آنا بافلوفسكايا
فيكتوريا زاريتوفسكايا*
من الوهلة الأولى يبدو عنوان الكتاب بسيطًا ومُعتادًا، يتمحور حول الطعام وفنون الطهي، ولكن الواقع أنَّه مزيج بحثي تتضافر فيه علوم مختلفة لم نعتد على جمعها في مجال الدراسات الإنسانية كفن الطبخ والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس العرقي وغيرها. واللافت أن هذا المزج الذي تقترحه المؤلفة لكتابها إنما جاء ليوسّع وينوّع وجهة نظرها في الموضوع الذي طرقته، فهي لا تعزز فهمنا لتاريخ الأطعمة وكيفية طهيها عبر العصور حتى يومنا الراهن، بقدر ما تحاول الإجابة عن أسئلة معقدة حول عشوائية ما نأكله، وما إذا كان طعامنا تحدده تفضيلاتنا الشخصية، وإن كُنّا نقوم طواعية أو كرها بإعادة نظام التغذية المستدام الذي تمَّ تطويره قبل ولادتنا بوقت طويل، وهو قائمة من المنتجات والأطباق الأساسية وطرق تحضيرها، إلى جانب تقديم الطعام وحفظه وتخزينه، فضلا عن المحظورات فيما يتعلق بنوعية الطعام وطريقة أكله. بالإضافة إلى ذلك، يُظهر الكتاب مدى تأثير كل شيء متعلق بالتغذية على تاريخ البشرية العام منذ القِدم، وعلاقات الشعوب بعضها ببعض، ووعيها بهويتها، ليس عبر السمات القومية وحدها بل من خلال المطبخ أيضًا.
ينطلق موضوع الطعام من حقيقة أنه، وفقًا للعالم والمؤرخ والإثنوغرافي الأمريكي الشهير ليوس هاري مورغان، مُنتَجٌ قامت البشرية عليه، وبحسب الباحثة فإنَّ التغذية هي العامل الأول لهيمنة الإنسان على الأرض: "إن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يمكن أن يُقال إنه اكتسب سلطة مطلقة على إنتاج الطعام؛ إذ لم يكن الإنسان قبل هذا أعلى من الحيوانات. وبدون توسيع وتطوير التغذية كأساس للوجود البشري، لم يكن بوسع الإنسان أن يتمدد إلى مناطق أخرى (...) وأن يغطي سطح المعمورة بأكمله. أخيرًا، وبدون تحقيق سلطة مطلقة على إنتاج الغذاء من حيث تنوعه وكميته، لم يكن ممكنا للبشرية أن تنمو لتصبح أممًا مختلفة" (18-17).
تؤكد الباحثة على أن النظم الغذائية لعبت دورًا كبيرًا في حياة البشرية لدرجة أن الفلاسفة لجأوا إليها في حلّ مسائلهم، بما فيها موضوع الجدل حول أشكال الحُكم عند الشعوب. المُفكر الفرنسي جان جاك روسو يؤمن أن الاختلافات الغذائية تعتمد بدايةً على الظروف المناخية ثم تؤثر بدورها على مستوى تحضّر الشعب. بالنسبة له، فإن الحضارة وشكل الحكومة والغذاء الذي ينتجه الشعب ويستهلكه أشياء تنتظم في خطٍ نظريّ واحد. ومثلما تَنقُل المؤلفة عن روسو فإن "الأماكن المُجدبة، حيث المحصول لا يساوي العمل المبذول لاستخراجه، يجب أن تُهمل وتُهجر أو يسكنها المتوحشون فقط. فعندما ينصبّ العمل البشري لتأمين الضروريات فقط، فإن هذا حريٌّ بالشعوب البربرية وحدها، حيث ينعدم النظام المدنيفي تلك البقاع. أما الأماكن التي يكون فيها الحصاد متوسط الحجم، مقارنة بالجهود المبذولة لاستخراجه، فهي مناسبة للشعوب الحرة. وإذا ما جئنا إلى الأراضي الخصبة، التي توفر محاصيل كبيرة مع القليل من العمالة، هنا نكون بحاجة إلى نظامٍ ملكي، تمتص فيه رفاهية الحاكم ما يفيض عن رعاياه، فمن الأفضل أن تمتص الحكومة هذا الفائض على أن يهدره الشعب"(10).
تقدم المؤلفة إحاطة بالطعام باعتباره سمة تُميز الأنا عن الآخر والقريب عن الغريب. إن طعامنا مدعاة لفخرنا بينما طعام الآخر مُقزز، على الرغم من حقيقة أن الذوق أمر نسبي للغاية. يؤكد الفيلسوف إيمانويل كانط أن الذوق لا يعتمد على العقل بل على ما يستثيره من مشاعر السعادة والرضا أو الاستياء، مما يجعله مفهومًا ذاتيًا بحتًا. مع ذلك، فإن الذوق حالة حقيقة وليست جمالية وحسب، وهو شرط أصلي ورئيسي لتحديد طعم الطعام. وليس من قبيل المصادفة أن التفضيلات الغذائية للشعوب غالبًا ما تستخدم للسخرية. ففي روسيا، مثلا، يُطلق على الإيطاليين اسم المعكرونة، كما يُشار إلى الفرنسيين بصفتهم آكلي الضفادع. وعليه يُصبح بالإمكان إنشاء خارطة في هذا الشأن تشمل شعوب الأرض كافة، حيث يُعيُّر هذا الشعبُ غيرَه من الشعوب بالطبق الذي لا يستسيغه.
مع ذلك، وعلى الرغم من الرفض الجزئي لعادات الأكل لدى الآخرين، فقد تبين أن الحُلم بمصدر لا ينضب للطعام شيءٌ مشتركٌ بين البشرية، فنجده في قصص ألف ليلة وليلة مجسدا في كيسٍ سحري يتلقاه صيادٌ فقيرٌ من شخصٍ مغربيّ غامض، حيث يخرج الطعام من الكيس إلى ما لا نهاية. هذا الكيسُ نفسه لا يختلف عن الحلة الأيرلندية السحرية أو مفرش الطاولة الروسي الذي تظهر عليه أصنافُ الأطعمة من تلقاء نفسها. كل هذا منبته خوف الإنسان من الجوع وذلك بصرف النظر عن ذائقة المرء.
أما بالنسبة للجوع وتهديداته، فإنه، وبناء على تاريخ أنظمة الأغذية التي تعرضها الباحثة، لم يظهر مع الخليقة مباشرة ولم تعرفه المجتمعات البدائية. "مرّت عشرات، بل مئات الآلاف من السنين حتى بدأ الإنسان بمزاولة الطهي النظامي، فقلل من الصيد وأكثر من قطف الثمار وتلقى أولى مهارات تحضير الطعام. لقد مرت آلاف السنين حتى أتقن فن إنتاج طعامه وتوصل إلى تذوق المنتجات الجديدة مثل الحبوب والخبز والحليب واللحوم المسلوقة (وليس المقلية). كما انقضت قرون قبل أن تتنوع أذواقه ويصبح مؤهلا للتحدث عن أطباقه المحلية الخاصة"(24).
تسمي المؤلفة الفترة الواقعة بين الأربعين والعشرة آلاف سنة قبل الميلاد، بداية التاريخ البشري في تذوق الطعام. ومن بين أهم أحداث هذه الفترة "اختراع" النار وإتقان مهارات الطبخ ومعالجة الطعام حسب الاحتياجات والذوق وابتكار طرق تخزين الأغذية. خلال هذه الفترة تم وضع أساسيات السلوك الاجتماعي المرتبط بتوفير الطعام وتحضيره وتناوله، إلى جانب أثر ذلك على طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة والمجتمع ككل وما ينتجه من علاقات بينية كمعاملة الضيف. كما أصبح الحصول على الطعام وتوزيعه أساسا للعديد من التقاليد القديمة والطقوس والمعتقدات القومية.
نشوء الزراعة وتطورها هو المرحلة الثانية التي تحددها الباحثة، والتي رافقت ظهور الحضارات الأولى وذلك في الفترة من العاشر إلى الألف الأول قبل الميلاد: "ظهرت منتجات غذائية جديدة تمامًا، مثل الألبان كمنتج ثانوي لتربية الحيوانات. وقد تطلب الاعتماد على الحبوب إضافات جديدة مثل الملح والمخمرات. لقد تعلم الإنسان أكثر عمليات المعالجة الغذائية تعقيدا وذلك حين حوّل الحبوب إلى دقيق، كما انطلقت عملية التخصص في الطعام، وبدأت الأقوام في اختيار الصالح لها، ليس وفقا للظروف البيئية وحسب، ولكن أيضًا باعتماد الخصائص الثقافية: النبيذ والخبز الخالي من الخميرة والحامض ولحم الضأن والخنزير.
تلاحظ المؤلفة أن في هذه الفترة، وتحت تأثير الأنواع الجديدة من الغذاء، تغير الإنسان بيولوجيًا واجتماعيًا. لقد أصبح الغذاء مقياسًا للثروة والوضع الاجتماعي. وغدت الطقوس والمعتقدات المرتبطة بالإنتاج والاستهلاك أكثر تعقيدًا، كما تم تقسيم الطعام إلى نوع يخص المناسبات وآخر للمعيش اليومي. وهكذا قَسّم الطعامُ المجتمعَ إلى غني وفقير وتسبب في إخلال المساواة بين الجنسين وأصبح مصدرًا للإثراء وسببًا للحروب كما مَوْضَع الآلهة القديمة في علاقتها بإنتاج الغذاء.
في هذه اللحظة التاريخية اشتد الجوع الذي صاحب البشرية حتى العصور الوسطى وصولا إلى الزمن الراهن: "عرفت البشرية ظواهر كالمجاعة الجماعية نتيجة للانتقال إلى تخصيص الزراعة والغذاء. لقد تسببت الكوارث الطبيعية وغيرها إلى فقدان المحاصيل، وحصدَ الموتُ أرواح أولئك الذين اعتادوا على نوع معين من الطعام. فليس من قبيل المصادفة أن تضرب المجاعةُ الناسَ حين تموت محاصيل حبوبهم وينعدم خبزهم، وذلك برغم توفر الطعام حولهم كالحيوانات والطيور والأعشاب والجذور وكل ما كان يشكل طعامًا للبدائيين".
تولي الكاتبة اهتماماً خاصًا بالثقافة اليونانية الرومانية في العصور القديمة، الثقافة التي أرست نوعًا من تقاليد الطعام للأوروبيين. لقد حظيَ الطعامُ في هذه الثقافة، سواء في تكوينه أو تحضيره أو طريقة استهلاكه، بجميع الطقوس التي يمكن اتباعها فيهِ كالزهد والبساطة والوفرة والفوائد الصحية والأضرار الناجمة والتعقيد، فبلغ قمّة الرقيّ في فترة ما وانحطّ إلى القاع في لحظة تاريخية أخرى.
أما بالنسبة للعصر الحديث، وبالتحديد منذ مطلع القرن التاسع عشر وحتى اليوم، فإن الثورية قد طبعت ميسمها على العديد من مجالات الحياة. هناك - بادئ ذي بدء - التطور السريع للمعرفة العلمية، بما فيها علم وظائف الأعضاء والتركيب الكيميائي للغذاء والاهتمام بدراسة قيمة الطاقة والتغذية السليمة. ثانياً، يؤدي هذا التقدم العلمي والتكنولوجي وتطور الاقتصاد العالمي إلى زيادة غير مسبوقة في إنتاج الغذاء بَلْهَ ظهور الطعام الصناعي. إنه عصر الوفرة وإن لم تكن لسكان الكوكب بالتساوي. هناك أيضا مسألة التهجين التي انتهكت المبادئ التقليدية لإنتاج الغذاء واستهلاكه. إذن فهناك عملية متسارعة للعولمة وتوحيد التغذية من شأنها أن تطغى على الأطعمة الوطنية.
اعتمدت المؤلفة على الكثير من مذكرات الرحالة، لا سيما في الجزء المتعلق بطقوس الأكل، فهناك مثلا وصف الساحل الشرقي للهند لماركو بولو يشير فيه إلى أن "لديهم عادة مختلفة، فالملك وأمراؤه وجميع رعاياه يجلسون على الأرض. وإن سألتهم عن عدم اختيارهم لمكان أرفع لجلوسهم، يخبرونك أن الجلوس على الأرض أكبر شرفا؛ لأنا خرجنا منها وإليها نؤوب ولن يجرؤ أحد على احتقارها"(26). وهنا تذكر المؤلفة أن الإسلام أوصى الناس بهذا النوع من آداب الطعام.
تسوق الباحثة مذكرات الكاتب الروسي الكلاسيكي أيفان جونشاروف الذي زار اليابان في منتصف القرن التاسع عشر. لقد أمضى وفريقه عدة أسابيع للوصول إلى صيغة توافقية من أجل تنظيم حفل لاستقبال الضباط الروس من قِبل رئيس مدينة ناغازاكي. يقول الكاتب: "احتل ترتيب المقاعد مكانًا مهمًا في المفاوضات، فاقترح اليابانيون الجلوس وفق طريقتهم الخاصة، أي على الأرض وباقتعاد الكعوب، أي أن تثني ركبتيك على الأرض وتجلس على كعبيك - هذا ما يعنيه الجلوس باليابانية! جرّبه وسترى أنك لن تتحمل أكثر من خمس دقائق بينما يجلس اليابانيون عدة ساعات. صارحناهم بأننا نعجز عن الجلوس هكذا، وسألناهم إن كان الحاكم سيقبل الجلوس على الكراسي كما نفعل؟ اليابانيون أيضًا لا يعرفون شيئا عن طريقتنا في الجلوس، مع ذلك، ألا يبدو أن طريقتنا أسهل لهم؟ كلا! فأرجلهم ستنتفخ لو فعلوا". (27)
ختاما يجدر التوقف عند المصادر العربية التي استشهدت بها المؤلفة فتقول: "إن العصر الذهبي للإسلام، الذي تزامن مع العصور الوسطى القاتمة في أوروبا، أعطى البشرية أدبًا واسعًا يحتل فيه أدب الطعام مكانة جيدة تتعدى ما هي عليه في الثقافات الأخرى". وقد استخدمت في دراستها مصادر عربية لا تقل حجمًا عن المصادر الأوروبية والروسية، منها الأحاديث النبوية وكتابات ابن بطوطة وأحمد بن فضلان والمؤرخ ابن قتيبة ومسلم ابن الحجاج وغيرهم. كل هذا عزز من موضوعية الكتاب وأبعده عن المركزية الأوروبية.
تفاصيل الكتاب:
الكتاب: الإنسان هو ما يأكله... نظم التغذية العالمية
المؤلف: آنا بافلوفسكايا
*أكاديمية ومستعربة روسية
دار الإصدار: لومونوسوف/موسكو/2022
اللغة: الروسية
عدد الصفحات: 288
