما تراه هناك في استقبال البابا يوحنا بولص الثاني في زيارته لكوبا في 21 كانون الثاني/ يناير 1998 في حفلة تشريف كاملة، خلع فيها الرئيس الزي العسكري وارتدى الجاكيت وربطة العنق الأكثر أناقة والتي كانت ردا للبابا للزيارة التي قام بها فيدل كاسترو قبل عامين خلال الاجتماع العالمي لمنظمة الأغذية والزراعة في روما حيث قام المحامي أنييلي مالك شركة فيات بتنظيم عشاء له، وكان هناك الكثير من الشخصيات المرموقة والجميع سعداء بالتواجد معه. إذن، هو شخصية مختلفة عن كاسترو الحقيقي، الذي سعى في تدريبه وفي علاقته بأسرته وعائلته وعلاقته مع محاوريه بأن يترك وراءه دور العقيد، كضابط استولى على السلطة. باختصار، قصة رائعة للغاية تقودنا إلى رؤيته في ضوء آخر كان مجهولا لدينا.
هناك الاتهام الموجه إلى الملك فيتوريو إيمانويلي الثالث الذي حكم إيطاليا من عام 1900 إلى عام 1946، أحبط الملك خلالها العديد من المؤامرات للتغلب على بينيتو موسوليني (سياسيًا) منذ الثلاثينيات، داخل قصره وخارجه وبعدها تحرك بتردد في لحظة إقالة الدوق. وهو تردد كان مصدرا لاضطراب غير متوقع تمامًا -ترك إيطاليا في فترة طويلة للغاية في حالة من الغموض والفوضى (من 25 تموز/يوليو إلى 8 أيلول/سبتمبر 1943)، ما مَهّد إلى تهيئة الظروف الملائمة للحرب الأهلية اللاحقة في نهاية المطاف. تم خلع بينيتو موسوليني بعد اجتماع المجلس الأكبر في 24-25 تموز/يوليو 1943 لكن لا تزال "الثقوب السوداء" المرتبطة بهذا الحدث كثيرة .
محاكمة تاريخية أخرى للولايات المتحدة على الطريقة التي عومِلَ بها الأسرى الإيطاليون خلال الحرب العالمية الثانية، إذ تبين أن مقاتلي ألمانيا النازية كانوا يُعامَلون بطريقة أفضل منهم بعد أسرهم ونقلهم إلى أمريكا، خاصة إذا قمنا بالتحقيق في أسباب حدوث ذلك. في 13 آيار/ مايو 1943، استسلمت الجيوش النازية والفاشية المقاتلة في شمال إفريقيا للأنجلو أميركيين، حيث وجد الحلفاء -الذين خططوا للهبوط في صقلية في غضون أسابيع قليلة- وجدوا أنفسهم فجأة مضطرين لمواجهة مشكلة هائلة: استسلم مائتان وخمسون ألف جندي إيطالي وألماني لهم بأذرع مرفوعة، ومنذ تلك اللحظة أصبح من الضروري مراقبتهم وإطعامهم والعناية بهم. من الواضح أن الإمدادات لإطعام تلك المجموعة من الناس كانت غير كافية وبدأت الملاريا تنتشر بين السجناء. أدرك الجنرال دوايت أيزنهاور، القائد العام للقوات المتحالفة في البحر الأبيض المتوسط على الفور أن قواته ستصاب بالشلل إذ كان عليها التعامل مع هذا العدد الهائل من الناس وطلب من بلده، الولايات المتحدة أن تتولى المسؤولية جزئيًا.
بعد ذلك تم نقلهم جزئيًا إلى منطقتي وهران والدار البيضاء ليواصلوا السفر إلى الولايات المتحدة. عملية نقل لأكثر من خمسين ألف شخص من السجناء إلى معسكرات مختلفة، كتب الكثير منهم في مذكراتهم عن "الأيام الحزينة التي أعقبت الأسر والتي اتسمت بالجوع والحرارة وانتشار الطفيليات، وأيضًا سوء المعاملة والمضايقات من قبل جيش التحالف وخاصة الفرنسيين، وأحيانًا من الحشد". بعد ذلك، عندما وصلوا إلى الولايات المتحدة، كانوا مشتتين في معسكرات اعتقال بعيدة عن السواحل، أشهرها معسكر " هيريفورد" في ولاية تكساس الذي أقام فيه الكاتب جوزيببي بيرتو، القاضي والكاتب دانتي ترويزي والصحفي غايتانو تومياتي صاحب كتاب "سجناء في تكساس".
بعد بضعة أشهر من عبور المحيط الأطلسي وفي تشرين أول/أكتوبر 1943، منحت الولايات المتحدة الأمريكية إيطاليا فيتوريو إيمانويلي الثالث وضع دول محاربة بعد أن قد عَقَد معها هدنة في 8 أيلول/ سبتمبر ليدخل بعد أسابيع قليلة في صراع مع ألمانيا هتلر والجمهورية الإيطالية الاشتراكية لموسوليني. منذ تلك اللحظة ساء الوضع في المعسكر لأن الأمريكي بدأ ببرنامج تعاون، يمكن للأسرى الإيطاليين بموجبه إذا تطوعوا للقيام بالعمل الذي تم دعوتهم إليه إلى تحسين معاملتهم والحصول على علاج. رفضت الحكومة الإيطالية برئاسة بييترو بادوليو الموافقة على هذا الاقتراح معتبرة أنه من الأنسب والأكثر كرامة أن يحتفظ الإيطاليون بحقهم كأسرى. واجه هذا الطلب انقسامًا كبيرًا لأن الحكومة منقسمة وفي حالة فوضى، كذلك لم يرغب السجناء في إظهار أنفسهم متعاونين مع العدو خاصة في قطاع الأسلحة التي كانت ستذهب لقصف بلادهم، وآخرون كونهم مناهضين للفاشية، وبأنه من غير الأخلاقي تغيير التحالف في الأوقات الصعبة. في آذار/مارس 1946 تم إعادة السجناء إلى وطنهم.
كتاب مييلي هو استطلاع دقيق وممتع لما هو متعارف عليه بالحالة الطبيعية للتأريخ، فهو مراجعة للسيرة الشخصية في ال 27 فصلاً للكتاب، يقدم في كل منها موضوعًا تاريخيًا اعتقدنا أننا عرفنا عنه كل شيء، ليعيد البحث فيه ويقدم للقارئ أحدث الدراسات التي جددت تفسيره من أجل الحذف وإعادة الكتابة والمراجعة وإعادة النظر في أحداث وظواهر التاريخ التي أدت في السنوات الأخيرة إلى مواقف وتصريحات تاريخية: رؤساء الحكومات الذين يعتذرون باسم بلدهم عن الخطأ أو الإغفال للدور الذي لعبته دولهم في أحداث بعيدة أو قريبة؛ لأن العنصر الملتهب الذي أشعل شرارة هذا الكتاب هو الاقتراب من أطروحات النيابة ومرافعات الدفاع واستجواب المتهمين في قاعة المحكمة "محكمة التاريخ" من أجل اكتساب عناصر جديدة من المعرفة والحكم مع الأخذ في عين الاعتبار دائمًا، كما يقول باولو مييلي:"الاعتذارات العلنية لا تعادل الحُكم النهائي لأنهم أقروا بِتَصَوّر مُعدَّل لأحداث الماضي".
يمكن تعريف نهج "محكمة التاريخ" على أنه مراجعة تاريخية مع الحذر من إضفاء هذه التسمية كقيمة سلبية حاول البعض أن يعزوها لسنوات بدافع السطحية أو سوء النية كما لو كانت نوعًا من البدعة التحريفية والتي هي ببساطة بحث مستمر عن الحقيقة تم تجاهلها أو حتى إخفاؤها حتى الآن. إنها بالتأكيد طريقة تزعج أولئك الذين، حتى بين المؤرخين المحترفين الذين يفضلون المضي قدمًا في تصور الأحداث كما هي. مييلي بالتأكيد على الجانب الآخر، الجانب الصحيح، بحكم طبيعته وخلفيته الثقافية فهو ليس من النوع الذي يخيفه ما يسمى بالفكر السائد وهو المطلوب لافتتاح محكمة تاريخية "تجتمع في دورة دائمة" بلا حدود وبدون تحيز.
ومع ذلك، من الجيد معرفة أن الأحكام التاريخية، ليست سوى جزء من عملية "المسيرة الطويلة نحو الحقيقة لا نهائية- تعرف التوقف لمدة قد تكون طويلة، لكنها تبقى مجرد مسألة توقف ثم تستأنف الرحلة ولن تكون هناك محطة نهائية".
تفاصيل الكتاب:
العنوان: محكمة التاريخ، محاكمة التزوير
المؤلف: باولو مييلي
دار النشر: ريتسولي
بلد الاصدار: إيطاليا
لغة الكتاب: الإيطالية
تاريخ الاصدار: تشرين أول/أكتوبر 2021
عدد الصفحات: 304
