الانقسامات السياسية والفوارق الاجتماعية

الانقسامات السياسية.jpg

تأليف جماعي

محمد الحدّاد

يعدّ هذا الكتاب امتدادا للمشروع الذي استفتحه المؤرخ توماس بيكتي بإصدار دراسته الضخمة "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" الصادر سنة 2013، وكنَّا قد قدمناه في ملحق مراجعات بعد صدوره. وقد اشتهر شهرة واسعة وترجم إلى عشرات اللغات ومنها اللغة العربية (القاهرة: دار التنوير ومكتبة الفكر الجديد، 2018، 655 صفحة). أما هذا الكتاب الجديد الذي نعرضه اليوم، والصادر بعنوان "الانقسامات السياسية والفوارق الاجتماعية"، فإنه يطرح العلاقة بين مسألة الحيف الاجتماعي والسلوك السياسي.

لنذكر بأنّ الأطروحة التي كان توماس بيكتي قد أثبتها وأصبحت مشهورة هي أن الحيف الاجتماعي قد تعاظم منذ سنة 1980 إلى اليوم، أي منذ بداية السياسات الليبرالية، ليبلغ المستوى الذي كان عليه قبل بداية الحرب العالمية الثانية. وقد استنتج البعض من هذه الأطروحة أن العالم مهدّد بحروب جديدة يقودها الجائعون والمحرومون في العالم. وبطريقة ما، يعود الكاتب هنا ليشرح لماذا لم تحصل هذه الحروب. 

 

يعتمد الكاتب في مؤلفه الجديد، وهو مؤلف جماعي بإشرافه، منهجا في البحث يذكر في العديد من جوانبه بالمنهج المعتمد في الكتاب السابق، فالدراسة تكاد تكون غير مسبوقة في تاريخ العلوم الاجتماعية، إذ إنها تعتمد على أرشيف يمتد من سنة 1948 إلى سنة 2020، ويشمل خمسين دولة (منها أربع دول إسلامية هي باكستان وتركيا والعراق والجزائر)، ويتعلق بخمسمائة عملية انتخابية. قام بيكتي ومجموعة من زملائه وتلامذته بالعمل على هذا الأرشيف الضخم عدة سنوات للخروج بهذه الدراسة الفريدة من نوعها، فهي تقوم على متابعة على الأمد الطويل لتأثيرات للعلاقة بين الحيف الاجتماعي والسلوك السياسي، وتبين هل أن الناس ينتخبون من موقع انتماءاتهم الاجتماعية أم بدوافع أخرى.

لقد تم اختيار الدول المعنية بالدراسة على أساس التنظيم الدوري للانتخابات، كي يمكن استغلال الأرشيف الانتخابي للإجابة عن السؤال المطروح وبطريقة موضوعية وذات مصداقية. وانقسمت الدول المعنية كما يلي: 17 دولة من أوروبا الغربية، و3 دول من أوروبا الشرقية، و4 دول من أمريكا الشمالية، و7 دول من أمريكا الجنوبية، و9 دول من إفريقيا والشرق الأوسط. ووقع اعتماد عنصرين لتقييم الحيف وهما الدخل الفردي للأشخاص والشهادات العلمية التي يحملونها (اعتذر الباحثون لإهمال عنصر ثالث هو المكاسب، لكن هذا العنصر لا يظهر على الإحصائيات الانتخابية). بينما قسمت الأحزاب السياسية التي يصوت لها الناخبون إلى قسمين كبيرين، دعي الأول الأحزاب الاجتماعية- الديمقراطية، ودعي الثاني الأحزاب المحافظة.

من المعلوم أن هذا التقسيم "الطبقي" هو التقسيم الأصلي الذي نشأت عليه الأحزاب السياسة في الغرب ثم انتشر في العالم كله. أي أنّ السياسة قد نشأت على أساس المنافسة بين أحزاب تدافع عن الوضع الاجتماعي القائم وأخرى تسعى إلى تعديله وتغييره لصالح الطبقات الأقل حظا. لكن هل أن هذه الصورة ما زالت سائدة إلى اليوم؟ وكيف نفسر أن الحيف الاجتماعي ما فتئ يتعاظم منذ الثمانينات إلى اليوم حتى بلغ مستواه قبل الحرب العالمية الثانية، مع أن عمليات الاقتراع قد انتشرت في جزء كبير من العالم؟ ولماذا لم يعمل الناخبون على كبح هذا التنامي الضخم للحيف الاجتماعي عبر الأصوات التي يدلون بها في الانتخابات؟

 

تقترح الدراسة توسيع مفهوم الصراع ليشمل ثلاثة أنواع مختلفة، فالإضافة إلى الصراعات ذات الطابع الطبقي والاجتماعي، برزت في العقود الأخيرة صراعات ذات طابع ثقافي وأخرى ذات خلفيات إقليمية. ولم يعد الناس يحددون مواقفهم السياسية على أساس اجتماعي بحت، فقد أصبحت الأنواع الأخرى من العوامل أساسية أيضاً في تحديد مواقفهم واختباراتهم.

من هنا نتلمس الخيوط الأولى في تفسير القضية المطروحة. فعندما يتحول اهتمام الناس من القضايا الاجتماعية إلى القضايا "الثقافية" (الصراعات الدينية والعرقية والمذهبية وغيرها) والقضايا الإقليمية (دعوات الانفصال أو الصراع على الأقاليم)، فإن فرص تنامي الحيف الاجتماعي تصبح أكبر لأن الاهتمام به يصبح أقل قيمة لدى الناخبين. لقد تنامى الحيف الاجتماعي في العقود الأربعة الأخيرة بالتوازي مع تنامي الصراعات المتصلة بالعرق والدين والهوية. وكثيرا ما أصبح الموقف السياسي مرتبطًا بهذا الصنف الثاني من العوامل، بينما تتراجع إلى مرتبة أدنى مسألة السياسات التي تقترحها الأحزاب للتقليص من التفاوت والحيف في المجتمع. وتنسحب هذه المعاينة أيضًا على الصراعات الإقليمية التي حجبت بدورها القضايا الاجتماعية وأخرتها إلى درجة ثانية، حتى في بلدان غربية مثل إسبانيا.

يؤكد أصحاب الدراسة حينئذ على ضرورة تغيير مفهوم الصراع في العلوم الإنسانية، وتجاوز التعريفات التي وضعها المؤسسون للعلوم السياسية المعاصرة، على غرار لسبيت (Lipset) وروكان (Rokkan)، لأن الواقع قد تغير اليوم وأصبح أكثر تعقيدا بفعل تعدد العناصر المتحكمة في الموقف السياسي للمواطنين، وهي عناصر تتنازع التأثير فيه وتفرض سياسة متعددة الأبعاد (multidimensionnelle) ومختلفة عن المفهوم الكلاسيكي السائد في العلوم السياسية.

على سبيل المثال، لم تعد الطبقة العاملة في البلدان الغربية تصوّت كتلة واحدة لصالح الأحزاب اليسارية. لقد حصل شرخ كبير قسم هذه الطبقة إلى قسمين: قسم ظل يواصل التصويت للأحزاب اليسارية من منطلق تغليب الموقف الاجتماعي على العوامل الأخرى، وقسم يغلب عامل الهوية ويعتبر أن موضوع غزو العمالة الأجنبية والهجرة من البلدان ذات الثقافات المختلفة القضية الأساسية في تحديد الموقف السياسي. وهذا القسم أصبح يتَّجه إلى أحزاب أقصى اليمين ويعزز صفوفها ويمنحها أصواته عند الانتخابات. والنتيجة أن الأحزاب اليسارية التي تسعى إلى مقاومة الحيف الاجتماعي تجد نفسها ضعيفة في منافسة الأحزاب المحافظة التي تعبر عن مصالح الأغنياء والطبقات المحظوظة.

 وتستكشف الدراسة ظواهر أخرى عديدة سنقتصر منها على عرض اثنتين. فإلى حدّ الثمانينيات من القرن العشرين، كانت الشهادات العلمية والدخل الفردي للأفراد متلازمين، بمعنى أن الناس الذين يحملون شهادات علمية عليا والناس المتمتعين بدخل فردي كبير يشتركان في التصويت لنفس الأحزاب ويعتبران مصالحهم واحدة. لكن الأمر تغير منذ الثمانينيات وأصبح الجزء الأكبر من أصحاب الشهادات العليا يصوتون مع الفقراء والطبقات المحرومة، ويرون أنفسهم أقرب إلى هذه الفئات، فلم تعد الشهادات العلمية تضمن لهم دخلا فرديا محترما، وذلك في كل بلدان العالم.

ظاهرة أخرى مثيرة للانتباه هي أن التوجه الذي تشهده البلدان الغربية يبدو في مسار عكسي بالمقارنة بالتوجه الذي تشهده البلدان الأخرى. فالغرب هو الذي عاش قبل الآخرين ظروف الثورة الصناعية التي أنتجت تقابلا طبقيا حادا بين الطبقة الرأسمالية وطبقة العمال، ونشأت السياسات الانتخابية والتنظيمات السياسية التمثيلية في غمار المنافسة بين الفئات المستفيدة من الثورة الصناعية والفئات المتضررة منها التي تسعى إلى تحسين وضعها الاجتماعي، لذلك كانت الأحزاب الكلاسيكية  مقسمة بين يمين ويسار، أو عمال ومحافظين، أو ديمقراطيات مسيحية وديمقراطيات اجتماعية. لكن الوضع اليوم يتجه نحو التقابل الثقافي، بل الإقليمي أحيانا. فموضوع الهجرة هو الموضوع الرئيسي في المنافسات السياسية في أوروبا اليوم، بل إن بلدا مهما في حجم إسبانيا أصبحت الحياة السياسية فيه مرتبطة ارتباطا وثيقا بمسألة انفصال إقليم كاتالونيا.

وعلى عكس المتوقع، فإن البلدان غير الغربية تتجه أكثر فأكثر إلى تجاوز الصراعات العرقية والانفصالية والاهتمام أكثر بقضية الحيف الاجتماعي. وربما شذت البلدان الإسلامية الأربعة المدروسة في هذا الكتاب عن هذا التعميم ولا يبدو من اليسير تحديد خطوط واضحة لتوجهاتها. مع الأخذ بعين الاعتبار أن المدى الزمني في هذه البلدان أقصر بكثير بحكم حداثة الانتخابات فيها. فقد امتد من سنة 1991 إلى 2018 بالنسبة إلى تركيا، ومن سنة 2005 إلى 2018 بالنسبة إلى العراق ومن سنة 2002 إلى 2018 بالنسبة إلى الجزائر. ولا ندري لماذا لم تحتسب انتخابات 1989 مع أنها لا تقل قيمة عن لاحقاتها. أما في تركيا فقد انتظمت أولى انتخابات سنة 1950 لكن يبدو أن الوثائق غائبة فلم يتيسر اعتمادها في الدراسة. وفيما يتعلق بالوضع التركي، يستنتج الباحثون أن نسبة التدين في هذا البلد لم ترتفع مع وصول حزب ذي توجه إسلاموي إلى الحكم، بيد أن براعة حزب العدالة والتنمية تمثلت أساسا في الجمع بين استقطاب الفقراء والمهمشين من جهة والبورجوازية الليبرالية من جهة أخرى، الأولى بخطاب سياسي يعدها بالمساعدة وتحسين أوضاعها والثانية بوعود بتحسين ظروف الاستثمار. بالمقابل، تستنتج الدراسة من خلال الإحصاءات الانتخابية أن أصحاب الشهادات العليا وكبار الأغنياء لا يُصوتون في الغالب لهذا الحزب، عكس التوجه الذي أشرنا إليه في أغلب بلدان العالم.

 

هل يمكن أن نستخلص من الدراسة أن الطريقة التي ساعدت على ارتفاع الحيف الاجتماعي في العقود الأربعة الأخيرة دون ارتفاع منسوب الاحتجاج عليه تمثلت في توجيه النقاش السياسي إلى قضايا الدين والهوية، بل تأجيج الصراعات من هذا الصنف لحجب تراجع العدالة الاجتماعية؟ تتحفظ الدراسة على كل استنتاج من هذا الصنف كي لا تفقد طابعها الموضوعي والأكاديمي. فقد تعبّر تلك الأوضاع عن تطور طبيعي في اهتمامات الناس وطرق تشكل آرائهم. ويمكن أن نفترض أن الارتفاع في مستوى العيش من سنة 1948 إلى سنة 1980 دفع إلى الاهتمام بقضايا أخرى غير تلك المرتبطة بمستوى العيش والدخل. لذلك جاءت الفترة الممتدة من سنة 1980 إلى 2020 متعارضة مع الفترة المذكورة. وهناك احتمالات تفسيرية عديدة يمكن طرحها انطلاقا من نتائج الدراسة الإحصائية المستمدة من الوثائق الانتخابية.

ثمة أيضا عنصر مهم تشير إليه خاتمة الدراسة وهو تغيّر العالم بعد نيل أكثر البلدان استقلالها في الخمسينيات. صحيح أن أوروبا عاشت آنذاك ما يدعى بالثلاثين المظفرة (1945- 1975)، أي ثلاثين سنة من الازدهار الاقتصادي المطرد لم تتوقف إلاّ مع الأزمة النفطية التي أدخلت الاقتصاديات الأوروبية في مرحلة اضطرابات. وطوال تلك الفترة، كانت السياسة فيها منقسمة بين طرفين، اليمين الليبرالي واليسار الاشتراكي. لكن نهاية الاستعمار قد أججت أيضا قضايا الهوية في بقية العالم ثم انعكست هذه القضايا على أوروبا ذاتها لاحقا، بسبب موجات الهجرة المكثفة المتواصلة إلى اليوم، النظامية منها وغير النظامية. وربما زادت العولمة من تصدير قضايا العوالم غير الغربية إلى الغرب، لكن الأزمات الاقتصادية في الغرب ذاته قد ساهمت بطريقة ما في ذلك، لأن هذه الأزمات حولت الهجرات المكثفة من عامل إيجابي على تلك الاقتصاديات إلى عامل سلبي، بفعل أن إحدى النتائج الأساسية لتلك الأزمات هي استفحال البطالة التي كانت غائبة تقريبا أثناء الثلاثين المظفرة، بما جعل التنافس في الحصول على فرص العمل يتحول إلى صراعات على الهوية بين المجموعات العرقية المتعايشة في الغرب.

وبالمثل، يمكن أن نتساءل ألا يكون انهيار قيمة الشهادات العلمية نتيجة متوقعة لـ"دمقرطة" التعليم وانتشاره بين كل الطبقات، فإذا ما ارتفع عدد الحاصلين على الشهادات ارتفاعا كبيرا فإنهم يفقدون وضعية الانتماء إلى النخبة في المجتمع ويتغير موقفهم السياسي من المحافظة على السائد إلى الرغبة في تغييره. وبما أن ظاهرة انتشار التعليم ظاهرة عالمية فمن المنطقي أن نجد نتائجها البعيدة متقاربة في العالم كله. 

لكن نقطة الضعف ربما كانت الاعتماد على وثائق انتخابية من بلدان لا تحظى جميعها بنفس القيمة والمصداقية، كما أن بلدانا كثيرة ظلت خارج مجال الدراسة لغياب الانتخابات الدورية والوثائق الانتخابية فيها. ولقد اعتذر الباحثون عن هذا الأمر بكونهم لم يجدوا طريقة أخرى لتوفير مادة للبحث بهذا الشكل الواسع زمنيا ومكانيا. ويلاحظ أيضا أن الدراسة لا تبرز بوضوح اختلاف المواقف السياسية إذا ما اعتمدنا العامل الجندري (الجنس) أو السن، وهي اختلافات ذات دلالة، وقد اعتمدت فقط في دراسة المواقف السياسية في البلدان الغربية، وبينت مثلا أن النساء في الغرب كن يصوتن في الخمسينيات للأحزاب المحافظة ثم انقلب موقفهن انقلابا تاما لصالح الأحزاب اليسارية، بسبب تبني هذه الأحزاب للقضايا النسوية. ونلاحظ هنا أن دراسة المواقف السياسية من منظور الاختلاف الديني في المجتمعات الغربية انتهت إلى نتيجة أن تصويت الجاليات المسلمة في الغرب لا يختلف عن تصويت غيرهم.

 

أخيرا قد يؤاخذ على هذه الدراسة الضخمة أنها اقتصرت على نقد منوال ليسبت-أوركان المعتمد في الدراسات السياسية للصراعات الاجتماعية ودعت إلى تغييره لكنها لم تقدم بديلا واضحا عنه.

والرأي عندنا أنَّ هذه الدراسة ستكون منطلقا مهما للتعمق في العلاقة بين الحيف الاجتماعي والموقف السياسي، بما قدمته من نتائج طريفة واعتمدته من مفاهيم مجددة وطرائق بحث دقيقة. 

 

تفاصيل الكتاب:

عنوان الكتاب: الانقسامات السياسية والفوارق الاجتماعية

التأليف: جماعي بإشراف توماس بيكتي وكلارا مارتينيز توليدانيو وأموري جيتهين

النشر: مشترك بين دار النشر سوي ودار النشر غاليمار ومدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريس

تاريخ النشر: نيسان/ أبريل 2021.

عدد الصفحات:  590 صفحة

اللغة: الفرنسية

أخبار ذات صلة