روسيا 2050 : اليوتوبيا والتنبؤات

روسيا 2050 (2).jpg

تأليف جماعي

فكتوريا زاريتوفسكايا

*أكاديمية ومستعربة روسية

اختار مؤلفو هذا الكتاب موضوع المستقبل وتلمس ما ستؤول إليه الأوضاع في روسيا بعد ثلاثين عامًا من الآن، معتمدين في ذلك على قراءة الواقع والظروف التي تعيشها البلاد في ظل المستجدات الأخيرة التي طرأت على الساحة الدولية. من جهة، يؤكد المؤلفون على غياب إمكانية النظر إلى المستقبل، ما اضطرهم للتعامل مع الظروف الراهنة الصعبة، حيث ينتقل العالم من أزمة إلى أخرى وحيث تنشب الصراعات عاماً تلو عام ومنها صدمات أسواق الاقتصاد العالمي والأوبئة وقضية المناخ التي أفضت بالعالم إلى درجات حرارة غير مسبوقة وجفاف وحرائق غابات وغيرها من الكوارث.

 

عدا ذلك ثمَّة عوامل أخرى ظهرت في العقود الأخيرة تجعل من مسألة التفكير في المستقبل أمرا عسيرا على الإنسان. يشير الباحثون إلى أن فقداننا لهذه المقدرة، أي مهارة التنبؤ بالمستقبل، بدأت فعليًا في منتصف القرن الماضي. لقد فقدناها كمؤشر لتطور أعمالنا وكضرورة طبيعية في حياتنا اليومية، ومن يومها خرجت الأفكار عن المُستقبل من مجال مناقشاتنا العامة. "لقد شهدنا آخر لمعة للوعي الطوباوي في أواخر الستينيات، ليتم القضاء عليه بعد ذلك من قبل نظام العمل غير المستقر، هذا النوع من العمل الذي يجبرنا على إيلاء ثقتنا بالوقت الآني والركون إليه، عاجزين عن استيضاح ما ينتظرنا في الغد. وقد تقلّص أفق التخطيط للفرد العادي بشكل مضطرد في العقد المنصرم، ما يدلّ على أن المستقبل ماضٍ في السقوط ليس من الحياة العقلية فحسب ، ولكن أيضًا من الحياة اليومية المعيشة. هذا ما أطلق عليه الفيلسوف الفرنسي فرانسوا أرتو مصطلح "الظاهرة الحاضرية" التي جاءت لتحل محل الوعي التاريخي المفتوح للأمام" (ص: 10). 

يشرح المؤلفون أنَّه حتى وقت قريب بدا لنا أنَّ الحياة بأكملها تجري كيوم طويل، فأصبحنا نتقبل الحاضر كشيء مستقر، غير قابل للتغيرات، أي أنه شيء متجمد ومؤبد. النتيجة أنه، وما إن ينجم أي خطأ أو هزة، كالهزات الاقتصادية مثلا، حتى يبدأ الوقت في الجريان، باعثا معه سلسلة من الاضطرابات الحادة. وهكذا، فالوقت الذي كان يبدو وكأنه متراص، يبدأ في الانهيار، فتخرج على إثره أفكارنا الدفينة لتؤرقنا وتوخز ضميرنا، يتقدمها التفكير في الفرص الضائعة. لقد بدأت مثل هذه الحركة التكتونية في بداية عام 2010 وبحلول بداية العقد الجديد غرقت البشرية في حالة من الشك الكبير في مستقبلها.

نرى هذا في كل مكان، لكن في روسيا يتفاقم الأمر بسبب حقيقة أن التحول الكبير والمؤلم في التسعينيات قد شكل نمطًا اجتماعيًا للبقاء نادرًا ما ينظر فيه الشخص إلى أبعد من الغد. ووفقا للمؤلفين قد لا يحتاج الروس الآن إلى يوتوبيا أو حلم ٍ بمستقبل أفضل، ذلك لأن اليوتوبيا كانت تحتل مكانة ثابتة في الثقافة السوفيتية، وكان تنفيذها في الواقع مصحوبًا بمُعاناة الناس وفناء الكثير منهم.

من الناحية الثقافية ظهرت في روسيا الروايات الأدبية المكرسة بالكامل لوصف المشاريع اليوتوبية، على عكس أوروبا التي يندر فيها مثل هذا. من أهم هذه الأعمال تأتي رواية "سوناتا كرويتزر" لعميد الأدب الروسي ليف تولستوي والتي يرسم فيها صورة عالم تؤدي الأسرة فيه وظيفة روحية بحتة. بالنسبة لتولستوي فإن الجذر الروحي للمجتمع هو الفضيلة نفسها. كما تناول الباحثون قصة دوستويفسكي "حلم رجل مضحك" التي تحكي كيفية إنقاذ العالم الفاسد عبر تضحية البطل بنفسه وتحوله إلى مسيح وبالتالي يقترب هذا العمل من صيغة اليوتوبيا اللاهوتية الحديثة.

 

يرى أحد الباحثين سبب قلة انتشار الأفكار المتعلقة باليوتوبيا في علم الاجتماع الروسي فيذكر أن "اليوتوبيا، من حيث المبدأ، بناء نظري، بينما اليوتوبيا الرسمية في روسيا - آلة تحطم ما عداها، فالحكومة الروسية، دائمًا وأبدا، قوية، لا تسمح بدخول برامج وخطط من خارجها. سمة أخرى لروسيا تظهر في أن الشعارات اليوتوبية التي دخلت الحياة الغربية تدريجيًا، تشتت في روسيا بسرعة فائقة، وفي كثير من النواحي فقدت قوتها على التأثير في الواقع. فقضايا المرأة، على سبيل المثال، تمَّ حلها بعد الثورة البلشفية وبعد أن استقرت فكرة المساواة  بين الجنسين وعمّت في جميع مناحي الحياة. لقد شاركت المرأة في بلورة الثورة الاشتراكية وانخرطت في الثورة نفسها كما حملت السلاح إبان الحرب الأهلية التي تلت الثورة. لكن الواقع الذي تبلور بعد الثورة استبعد المرأة فلم يتبق من النساء سوى عدد قليل جدًا في دوائر السلطة، أكان في أجهزة الحزب أو في مكاتب الدولة. لقد تمَّ  تهميش المرأة وإيلاؤها الأعمال الثانوية فقط".

تبعاً لهذه الخلفية يطرح الكتاب تساؤلات تتعلق بالراهن الروسي ومنها: ما هي قاعدة الأمل لغدٍ أفضل؟ وما هو المسوغ للحلم بمستقبل واعد؟ وماذا عن التجارب التاريخية التي تشير إلى نقيض ذلك؟ يطرح المؤلفون التساؤلات ويجيبون عليها: "لقد صنعنا المشاكل لأنفسنا واليوم نقف عاجزين عن التفكير بالمستقبل. أصبح العالم أكثر وعيًا بالتغيرات الهائلة التي لا يكفي أن نتعايش معها فحسب، ولكن علينا إدارتها كذلك".

يحمل المؤلفون قناعة تامة بجسامة التغيرات المُقبلة، تغيرات لا تجدي معها التكتيكات الصغيرة والحلول المؤقتة بالنسبة لروسيا - أكبر دولة في العالم، المُتمتعة بالطاقة الذرية والمسلحة نوويًا، بعدد سكانها البالغ 145 مليون نسمة. يتطلب الأمر الكثير من الجهد ليس على صعيد تقبل هذه التغيرات وحسب، ولكن لتشكيلها كذلك واستثمارها بحكمة. ومن أجل تخصيص الإمكانات لتحقيق هذا الهدف، لا يمكن الاستغناء عن الأفكار الإيجابية حول الشكل الذي يجب أن تبدو عليه روسيا المستقبلية. في هذا السياق يحاول الكتاب الإجابة على أسئلة من قبيل: ما هي الميزات التي يجب أن يكتسبها البلد ليكون قادرًا على التعامل مع عديد سكانه، وما الذي يجبُ أن يتخذها فورا من أجل توفير حياة كريمة لكافة مواطنيه؟ وهل يمكن التوصل إلى أشكال أخرى أكثر فعالية لتنظيمه الإداري؟ إذ لا يمكن إيقاظ القوى المادية والروحية عبر السوداوية والتنبؤات القاتمة. وحين نعتقد أن المستقبل لن يجلب معه شيئا جيدا، ومع سعينا في تحويل الحاضر إلى صندوق مدخرات يحمينا من المستقبل، فإنَّ ما نقوم به هو إفساد المستقبل ليس إلا. على هذا الحال سيكون شبه مستحيلٍ تحقيق أي تقدم في سبيل الأمن والرفاهية.

 

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء. يقدم الأول منها مقاطع أدبية طوباوية أو سوداوية عن روسيا بعد ثلاثة عقود، وفيه يطلق المؤلفون العنان لخيالهم. هنا نجد كلا من الأمثلة المتفائلة وأجراس النذير وذلك بصيغة قصص قصيرة كتبت خصيصا ليحتويها هذا الكتاب. مثال لذلك - يقوم أحد المؤلفين برحلة متخيلة بطول خط السكك الحديدية العابرة لسيبيريا وإلقاء نظرة على روسيا بعد فقدانها جزءًا من أراضيها الإمبراطورية. وحسب تصورات كاتب آخر، سيتم تقسيم الدولة إلى مدن متنافسة ذات تقنيات عالية. ويتضمن الجزء الثاني من الكتاب  رؤية مستقبلية تعتمد على تنبؤات دقيقة تقوم على أسس علمية ويطرحها نفرٌ من العلماء والخبراء الاختصاصيين. هنا نستمع إلى أصوات علماء السياسة وعلماء الاجتماع والاقتصاديين. وكما أشار الناشر، لم يتلق الباحثون توجيهات محددة وعملوا في ظروف حرة بدون أن يعلم أحدهم شيئا عن الآخر. مع ذلك يمكن للقارئ أن يستنبط موضوعات وأفكارا تتوارد بين هذا الباحث أو ذاك برغم اختلاف اختصاصهما. ومن أجل وضع خريطة ذهنية للكتاب عمد الناشر إلى وضع هوامش تحتضن هذه التواردات الفكرية بين المؤلفين. ولهذا الغرض تم استخدام نظام المراجع التبادلية. وأيضا تم استخدام الذكاء الاصطناعي الذي رسم صورا رمزية لروسيا  ما بعد عقود وذلك اعتمادا على مضامين البحوث الواردة. كما بلورت الشبكة العصبية الالكترونية عددًا من صور روسيا 2050 بناءً على المعلومات المُعاد دمجها.

ساهم في تأليف الكتاب فريق من الخبراء من جميع التخصصات. نجد أن الباحثين الروس في الدراسات الاجتماعية المختصة بالتكنولوجيا يقدمون عددًا من الملاحظات المثيرة للاهتمام. خذ مثلا التغييرات الطفيفة، المهمة رغم ذلك، التي تحدث في منازلنا، حيث أصبح التواصل عبر الأنترنت يحوز مساحة من المنزل، وهذه ممارسة جديدة نسبيًا. يشير الباحثون إلى ظهور منطقة جديدة داخل المنزل أصبحت عامة، يشترك فيها الكثيرون من مختلف أنحاء العالم ولم تعد حصرا على ساكنة المنزل. لقد أضحت المؤتمرات والمحاضرات والجلسات الاستشارية تُعقد عبر الإنترنت وشرع الناس يفكرون في تأثيث منطقة العمل هذه: رف به كتب معينة أو جدار أبيض به صورة أو زاوية فارغة أو نافذة بإطلالة جميلة، كل هذا لم يعد مجرد جزء من المنزل، بل هيكل داخلي منفصل عن باقي المنزل ويعمل ضمن مساحة التواصل مع العالم الخارجي. في هذا الواقع المستجد بات المنزل يفقد جدرانه، وأسراره، شيئا فشيئا، وتزعزعت فكرته الأزلية في عالم متغير. لقد انفتح باب في المنزل إلى الفضاء العام والمشترك. 

من الملاحظات التي يوردها الباحثون هناك ظاهرة اجتماعية جديدة نسبيًا تتحدد في السعي إلى امتلاك مساكن شخصية متعددة (شقق، بيوت) يكمّل بعضها البعض. فعندما يشتري ممثلو الطبقة الوسطى في روسيا مساكن إضافية في بلدان أخرى فهم يوسعون بذلك حياتهم أو يكملون ما نقص منها، بالتالي، وانطلاقا من هذا النزوع الجديد، أصبح مفهوم الاستقرار أوسع مما اعتدناه، إذ لا يكفي بيت واحد للشعور به، ولا يكفي وطن واحد للامتلاء بالحياة.

 

لا يفوتنا القول إن المؤلفين لم يهملوا في دراساتهم وبحوثهم النظريات الاجتماعية ما جاد به المؤرخ والفيلسوف العربي ابن خلدون وتطويره لنموذج بارع جاءت فيه المدينة كموضوع لكفاح العصبيات الأبدي، حيث تستولي عليها القبائل الأجنبية ثلاثين عامًا، تبدأ بعدها هذه القبيلة المُتسيدة بالذوبان، تهضمها المدينة، وفي النهاية تفقد قوتها تمامًا لتحل محلها قبيلة أخرى. ويستخلص أحد المؤلفين من التحليل الخلدوني في حالة تطبيقه على روسيا أن الاضمحلال التام للنظام سيقع في عام 2030 مدللا على كلامه بالقول: "تعيش روسيا مرحلة انتقالية. إنها آخر امبراطورية قديمة. فبانقضاء القرن العشرين وما فات من القرن الحادي والعشرين، اندثرت كافة الإمبراطوريات الإقليمية في العصر الجديد، وتم إنشاء اتحادات عالمية وإقليمية جديدة، وبدأت سيادة الدول القومية بالتفجّر، وراح مناهضو العولمة ينسحبون ويعتزلون العالم ومشاكله (...) بطريقة أو بأخرى فقد بدأنا نشهد التفكك التدريجي للإمبراطورية الروسية أو الدولة الروسية منذ أكثر من مئة عام، ولكن الوتيرة تسارعت بعد عام 1990، ويبدو واضحا أننا اليوم على عتبة مرحلة جديدة من الانقسام. ومن المنطقي أن اكتمال هذه العملية أمر لا مفر منه" (ص: 207-205).

 

تفاصيل الكتاب:

الكتاب: روسيا 2050 ... اليوتيوبيا والتنبؤات

المؤلف: مجموعة مؤلفين

دار الإصدار: نوفوي إزداتيلستفو/موسكو/2021

اللغة: الروسية

عدد الصفحات: 600                                                              

أخبار ذات صلة