الإسلام ونظام العالَم

الاسلام ونظام العالم (3).jpg

أمير نور

صلاح خيراني*

الأستاذ والمفكر "أمير نور" ومن خلال كتابه ودراسته الجادة والرصينة يعالج الإشكالات والقضايا التي تواجهنا، مستشرفا لمستقبل الأمة الإسلامية في عالم سريع ودائم التغير، وهو من خلال هذا الكتاب أعطى دفعا نوعيا للمكتبة العربية والإسلامية خصوصا وللفلسفة السياسية البشرية عموماً. هذا الكتاب الذي يحمل عنوان: "الإسلام ونظام العالَم: وصية مالك بن نبي L’Islam et  L’ordre du monde le testament de Malek Bennabi" وللوهلة الأولى وانطلاقا من عنوان الكتاب نلاحظ الرسالة التي يريد الأستاذ أمير نور إيصالها وهي: فلنعِد صياغة المفاهيم مجددا لفهم العالم بشكل أعمق.

لقد تابع الكاتب من خلال توثيق صارم أفكار أكبر الكُتَّاب العالميين المعاصرين المهتمين بدراسة واقع الحضارة اليوم ومصيرها المستقبلي. ونَبَّهنا إلى ضرورة قراءة الإنتاج الفكري والسياسي الغربي بتوجهاته المختلفة وأحيانا المتضاربة لفهم ما يدور حولنا ورسم معالم الاستراتيجية المستقبلية لأمتنا. وذكَّرنا في هذا المجال بأنه لا يكفي الفهم السطحي أو السريع لطبيعة الصراع السائد اليوم لتوقع التحولات القادمة، بل ينبغي البحث عن جذوره العميقة في عالم الأفكار التي عملت على صناعته. وهذا لن يتأتى إلا من خلال متابعة دقيقة لما يَصدر من مؤلفات وتقارير  ومقالات، عن دور نشر عالمية أو مراكز بحث متخصصة أو ما تشير إليه كبرى وسائل الإعلام عبر آراء كُتَّابها.

 

لقد غَطَّى الكتاب جزءا كبيرا من ذلك وسعى للإجابة عن سؤال مركزي: هل يمكن للحضارة القادمة أن تتشكل من دون قيم الإسلام؟ وهل انتصر الغرب في حربه التي دامت أكثر من 5 قرون على العالم الإسلامي؟ وهل أطروحات اليوم عن الإمبراطورية التي تحكم العالم من خلال مجموعة احتكارية قليلة العدد -8 أشخاص يمتلكون وحدهم ما يمتلكه النصف الأكثر فقراً في العالم.. ثرواتهم المقدرة بـ426 مليار دولار تساوي ما يعيش به 3.5 مليار من السكان- ستفرض منطقها على البشرية وتصنع مستقبلها كما تريد؟ أم أن اعتبار هذا الأمر مشكلة أخلاقية أكثر مما هي اقتصادية  كما يقول (Collins ص 118)، سيُعزِّز استعادة فعالية القيم الإسلامية ويُنبِّهنا إلى أنَّ هذا العالم الذي نعيش فيه الآن مازال عثمانيًا في حدود كثيرة على حد تعبير"Alan Mikhail" في كتابه " ظل الله: السلطان العثماني الذي شَكَّل العالم المعاصر-God’s Shadow:  The Ottoman Sultan who shaped the modern world" الصادر سنة 2020 (ص41)، أم أن القرن الحالي لن يكون لأحد؟ (ص109).

هل هناك تحول، أم نهاية للسلطة على الصعيد العالمي؟ هل ستحطم الولايات المتحدة النظام الليبرالي الذي صنعته؟ وأي مكانة ستكون لنا فيه؟ وهل ينبغي لنا قراءة مالك نبي مرة أخرى لنعرف طريقنا نحو المُستقبل؟ وعشرات الأسئلة التي طرحها الكاتب وأجاب عنها، تصريحا أحيانا وتلميحا أحيانا أخرى.

هذه الرسالة التي يتبناها الكاتب أسَّسها بناءً على مرجعية راسخة من مرجعيات المدرسة الفكرية الجزائرية والإسلامية وهي أعمال الأستاذ الراحل، ضمير العالم الإسلامي والشاهد على القرن العشرين.." مالك بن نبي". إن الأستاذ مالك بن نبي وفي إحدى أهم وأخطر الأفكار والمُلاحظات التي ضمّنها في محاضرة من محاضراته الأخيرة قبيل وفاته سنة 1973م والمسماة باسم (دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين)، يحدد بدقة وفي وقت مُبكر جداً ملامح نظام دولي سيقوم على أنقاض انهيار الاتحاد السوفييتي سابقًا، الذي استشرَفَ انهياره قبل سقوطه الفِعلي بأكثر من عشرين سنة. هذه الملامح التي أشار فيها إلى ضرورة استعدادنا للتغيير المسبق ومواكبة الأحداث كي لا نقع في فخ الاستقطاب (أحادي القطبية) فيُفرَض علينا التغيير من الخارج. ثم يقوم ويدعو إلى التخلص من الإرث التاريخي والتراكم النفسي-الزمني الذي ألحقه تخلف العالم الإسلامي من جهة والمدنية الغربية من جهة أخرى، حتى نتمكن من إعادة التوازن إلى الضمير الإنساني في العالم والذي يوازن بين العلم والروح على حد السواء.  

وهنا بالذات يتحقق مفهوم إقامة نظام للعالَم بدلا من مجرد نظام دولي أو عالمي أو كوكبي يحمل سِمات سياسية مختزلَة في طابع هيكلي لتنظيم العلاقات الدولية أكثر مما يحمل السّمات الحضارية الشاملة للعلاقات الإنسانية سواء أفرادا وجماعات أو شعوبا وأمما ومجتمعات أو دولا وحكومات. ومن هنا بالذات ينطلق الكاتب "أمير نور" في تحليله العميق الذي يعود فيه إلى الجذور التاريخية لظهور ما يسمى بالنظام الدولي الذي حرص مالك بن نبي على نقده. وقد عاد في ذلك إلى ما يقارب الأربعة قرون ليجد أن الجذور العميقة لشتى المفاهيم السياسية الراهنة هي ذات منشأ غربي بعد مؤتمر وستفاليا سنة 1648م (كمفهوم السيادة والمصلحة القومية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية... إلخ)، ولكن هذه المفاهيم نفسها لم تكن الدول الأوروبية محترمة لها، وهي تغزو تحت الدفع القوي لنزعتها الاستعمارية المستندة إلى ما وصلت إليه من قوة مادية إثر الثورة الصناعية خصيصا إبان القرن التاسع عشر.

 

 وفي أثناء تحليل الوضع الراهن، ثبت بأن النظام الدولي لم يعد صالحا ليستمر بهذا الشكل وأنه يتأهب للتحول إلى طور آخر وهو نظام عالمي متعدد الأقطاب لا تكون فيه الدولة هي وِحدة التحليل الأساسية على غرار ما تراه المدرسة الواقعية مثلا، بل تصبح الفواعل الأخرى كالشركات والتكتلات الإقليمية والمجتمعات المدنية وغيرها كلها فواعل لها تأثيرها أيضاً. ولكن مهما يكن من أمر فإنَّ الطابع السياسي الذي سيُهيمن على النظام العالمي المقبل هو التعددية القطبية، أو تعددية الأطراف الدولية كما يعبر آخرون عن ذلك، الأمر الذي دفع بالكثير من النخب العالمية إلى محاولة استشراف مآلات كل ذلك وحتى تقديم بعض الأطروحات التي تسعى لاحتواء التحول المقبل. وهذا ما تطرق إليه الأستاذ "أمير نور" في معرض نقده لما كتبه الدبلوماسي الأمريكي المخضرم "هنري كيسنجر" في أحد كتبه الأكثر أهمية وهو (النظام العالمي).

 ومن أهم الإشكاليات التي يمكن استنباطها من كتاب كيسنجر هي مدى إمكانية إنشاء نظام عالمي مشترك ولكن انطلاقاً من قيم وتجارب تاريخية متباينة لشعوب مختلفة. غير أن التوجس الأكبر الذي قدمه كيسنجر هو أنه في حالة فشل إقامة نظام عالمي جديد سيكون الخوف من فتح مجالات نفوذ مختلفة لقوى معينة أكثر من الخوف من نشوب حرب واسعة النطاق، وأهم أنموذجين سيشكلان لنفسهما مجالات نفوذ متضادة هما النسخة الوستفالية الغربية العلمانية القائمة حاليا والنسخة الإسلامية الراديكالية. بذلك يبدو الشكل العام لمستقبل العالم كأنه صراع بين هذين الأنموذجين، ومن هنا بالذات يأخذ الأستاذ أمير نور زمام المبادرة ليتجاوز طرح كيسنجر والذي يصفه بالقراءة السطحية والذاتية أكثر منها إستراتيجية. 

لقد ذهب "أمير نور" قدما في كتابه ليطرح الإشكالية على صيغتين: ما مستقبل الإسلام في العالم؟ وما مستقبل العالم بالنسبة للإسلام؟ إن الإجابة تتطلب أولاً معرفة أوضاع العالم الراهنة والتي يُشير إليها الكاتب باختصار أنها لا تخرج عن نطاق الفوضى الدولية التي تطبع النظام الدولي الراهن، كما أنها تشهد انهيارا وتفككا للمنظومات الفكرية التي هيمنت قديما مثل الكاثوليكية التي رضخت أخيرا لجموح العالم الحديث، بينما بقيت العولمة تصول وتجول على مختلف شعوب العالم وثقافاتهم لتطبعهم بطابعها الأحادي الراضخ لليبرالية. وهنا يظهر الإسلام كحصن منيع بقي هو الحامل الوحيد للواء التوحيد الإبراهيمي لم ينجح أي طرف في تفكيكه ليلائم ذلك الجموح الإيديولوجي والسياسي للنظام الدولي الحالي. وهذا يمثل بالنسبة للكثير من الشعوب والمجتمعات مرجعا ثابتا كالمنارة الشامخة وأملاً مشرقاً بين أمواج عصر تموج بالاضطرابات والتيارات المتضاربة. فمستقبل الإسلام إذن في العالم يبدو جلياً بأنه مستقبل مقاومٌ، أي لن يستطيع العالم رسم أي شكل للعلاقات الدولية والحضارية يغلب عليها الطابع الأحادي دون أخذ الإسلام والعالم الإسلامي بعين الاعتبار؛ فمُستقبل الإسلام هو مستقبل استراتيجي بحق وسيكون محورياً وليس هامشيًا. 

 

أما مستقبل العالم بالنسبة للإسلام نفسه فإنِّه يخضع للحتميات القدرية بالموازاة مع إرادة الإنسان، إذ الآيات صريحة في ذلك مثل {وتلك الأيام نداولها بين الناس} و{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}. الأمر الذي يمنح للمسلم رؤية مزدوجة للعالم: من حيث هو ميدان للتصرف والإرادة الإنسانية، ومن حيث هو صفحة للقدر الإلهي. فلا يسقط في اليأس ولا في الاتكال. وحينما نذكر الإرادة فذلك يعني طرح مجمل العوامل والشروط المعنوية منها والمادية التي تشحذ هذه الإرادة وتكونها ثم تجعلها تمثُّلاً وواقعا. ومن هذه الفكرة يعود "أمير نور" إلى الهندسة التي وضعها الأستاذ مالك بن نبي في هذا الشأن والتي ربط فيها بين (إعادة تفعيل عقيدة المسلم) وتكوين ثقافته من جديد على منطق عملي ليجمع بين الروح والمادة ويحقق التوازن، ومن خلال هذا التوازن يسعى برسالته ليكون أعلى من الربوة وليس تحتها... لأنَّ الماء لا يسقي الربوة التي تعلوه، أي أن يواجه المدنية الغربية وهو في المستوى العالي الذي يؤهله لتقديم أنموذج حضاري لها بعد تخلّصه من حالته المتخلفة أولاً بمعالجته لها ولأسبابها. وحينها يجد المسلم أنه وصل لتحقيق: نظام للعالَم بدلا من رضوخه لتجاذبات خارجية لمحاور دولية تتضارب بين نظام دولي أحادي القطبية ونظام عالمي متعدد الأطراف. إذ يجد رسالته الحقيقية وهي أنه يسعى لوضع نظام يعيد ضبط المفاهيم والعلاقات والمصالح بين الناس من جديد. 

إن جميع هذه الأسئلة والإشكاليات يتطرق إليها الكاتب "أمير نور" في عمله النوعي هذا تطرُّق الخبير والمشخّص والمعالج على حد سواء بما يدفع بنا إلى الإشادة فعلاً بهذا العمل والدعوة إلى فتح أبواب البحث في أهم المواضيع التي طرحها لتوسيع نطاق الاستفادة من جهة والإسهام في المساعدة على معالجة كل تلك الملفات من جهة أخرى... معالجة تسعى إلى تقوية أسسنا الفكرية والأخلاقية والاجتماعية في عالم يتوجه نحو تغيّرات مستقبلية كبرى. وبعد اطلاعي على الكتاب وتعمقي فيه، خرجت بخلاصة مفادها أنه لا يمكن الزَّعم بإمكانية امتلاكنا لتصور واضح عن مستقبل العالم ومستقبل أمتنا ضمنه في العقود القادمة من دون قراءة عميقة ومُتمَعِّنة لما تضمنته كتابات الغربيين في هذا المجال وخاصة منذ بداية هذا القرن. وهو ما قام به الكاتب باحترافية عالية وبصرامة علمية لا شك فيها، من حيث دقة الاقتباسات ووجاهتها وحسن اختيارها.

 

تفاصيل الكتاب:

عنوان الكتاب: الإسلام ونظام العالَم: وصية مالك بن نبي

 L’Islam et  L’ordre du monde le testament de Malek Bennabi

المؤلف: أمير نور

 *باحث جزائري مختص في الدراسات العثمانية وفي تاريخ الشرق الأوسط السياسي والعلاقات الدولية.

اللغة: الفرنسية

عدد الصفحات: 236

دار النشر: عالم الأفكار Afkar-Alem El

مكان النشر: الجزائر

تاريخ النشر: ديسمبر 2021 

أخبار ذات صلة