شُوكي فريدان
أحمد أشقر
المشاهد المتلفزة التي بثتها وسائل الإعلام المختلفة لقوات الشرطة وحرس الحدود وهي تطارد جماعات (الحريديم= اليهود المتزمتين دينياً) في القدس ووسط البلاد من أجل تثبيت حجرهم في بيوتهم وتعمل على توزيع وجبات غذائية عليهم في بداية جائحة الكورونا، أعادت إلى أذهان بقية اليهود في الكيان وجود جماعات يهودية أخرى مختلفة عنهم إلى حدّ بعيد، وقالت بعض النخب من اليهود "العلمانيين": في إسرائيل اليهودية يعيش شعباهما؛ اليهود العلمانيون، و(الحريديم)، بخلاف اليهود المتدينين التقليديين.
وعلى خلفية هذه الأحداث جاء الكتاب الذي نحن بصدد قراءته الآن.
يخصص الباحث كتابه لإشكاليات وخلافات (الحريديم) مع الدولة ومؤسساتها وبقية يهود الكيان، إذ يكتب في المقدمة: "إن التكاثر الحاد للمجتمع الحريدي في العقدين الأخيرين يغيّر بسرعة وجه الواقع الإسرائيلي. ويفرض أمام الدولة والمجتمع الإسرائيلي تحديات عمليّة وقيميّة كثيرة المعنى" (ص 7- 11) ويجمل المؤلف التحديات التي تواجهها الدولة والمجتمع اليهودي- من جهة، و(الحريديم) من جهة أخرى باثني عشر تحديّا يختتمها بتلخيص ومفاهيم أساسية.
يبدأ الباحث في التحدي الأول ألا وهو "دمج الحريديم في المجتمع الإسرائيلي: المساواة في تحمل العبء الأمني"، ويشرح فيه إعفاءهم من الخدمة العسكرية الإلزامية الذي منحه وزير دفاع الكيان الوليد لشباب وشابات الحرديم [1949]، وقرار المحكمة العليا سنة 1998 التي تضطلع بمهام دستورية تقضي بضرورة تنظيم أمر هذا الإعفاء بقرار تشريعي؛ لأن قوى عديدة بين اليهود باتت تطالب بالمساواة بضرورة تحملهم العبء الأمني. ومنذ تلك الواقعة، خدم في الجيش وتطوّع في مرافق الدولة الأخرى بضعة آلاف فقط، ويخلص الباحث بالقول: "فشل اختبار (الحريديم) في خدمة الدولة بواسطة الخدمة العسكرية وتحمل العبء الأمني والمدني فشلا ذريعاً في دمجهم"(ص 12- 15). ويمكن القول إن فشل استيعاب (الحريديم) في الجيش وقوى الأمن الأخرى كان معروفاً سلفاً لسببين؛ الأول- المدارس الدينية التي يتخرج منها (الحريديم) لا تؤهلهم معارفها المحصورة في مواضيع الشريعة والحياة العائلية بالتجند في الجيش أو العمل في مؤسسات مدنية علمانية أخرى؛ والثاني- عدم وجود رغبة فعلية عند بعض القوى المؤثرة في الجيش لتجنيدهم؛ لأن تأهيلهم يستغرق فترة طويلة ومكلفة. هذا إذا علمنا أن بعض الجماعات في الجيش تدرس إمكانية تحويله إلى جيش مهنيّ وإلغاء أو تقصير مدة الخدمة الإلزاميّة. تخدم في الجيش وحدة "هناحل وحريديم/ الوحدة الحريدية" التي أصبحت منذ الثاني عشر من شهر كانون الأول سنة 2022 الشغل الشاغل لوسائل الإعلام العالمية لأن أفراد فرقة منها "نيتسح يهودا/ أبد يهودا أقدموا على قتل العجوز الثمانيني بتكيم فمه بلاصق، وعصب عينيه، وتكبيل يديه واحتجازه في مبنى قيد الإنشاء في البرد القارس إلى أن فارق الحياة.
يواصل الباحث القول أن التحديين: الثاني- "سياسة الدمج في العمل والنجاح النسبي"، والثالث- "المشاركة في قوى العمل وأجر العمل"الداعيين إلى دمجهم في سوق العمل لم ينجح إلا جزئيا لبقاء قطاع واسع من القوى في سن العمل خارجه وإنتاجية متدنية للعاملين فيه لأنهم يتقاضون رواتب متدنية بسبب تأهيلهم التعليمي- العملي المنخفض (ص 15- 28). من الشائع القول إن (الحريديم) لا يعملون ويتقاضون رواتب من الدولة طالما يدرس الرجال في المدارس الدينية بعد المرحلة الثانوية. هذا صحيح جزئياً فنساؤهم ينخرطن في سوق العمل بنسبة أعلى من الرجال لعدم انتظامهن في المدارس الدينية المغلقة أمامهن لأسباب دينية ويتقاضين رواتب أقل من مثيلاتهن العلمانيات. أما الرجال فيمارسون بعض الأعمال غير الرسمية، مثل تقديم خدمات هنا وهناك أو الاتجار ببضائع زهيدة الثمن. لكن الأمر بدأ يختلف في العقد الأخير عندما بدأ قطاع كبير نسبياً من رجال ونساء (الحريديم) يدركون فقر وسوء أحوالهم مقارنة ببقية اليهود، وأن الخروج من هذا الواقع إلى عالم الرفاهية يتطلب تغيير وجهة نظرهم عن الحياة، والدراسة، والعمل. فبدأ بعضهم الانخراط في قطاعات المعلوماتية، والإعلان والإعلام والتسويق والتواصل بين مجتمعي (الحريديم) والعلمانيين. ويجب القول هنا إن قوى السوق الليبرالية هي التي تدفع بهذا الاتجاه لسببين: زيادة أرباحها من فائض عملهم وإنتاجيتهم، والتخلي تدريجياً عن دورها في رعايتهم في عالمهم الديني.
ويخصص الباحث التحديات: الرابع- "جهاز التربية الحريدي والحاجز الذي تنتجه أمام اندماج (الحريديم) في المجتمع الإسرائيلي"، والخامس- "اندماج (الحريديم) في التعليم العالي ونجاحه المحدود جداً"، والسادس- "(الحريديم) والتكنولوجيا"للحديث عن أهم المعوقات التي تواجه (الحريديم) في حياتهم العملية والإسرائيلية. ينطلق الباحث من "الخطيئة الأولى المسؤولة بمدى معين عن القبائلية التي تميّز المجتمع الإسرائيلي اليوم وهو فصل جهاز التربية إلى أربعة أقسام [...]" التي وصفها "بن جوريون" بـ"الأوتونوميا" حيث تدارك بالقول إن الدولة هي التي تقرر الحدّ الأدنى من مواضيع التدريس وتراقبها. وقد أنتج فصل (الحريديم) في مسار تعليمي تربوي خاص بهم أجيالاً ضعيفة في كل شيء تقريبا مثل عدم معرفتهم البسيطة في أصول الحساب والرياضيات والعلوم الطبيعية، واللغة الإنجليزية، وتاريخ الكيان والاجتماعيات. الأمر الذي جعلهم مغتربين عن الدولة والمجتمع وسوق العمل الإسرائيلي. أما نتائج دمجهم في التعليم العالي عن طريق تخصيص مواضيع خاصة بهم والفصل بين الرجال والنساء فكان نجاحه ضئيلاً في النهاية لأنهم غير مؤهلين له ولم يقبلوا عليه كما توقّع واضعوه. يفاقم هذا الوضع ارتباطهم المحدود بالإنترنت والهواتف الخلوية (الذكيّة شبه معدومة) من حيث عددهم (الحريديم) والمضامين الدينية بحسب الشريعة التي ينكشفون عليها، وتُشكل هي الأخرى حواجز أمام اندماجهم في سوق العمل والمجتمع الإسرائيلي (ص 29- 52). لقد باتت أضرار هذا الفصل معروفة منذ زمن طويل لأنها تعدم قدرتهم على مواصلة التعليم العالي تحديداً النساء منهم، وتضعف تواصلهم مع بقية الإسرائيليين والعالم بالنت والهواتف الخلوية، أي تبقيهم في (جيتو) أسواره ترتفع وترتفع.
في التحدي السابع- "السياسة الحريدية كوسيلة لرفع الأسوار" يقول الباحث إن تحوّل (الحريديم) إلى بيضة القبان في تشكيل الحكومات الإسرائيلية منذ تسعينيات القرن الماضي أدى إلى "تحصين" نمط الحياة الخاص بهم لسببين: الأول- مواصلة إعفاء أبناء الشبيبة من الخدمة العسكرية، الأمر الذي يحول دون مواصلة تعليمهم العالي والالتحاق بسوق العمل والاندماج في المجتمع الإسرائيلي؛ والثاني- تجنيد الأموال من مؤسسات الدولة المختلفة [والخارج] لمواصلة حياتهم التقليدية على مستوى جماعات (الحريديم) المختلفة والأفراد منهم. وينقل المؤلف عن الباحث (موشي لاو) الذي بحث تأثير السلوك السياسي للحريديم على سياسة الرفاه في الدولة بالقول إن سلوكهم السياسي سمح لتدفق الأموال عليهم لكنه حصرها بهم ومنعها عن الآخرين (ص 53- 55). هذا الواقع لم يؤثر فقط على (الحريديم)، بل تعداه إلى بقية أفراد المجتمع اليهودي الذين باتوا يكنّون الضغينة والغيرة حيالهم بقولهم: "يعيشون على حسابنا"، "هم شعب آخر"، "متخلفون" وغير ذلك من نعوت وأوصاف تعمق الفروق وترفع الأسوار الاجتماعية والنفسيّة بينهم، الأمر الذي بدأ يقلق قباطنة الدولة على مصير نسيج المجتمع اليهودي ووحدته.
في التحدي الثامن- "الآثار الاقتصادية على التفضيلات القيميّة للحريديم" فيه يشخص الوضع الاقتصادي لهم كالتالي: وفقاً لمعطيات مؤسسة التأمين الوطني لسنة 2018 بلغت نسبة العائلات الحريدية التي تعيش تحت خط الفقر 42%، والأولاد منهم 52%، وتبلغ نسبة مجمل (الحريديم) الذين يعيشون تحت خط الفقر 42%. ثم يضيف: إن انكشاف (الحريديم) على بقيّة الإسرائيليين من شأنه أن يغيّر مفهوم الفقر والاحتياجات المختلفة في سياق مقارنتهم مع بقية اليهود ولن يبقى عن المعطيات الإحصائية فقط (ص 56- 58). نعيد ونكرر؛ إن الوضع هو نتيجة إعفائهم من الخدمة العسكرية، ودفع رواتب للرجال الذين يواصلون دراستهم الدينية فوق الثانوية، ومنح قطاع التعليم الخاص بهم "أوتونوميا" الذي اسميتها ذات مرّة بـ"أوتونوميا التخلف" لأنها أفضت إلى تخلفهم عن بقية اليهود.
في التحدي التاسع- "(الحريديم) والإسرائيليون: جوانب قيميّة" يشرح المؤلف إشكالية تعاطي (الحريديم) مع القيم الديموقراطية، والمساواة، والليبرالية والعرب الذين يعيشون في الكيان ويقول إن (الحريديم) يقبلون بمبدأ المساواة مع بقية اليهود إلا أنهم يرفضونها مع العرب ونسبة الرافضين لها ترتفع سنة بعد سنة. لذا يقول إن دولة إسرائيل اليوم متصدعة اجتماعيّاً، وإن الديموقراطية فيها غير ثابتة، بل نابعة من توازنات قبليّة مختلفة (ص 59- 67). وكي لا نبتعد كثيرا عن الأسباب التي تؤدي إلى العداء للعرب أو نضرب أخماساً بأسداس لفهم الظاهرة يمكننا تصفح الكتب المدرسية ووسائل الإعلام المختلفة الخاصة بهم التي لا تذكر العرب بالاسم، بل تصفهم بالـ(جوييم) و(يشمعـءليم= الإسماعيليين) وهو وصف يعني أنهم أدنى من اليهود وأعلى درجة من الحيوانات. هذا ناهيك عن السياسة الرسمية للكيان التي تغذي هذه النظرة العدائية تجاه العرب.
في التحدي العاشر- "المجتمع الحريدي اليوم: صورة محدثة" يقسم المؤلف هذا المجتمع إلى مجموعتين هما: "حريديو الخيمة" و"حريدو الحصن". فحريدو الخيمة هم من أبناء الطوائف الشرقية الذين درسوا في مدارس "حريديو الحصن" لكنهم لم يتبنوا كامل قيمهم فبقوا أكثر مرونة من "حريدي الحصن" المتشددين ممن يرفعون الجدران حول قيمهم ومناحي حياتهم المختلفة. ويقول إن التغيرات لم تحصل بين (الحريديم) من حيث تقبلهم للقيم العامة للمجتمع الإسرائيلي، بل إن المجتمع الإسرائيلي هو الذي تقبلهم (ص 68- 75). ويمكن القول إن التحدي الحادي عشر- "التنبؤات الديموقراطية ما بين مجتمع حريدية الخيمة وحريديي الحصن"- هو تتمة للتحدي الذي سبقه، ويعبر المؤلف عن قلقه من عدم وجود سياسة وخطط واضحة لنسبة تكاثر (الحريديم) ودمجهم في سوق العمل الذي سيستمر في الخسارة والنزيف لعدم دمجهم فيه. كما أنه يعبّر عن قلقه من عدم رغبة حريديي الحصن الاندماج في المجتمع الإسرائيلي. بالمقابل، إن حريديي الحصن أكثر مرونة في السكن في أحياء ومدن مختلطة بينهم وبين العلمانيين (76- - 85). في نفس السياق ينهي الباحث كتابه بالسؤال والتحدي الثاني عشر- "(الحريديم)والكورونا: تسارع الأوتونوميا؟" ليقول إن تعاطى حريديي الخيمة يتصف بمرونة أكثر من حريديي الحصن الذين تمردوا على قرارات الدولة من حيث الحجز الصحي واللقاحات والالتزام بتعاليم الوقاية من الكورونا، ليطرح سؤالاً هاماً حول تعمق مسار الأتونوميا بينهم؟ وليقول أيضاً إن ثقة (الحريديم) على وجه العموم بمؤسسات الدولة ضعيفة جداً وإنهم مغتربون عنها (ص 86- 90). والسؤال الذي يطرحه الباحث ليس عبثيّاً أو من الخيال. فهناك قوى برجوازية تقليدية بين اليهود لا يهمها أمر دمج (الحريديم) في المجتمع الإسرائيلي، لأن العطايا التي تقدمها الدولة لهم أقل ثمناً من إمكانية حصولهم على حصتهم إذا ما انخرطوا في سوق العمل واندمجوا في الدولة ومؤسساتها.
في الخاتمة نقول: إن المعضلة والتحدي الأكبر الذي يتحدث عنه الباحث هو القلق على الكيان الذي يتعمق فيه التزمت الديني وتشظي المجتمع اليهودي. أي تخوفه من استمرار ضعف النسيج الاجتماعي اليهوإسرائيلي في مواجهة التحديات السياسية والأمنية التي تواجهه في المنطقة. فبدل أن تعمل الدولة ونخبها على حلّ مشكلات (الحريديم) (والعرب الذين غيّبهم الباحث عن المشهد) فإنها تدفع بهم في العقدين الأخيرين للاستيطان في الضفة الغربية ،والأحياء العربيّة في كل من المدن المختلطة يافا واللد والرملة وعكا، وبالقرب من بعض القرى العربيّة في المثلث والجليل كجزء من تجديد الاستيطان اليهودي في فلسطين. على هذه الخلفيّة هاجم (الحريديم) الأحياء العربية في المدن المختلطة في أيار 2021 (وكنت قد كتبت عن هذه الظاهرة في مقالين هما: (عرب اللد: "في مرمى القمع والتهجير" 2010، و"كتائب الحروب الدينية والديموغرافية" 2011). ويسود الاعتقاد بين دهاقنة الكيان أن (الحريديم) هم أكثر الجماعات السكانيّة تكاثراً في العالم وليس بين اليهود فقط، لذا يشكلون حلّا للمشكلة الديموغرافية التي عمل عليها (شمعون بيرس) في اتفاقية أوسلو 1993 بتثبيت تجزئة عرب فلسطين في ثلاثة معازل في الوطن (مناطق الـ48، الضفة وغزّة) وإبقاء اللاجئين في دول لجوئهم.
تفاصيل الكتاب:
عنوان الكتاب: إسرائيل والمجتمع الحريدي: أسوار ترتفع ومستقبل مليء بالتحدي
اسم المؤلف: (شُوكي فريدان)
إصدار: المعهد الإسرائيلي للديموقراطيّة
سنة الإصدار: 2021
عدد الصفحات: 91
لغة الكتاب: العبرية.
