نيل فيرغيسون
محمد السماك
نيل فيرغيسون ليس مجرد زائد واحد إلى عدد المؤرخين المعاصرين. في بريطانيا على الأقل يُعتبر فيرغيسون رائد هؤلاء المؤرخين؛ ذلك أن كتبه التاريخية ليست سردية للوقائع والأحداث بقدر ما هي دراسات اجتماعية – فلسفية حول الأسباب والنتائج . أسباب الصراعات وخلفياتها، والنتائج التي أسفرت عنها بالنسبة للعلاقات بين المتحاربين والمتصالحين. ولذلك فإن كتبه تعتبر مرجعاً علمياً ومنارة يستضيء بها الباحثون. ولا يختلف عن ذلك كتابه الجديد:" المحتوم"، ولذلك نُشر في لندن في الوقت ذاته الذي نُشر في نيويورك وواشنطن . وتولّت النشرة الإنجليزية للكتاب دار نشر ألين لين Allen Lane .
وتفسيراً لهذا العنوان الذي قد يبدو للوهلة الأولى غامضاً، فقد وضع المؤلف عنواناً إضافيا فرعياً له هو "سياسة الكوارث". وبهذا العنوان التوضيحي أصبح الهدف من الكتاب واضحاً ومفهوماً . وهو كيف يصنع الإنسان الكوارث التي تعصف به؟ ولماذا ؟ وما هي النتائج التي تترتب عليها؟؛ فالكوارث الإنسانية بالنسبة إليه هي من صنع الإنسان في الدرجة الأولى. وتالياً فإن الإنسان مسؤول عنها. والغريب في ذلك أن فيرغيسون يدرج حتى الكوارث الطبيعية في إطار هذا التصنيف. ومن ذلك اعتباره كارثة انتشار وباء كورونا (كوفيد-19) الذي أودى بحياة أكثر من خمسة ملايين من البشر في الشرق والغرب، واحدة من الكوارث التي يتحمّل الإنسان مسؤوليتها. وذلك بصرف النظر عن الجدل العلمي – السياسي الذي يدور حول أصل الفيروس ومصدر الوباء !!.
صحيح أن المؤلف لم يقف عند حدود إطلاق الأحكام، ولكنه ذهب في دراسته إلى أبعد من ذلك، فألقى الضوء على الأسباب والنتائج . وهي أسباب جدلية لا تزال موضع أخذ وردّ حتى الآن، وربما تستمر لفترة طويلة أيضاً، كما توقع هو نفسه في كتابه.
يقول المؤلف إن كل الكوارث هي إلى حدّ ما نتيجة كوارث سياسية ارتكبتها يد الإنسان. حتى ولو أنها بدأت أو انطلقت من بؤر جديدة تحمل جرثومة مرضية .
وهو يعزو ذلك إلى ما يتمتع به المجتمع –أيّ مجتمع- من مواصفات، مثل : الخضوع للأمر الواقع، والهشاشة المجتمعية، والقدرة على التعامل مع مخلفات ونتائج الكارثة التي تنزل به. وسواء كانت هذه الكارثة ناتجة عن عوامل طبيعية مثل الانفجار البركاني (أندونيسيا) أو الهزات الأرضية (نيبال) أو موجات التسونامي (اليابان) أو انتشار الأوبئة (الولايات المتحدة وسواها).
وفي الواقع فإن هذا الموضوع هو موضوع الساعة؛ ذلك أن العالم مفتوح على كل أنواع هذه الكوارث الطبيعية أو الإنسانية والتعامل معها يختلف من مجتمع إلى آخر، ليس من حيث الإمكانات المادية فقط، ولكن من حيث المشاركة الجماعية في مواجهة الكارثة وتداعياتها، فحيث تتلاشى إمكانية النجاة الفردية تصبح التضحية بالذات –الفردية- أحياناً أساساً للنجاة الجماعية.
وعندما يتطرق المؤلف إلى موضوع وباء كوفيد 19 الذي فتك بالعالم على مدى العامين الماضيين، فإنه يؤكد على مبدأ توافر عدة عوامل لمجابهة الوباء، ويعتبر أن التباين في نتائج انتشار الوباء يتوقف على التباين والاختلاف في كيفية مواجهته بين مجتمع وآخر، كما أنَّه يعكس بصورة مباشرة –وغير مُباشرة-نقاط القوة والضعف الجماعية أو المجتمعية في هذه المجتمعات. صدر كتاب الدكتور فيرغيسون في الوقت الذي لا تزال جائحة كورونا تفتك بالبشرية حول الكرة الأرضية، إلا أن المقارنة بين عدد المصابين الذي نجوا وعدد الضحايا الذين قضوا في الصين وفي الولايات المتحدة مثلاً، أو في إيطاليا والسويد مثلاً آخر، تفتح الآفاق واسعة للدراسات الاجتماعية حول النظم المتحكمة أو الصانعة لسلوك الناس، أفراداً وجماعات، ومدى الالتزام بهذه النظم سواء بالاختيار الذاتي أو بالتهديد الوقائي، أو حتى بالعقاب المادي.
ويقول المؤلف إنَّ هناك عدة عوامل تلعب دوراً رئيسياً في صياغة سلوك الدولة في مواجهة الجائحة، وإن بعض هذه العوامل يحتاج إلى اكتشاف ومن ثم الإضاءة عليه، وإن ذلك مهم لفهم أسباب تعدد المواجهات التي عرفتها المجتمعات المختلفة في العالم للوباء (كوفيد 19) وللنتائج التي أسفر عنها انتشار الوباء من جهة، ولكيفية مواجهته من جهة ثانية.
وهنا يقدم المؤلف مقارنة بين الإجراءات التي اتخذتها الصين الوطنية (تايوان) مثلاً، والنتائج الباهرة التي أسفرت عنها، والأزمة الإنسانية المؤلمة التي واجهتها الهند. ويقول حتى الولايات المُتحدة والدول الأوروبية كان يفترض بها أن تُحقق نجاحات أفضل. أما لماذا لم تُحقق ذلك، فإنِّه أمر لا يزال مفتوحاً للبحث الاجتماعي وليس التنظيمي فقط.
هذه النظرية الاجتماعية سبق أن اهتم بها بالعمق الباحث الاقتصادي "أمارتيا صن" في كتاب له عنوانه :" الفقر والمجاعة: مقالة في التفويض والحرمان"، والذي حصل بسببه على جائزة نوبل للاقتصاد في عام 1981م.
وفي هذه النظرية يبيّن الدكتور صن كيف أنَّ المجاعة التي يواجهها شعب ما لا تعود بالضرورة إلى سوء المحصول الزراعي، وإنما إلى سوء الإدارة السياسية. وهناك أمثلة عديدة أخرى في التاريخ الحديث:
لقد كان النقص في عدد قوارب النجاة مسؤولاً عن موت ركاب الباخرة –تايتانك- التي اصطدمت بجبل الثلج.
إن انفجار مركبة الفضاء الأمريكية تشالنجر لم يفاجئ أحد العلماء ريتشارد فايمان الذي سجّل عيوباً قبل الإطلاق، ولكن جرى تجاوزها.
إن الكارثة الإنسانية التي حلّت بسوريا، أشعل فتيلها عود ثقاب "سوء التقدير".
والآن تواجه العلاقات الأمريكية – الصينية خطر إشعال عود ثقاب من هذا النوع.
ويقول فيرغيسون إن من شأن السياسة تنظيم العمل المشترك للأشخاص والمؤسسات والمنظمات، وأنه عندما تحلّ كارثة بالإنسانية، فإنَّ الإنسانية نفسها تكون المسؤولة وأنها هي التي يجب أن تُلام !!.
هنا يقدم فيرغيسون أمثلة شيقة من التاريخ القديم يمكن الاستنارة بها – وهو ما يفعله عادة في كتاباته التاريخية. من ذلك مثلاً الوقائع التي سجلّها المؤرخ اليوناني الشهير تيوسيدس حول المجتمع الأثيني (نسبة إلى العاصمة أثينا) بعد أن ضربها الوباء (للمقارنة مع انتشار وباء كورونا في عصرنا الحالي).
ويذهب فيرغيسون إلى أعمق من ذلك وهو كبير المؤرخين في القرن الواحد والعشرين إلى تقديم الرواية الخلفية لمعركة "الصوم" التاريخية في الحرب العالمية الأولى والتي أودت بحياة عشرات الآلاف من الجنود في المعسكرين المتحاربين. كما يقدّم الأسباب غير المعروفة لانهيار وسقوط أسرة مينغ التي كانت تحكم الصين والتي أدى سقوطها إلى تغييرات جوهرية واستراتيجية في الصين وحولها، ويربط هذه الجولة التاريخية في عملية البحث عن جواب للسؤال الذي وضع كتابه في الأساس من أجله، وهو: ما هي العلاقة بين الإنسان والكارثة التي يواجهها؟ ومن المسؤول عنها ؟ ولماذا ؟ وكيف؟.
لقد طاف المؤلف في الأحداث التاريخية الفاصلة التي عرفتها الإنسانية في الشرق والغرب على حد سواء لتأكيد نظريته التي تحمّل الإنسان، والإنسان وحده في الدرجة الأولى، مسؤولية الكوارث التي حلّت به. واستطراداً، تلك التي يمكن أن تحلّ به في المستقبل.
فما الحكمة من ذلك ؟
هنا نتذكر ما ورد في القرآن الكريم عندما أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة أن يسجدوا لآدم (الذي خلقه الله من تراب وخلقهم من نار ونور)، قالت الملائكة (البقرة 30) : " قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون".
إنَّ عرض كتاب المؤرخ الموسوعي الدكتور فيرغيسون يقدّم لائحة اتهام للإنسان بالمسؤولية عن كل ما يحلّ بالكرة الأرضية من كوارث. وفي الواقع فإن القدرة التدميرية النووية التي تملكها دولتان فقط هما الولايات المتحدة والاتحاد الروسي، كافية لقتل كل إنسان على سطح الأرض أكثر من عشر مرات. وهناك دول عديدة أخرى مسلحة نووياً (الصين وفرنسا وبريطانيا وكوريا الشمالية وإسرائيل) . كما أن هناك دولاً أخرى انضمّت إلى هذه المجموعة في مقدمتها الهند وباكستان.. إن أي تصرّف مبني على ردّ فعل أو معلومة خاطئة، أو سوء تقدير، من شأنه أن يضع الكرة الأرضية كلها على كفّ عفريت.
من هنا عنوان الكتاب: المصير المحتوم.
وكأن هذا المصير هو قدَر مقدّر. والإنسان المسؤول عن الكوارث التي تحلّ بالكرة الأرضية والتي تصنع هذا القدر -كما يؤكد المؤلف- هو نفسه الذي يبحث عن كوكب آخر يصلح لحياة الإنسان في المجموعة الشمسية.
والمفارقة المضحكة – المبكية في هذا الأمر هو أنه في الوقت الذي صدر هذا الكتاب العلمي الموثّق عن مسؤولية الإنسان، تصدر مؤلفات أخرى تعزو إنجازات العالم القديم (الفراعنة في الشرق والأزتيك في جنوب ووسط أمريكا) إلى مصادر فضائية عرفت طريقها إلى الكرة الأرضية وأقامت فيها المنشآت التي لا يزال بعضها مستمراً حتى اليوم !!.
تفاصيل الكتاب:
الكتاب : المصير المحتوم: سياسة الكوارث
المؤلف : نيل فيرغيسون Niall Ferguson
الناشر : بنجوين Penguin
الصفحات : 496
التاريخ 2021
