ستة أوجه للعولمة

ستة أوجه.jpg

أنثيا روبرتس ونيكولاس لامب

محمد السالمي

 في ظل الوتيرة المتسارعة التي يشهدها العالم اليوم، يبرز مفهوم العولمة وأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، محط أنظار الجمیع لما تشكله من ركيزة أساسية فـي حیاة الأمم. حيث استطاعت العولمة أن تبني الجسور عبر الحدود الوطنية كما انتشلت الملايين من براثن الفقر. أما جانبها السيئ، فهو أن العولمة تعزّز من الشعبوية وكذلك التنافس بين القوى العظمى الذي بدوره يؤدي إلى تمزق العالم. في هذا السياق يأتي كل من أنثيا روبرتس ونيكولاس لامب في كتاب "ستة أوجه للعولمة" لتقديم دليل للمناقشات العامة المستعصية حول فضائل العولمة الاقتصادية ورذائلها، حيث يتخطى التعقيد ليكشف عن خطوط الصدع التي تفرقنا ونقاط الاتفاق التي قد تجمعنا معاً. استطاع المؤلفان تحليل المصالح والأيديولوجيات التي تقودنا لهذه المناقشات المستعصية، والتي تكمن في لب الكثير من الخلافات السياسية وصنع القرار. ويتمثل منهج الكتاب في سرد ست روايات متنافسة حول فضائل العولمة ورذائلها: ابتداءً  من وجهة نظر المؤسسة القديمة القائلة بأن العولمة تفيد الجميع، وانتهاءً بالاعتقاد المتشائم بأنها تهددنا جميعًا بالأوبئة وتغير المناخ.

 

وللتعريف بمؤلفي الكتاب، فإن أنثيا روبرتس هي أستاذة في كلية الحوكمة العالمية في الجامعة الوطنية الأسترالية. تتمحور مجالات بحثها في القانون الدولي، والتجارة والاستثمار، والتحول الجيوسياسي في الحوكمة العالمية. كما عملت سابقًا أستاذة في كلية الحقوق بجامعتي كولومبيا وهارفارد. في المقابل، يشغل نيكولاس لامب درجة أستاذ مشارك في كلية الحقوق بجامعة كوينز الكندية. وقد كان سابقاً محاميًا لتسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية وله منشورات كثيرة حول قوانين التجارة الدولية.

يتلخص الكتاب في ست روايات مختلفة حول العولمة: الأولى، قصة المؤسسة المتفائلة القائلة بأن العولمة تفيد الجميع. بينما الرواية الثانية، هي يسارية شعبوية تنتقد النخب. والثالثة، هي رواية يسارية تنتقد سلطة الشركات. والرواية الرابعة هي يمينية شعبوية تنتقد انتقال الشركات إلى الخارج والهجرة على نطاق واسع. بينما الرواية الخامسة، هي رواية يمينية تنتقد صعود الصين وتتحدث عن البعد الجيوستراتيجي. أما الرواية السادسة والأخيرة، فتعطي سرداً متشائما يركز على البيئة والأوبئة. وتختلف هذه الروايات عن بعضها البعض في تحديد الجهات الفاعلة التي فازت أو خسرت من العولمة.

ابتداءً من رواية المؤسسة التي ترى أن الجميع يكسب من العولمة؛ فمناصرو هذه الرواية يرون أن التجارة الحرة لا تزيد الرخاء فحسب، بل تدعم أهدافاً أخرى أيضاً، مثل تعزيز السلام. ويعكس هذا الرأي إجماع الأحزاب السياسية الرئيسية في معظم الديمقراطيات الغربية وخارجها، وقد تبنته العديد من المؤسسات الدولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية. تنظر رواية المؤسسة إلى الاقتصاد العالمي نظرة شمولية. والمقياس الذي تستخدمه لتحديد المكاسب في العادة هو حجم الاقتصاد، وعادة ما يكون الناتج المحلي الإجمالي. ولا ريب أن هناك إجماعا لدى الأغلب أن العولمة الاقتصادية قد أنتجت مكاسب اقتصادية مطلقة على المستوى الكلي، سواء تم قياسها على المستوى الوطني أو العالمي. ومع ذلك، فإنَّ توزيع هذه المكاسب، سواء داخل البلدان وعبرها، يعطي بعدا من التشاؤم.

وفي سياق التيار السياسي اليساري، يطرح المؤلفان روايتين تشددان على كيفية تدفق المكاسب من العولمة الاقتصادية إلى الأفراد الأغنياء والشركات متعددة الجنسيات. حيث تركز الرواية الشعبوية اليسارية على كيفية توجيه الاقتصاديات مكاسب العولمة إلى الأقلية المتميزة. ويشير مؤيدو هذه الرواية إلى أنه حتى في الوقت الذي شهدت فيه البلدان ارتفاعًا في ناتجها المحلي الإجمالي، فقد شهد العديد أيضًا زيادة حادة في عدم المساواة، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتفريغ الطبقة الوسطى. ويدافع أنصار هذا التيار عن الناس العاديين الذين خسروا أمام النخبة الفاسدة. 

ومن جانب رواية قوة الشركات، استطاعت شركات متعددة الجنسيات الاستفادة من السوق العالمية للإنتاج بثمن بخس، والدخول في أسواق جديدة، ودفع أقل قدر ممكن من الضرائب. تستخدم هذه الشركات سلطتها لتشكيل القواعد الدولية في المجالات التي تفيدها، مثل التجارة والاستثمار، كما تضغط ضد التعاون الدولي الفعال بشأن الموضوعات التي قد تضر بمصالحها. ووفقاً لرواية قوة الشركات، تنتج العولمة الاقتصادية العديد من الخاسرين أبرزهم العمال والمجتمعات المحلية وقد تتعدها إلى الحكومات، ولكن هناك فائز واحد فقط وهي الشركات.

وعلى الرغم من أن هاتين الروايتين تركزان على إعادة التوزيع للثروة، إلا هناك اختلافا. يلقي الخطاب الشعبوي اليساري الضوء على المشاكل المحلية، والمتمثلة في انتشار عدم المساواة داخل البلدان. على النقيض من ذلك، تتبنى رواية قوة الشركات نهجًا عابراً للحدود الوطنية ويعامل شركات متعددة الجنسيات والطبقة العاملة في المهجر على أنهم الفاعلون الرئيسيون. وغالبًا ما تتشابك الروايتان في أماكن مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، حيث ينتقد الكثير من اليسار على نطاق واسع الأثرياء، سواء كانوا أفرادًا أو على مستوى شركات. وعلى النقيض من ذلك، ففي العديد من بلدان أوروبا الغربية، حيث مستويات عدم المساواة المحلية أقل، تبرز عنصر قوة الشركات بشكل أكبر.

وفي سياق الرواية الرابعة، ينظر الكتاب في الرابحين والخاسرين من العولمة من جانب التيار السياسي اليميني؛ حيث ترى الرواية الشعبوية اليمينية أن العمال وأسرهم هم الخاسرون من العولمة اقتصاديًا وثقافيًا، وهي تختلف من بلد لآخر. ففي الولايات المتحدة، أدى فقدان وظائف العمالة غير الماهرة لصالح الصين والمكسيك إلى تدمير مجتمعات التصنيع هناك. أما في أوروبا الغربية، فتعتبر المشاعر المعادية للمهاجرين والمخاوف بشأن فقدان السيادة من السمات المركزية للرواية. وفي المملكة المتحدة، صوت الأغلب لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لما اعتبروه إملاءات من مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل تجاه ملف المهاجرين.

تشترك الرواية الشعبوية اليمينية مع النسخة اليسارية في عدم ثقة عميق في النخب ، لكن الروايتين تشتركان في سبب إلقاء اللوم على النخبة: في حين يلوم الشعبويون اليساريون النخبة على إثراء أنفسهم على حساب العاملين. والطبقات الوسطى، يندد الشعبويون اليمينيون بفشلها في حماية السكان الأصليين الكادحين من التهديدات التي يشكلها "الآخر" الخارجي. وبالتالي، فإنَّ السرد الشعبوي اليميني يتمتع بجودة أفقية قوية بيننا وبينهم، سواء تم التعبير عنها من خلال القلق بشأن حماية العمال من نقل الوظائف إلى الخارج أو حمايتهم من تدفق المهاجرين الذين قد يتنافسون على تلك الوظائف، ويعيشون على نظام الرعاية الاجتماعية، أو تهديد إحساس المجتمع المحلي بالهوية. 

وتسلط الرواية اليمينية الشعبوية الضوء أيضًا على الانقسامات الجغرافية داخل البلدان، مثل الثروات المتباينة للمدن الحضرية المزدهرة والمناطق الريفية المتدهورة. وبالنسبة لمؤيدي هذه الرواية، فإنَّ هذه التقسيمات الجغرافية ترسم خرائط لنظم قيم مختلفة؛ فالمناطق الريفية هي معاقل للقيم الثقافية المحافظة مثل التقاليد والوطنية، بينما تمثل المراكز الحضرية "العولمة" غير مقيدة وغير أخلاقية. ويمكن القول بأن هذه الانقسامات الثقافية هي أكثر أهمية من الانقسامات القائمة على الطبقة الاجتماعية أو الدخل.

 

أما الرواية الخامسة فتركز على البعد الجغرافي الاقتصادي متمثلة بالمنافسة الاقتصادية والتكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين. وعلى الرغم من أن كلا البلدين قد استفاد من العولمة الاقتصادية من حيث القيمة المطلقة، إلا أن الصين سارعت إلى سد الفجوة مع الولايات المتحدة بشكل كبير خلال العقدين الماضيين. تنظر الولايات المتحدة إلى الصين بشكل متزايد على أنها منافس استراتيجي وتهديد أمني محتمل بدلاً من كونها مجرد شريك اقتصادي. وبدلاً من الإشادة بالتجارة والاستثمار على أنهما يعززان الرفاهية الاقتصادية ويزيدان من احتمالات السلام، تؤكد هذه الرواية على المخاطر الأمنية الناتجة عن الترابط الاقتصادي والتواصل الرقمي مع منافس استراتيجي. لم يعد من الممكن معاملة الصين كدولة نامية بعد الآن، وعلى عكس معظم الاقتصاديات الأخرى في العالم، استمر الاقتصاد الصيني في النمو حتى في ظل الوباء، وإن كان بمعدل أقل من ذي قبل. كما يُنظر إلى الصين على أنها منافس للولايات المتحدة اقتصاديًا وتكنولوجيا، وقد خلق هذا التحدي توترات ليس فقط بين قوى الناتو ولكن في جميع أنحاء العالم. 

تركز الروايتان من جانب التيار اليميني على التهديدات الخارجية، إلا أنَّ هناك بعض الاختلاف بين الروايتين. تركز الأولى على الخسائر الثقافية وكذلك الخسائر الاقتصادية، في حين أن الأخيرة تعترف أكثر بالقوة الاقتصادية النسبية للدول وقدرتها على دعم القوة السياسية والعسكرية. كما تأسف الأولى على فقدان وظائف التصنيع في الماضي، بينما تركز الثانية على الفوز بالسباق في تقنيات المستقبل، مثل شبكات الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي. وتستهدف الأولى العمالة المهاجرة الذين يقوضون العمال المحليين، بينما تلقي الأخيرة نظرة انتقادية على العلماء والمهندسين الصينيين الذين قد يسرقون التكنولوجيا الغربية. 

وفي الرواية الأخيرة والأكثر تشاؤما هو أن الجميع يخسر في ظل العولمة. يعتقد مناصرو هذا التوجه أنه كلما زادت العولمة سارع خطر انتشار الأوبئة وتغير المناخ. ساهم تغير المناخ الناجم عن الاحتراق غير المحدود للوقود الأحفوري إلى ذوبان الجليد في القطب الشمالي، وذوبان الأنهار الجليدية في جبال الألب وجبال الهيمالايا، وزيادة تواتر الأعاصير والتسونامي في كل من اليابان وإندونيسيا والولايات المتحدة. وفي الآونة الأخيرة، تسببت درجات الحرارة المرتفعة القياسية في حرائق غابات لا يمكن السيطرة عليها، وتسببت في وفاة ملايين الحيوانات ومئات البشر.

 

وفي الختام، يقدم الكتاب رؤية عظيمة حول واقع العولمة، حيث تمكن المؤلفان من مساعدة القراء على فهم الوجوه المتعددة للعولمة من خلال تحديد الروايات المتعددة التي تغذي الحركات السياسية المختلفة ووجهات نظر النقاد. يجبرنا هذا الكتاب على تغيير موقفنا، والخروج من منطقة الراحة الخاصة بنا، ورؤية العالم بشكل مختلف وعلى نطاق أوسع. حاز الكتاب على استحسان القراء والنقاد على حد سواء، وتم تضمينه في قائمة الفايننشال تايمز ٢٠٢٢. 


 

تفاصيل الكتاب:

عنوان الكتاب: ستة وجوه للعولمة

المؤلفان: أنثيا روبرتس ونيكولاس لامب 

الناشر: Harvard University Press

سنة النشر: ٢٠٢١

عدد الصفحات : ٤٠٠ صفحة

اللغة: الإنجليزية 

أخبار ذات صلة