أوليفييه مارتان وإريك داجيرال
سعيد بوكرامي
تعتبر مسألة التواصل الاجتماعي في خضم العوالم الرقمية المتطورة قضية مُعاصرة رئيسية في مجتمعاتنا. لكن ما هي مكانة ودور الأجهزة الرقمية في الديناميات الاجتماعية؟ استنادًا إلى استطلاعات ودراسات محددة ومتنوعة، يوضح هذا الكتاب كيف وإلى أي مدى أصبح الإنترنت من أكثر ممارساتنا شيوعًا، إذ غيرت من طرق لقاء الناس، والتفاعل مع الأقارب، والدراسة، واللعب، والمناقشة، والتعبير عن الذات، والخروج مع الغرباء، والعمل، والتفاعل مع القضايا المهمة والتافهة على حد سواء؟ يكشف هذا الكتاب كيف تكيفت حياتنا مع الإنترنت وكيف تكيف النظام الرقمي مع وجودنا، فأصبح يعرفنا أكثر من معرفتنا بأنفسنا. إن فهم دور ومكانة الإنترنت يعني فهم عدد من الوقائع الاجتماعية العامة الراهنة والملحة.
تتجاوز الموضوعات التي يتناولها هذا الكتاب "الفضاء السبيرنيطيقي"، إذ تُظهر الدراسات امتداد وتعقيد الفضاءات المتصلة بالإنترنت. وقد أكد دومينيك كاردون وكريستوف بريور "أن حيوية الممارسات الرقمية هي قبل كل شيء مسألة محادثة (ص 261") . هذا هو السبب في أنَّ التفاعل الرقمي هو محور المساهمات الاثنتي عشرة المقترحة في هذا الكتاب. يعرفنا تحليل التواصل الاجتماعي المعاصر كيف تضيف التفاعلات عبر الإنترنت التواصل الأسري والودي والعاطفي والمهني وتوسعه وتزعجه وتؤثر فيه سلبا أو إيجابا.
يصر فرانسوا دو سينغلي أيضًا على هذا الجانب في مقدمته للكتاب مقترحا تأملا عميقا لهذه الاستمرارية، بدلاً من القطيعة، الناجمة عن خصوصية التواصل السوسيورقمي. لهذا يستعير من جورج سيميل العديد من المفاهيم من أجل توفير إطار نظري للمُساهمات المدرجة في الكتاب؛ إذ تقترح مقدمة المشرفين على الكتاب السياقَ النظري والمنهجي الضروري. كما يصر أوليفييه مارتان وإريك داجيرال بشكل خاص على تعقيد التكنولوجيا الرقمية في حياتنا العادية من خلال تحدثهما عن "الوقائع الاجتماعية الخاضعة للتقنية" التي لا تعارض الوقائع الاجتماعية الأخرى، ولكنها تكملها وتعقدها: "إن الوقائع الاجتماعية من المحتمل جدًا وفي نطاقها الواسع، أن تكون وقائع اجتماعية خاضعة للتقنية"؛ لأن الأجهزة التقنية تتدخل، بطريقة أو بأخرى، في الممارسات الاجتماعية، وفي التفاعلات، وفي السلوك الفردي والجماعي "(ص 14).
بعد ذلك يُحدد المؤلفون من منظور تربوي ثلاثة مآزق يجب التغلب عليها وخمس نقاط يجب الانتباه إليها. إنهم يحذرون من فرضيات الحتمية التقنية والاجتماعية وينبهون إلى فخ اعتبار فضاء الوقائع الاجتماعية والوقائع التقنية فضاء منغلقا على نفسه. إلى جانب هذا التحذير، يقدم المؤلفون مبادئ التضمين، وعدم الفصل، والتحديد، والحياد، والتشابك بين المادي وغير المادي التي تحكمت في إنجاز تحقيقات هذا الكتاب. في الواقع يوجد هذا الاهتمام التربوي في جميع مظان الكتاب، وفي جميع المساهمات تقريبًا المصحوبة بإطار منهجي يعرض ظروف التحقيق، وينتهي كل فصل بإطار آخر يقدم تفاصيل ومراجع مختلفة تعمل على توسيع نطاق التفكير في الموضوع.
نُظمت المقترحات الاثني عشر التي تلت هذه المقدمة في ثلاثة أجزاء تتكون من أربعة فصول: الجزء الأول عن "ديناميات العلاقات الخاصة" يجمع المساهمات حول العلاقات الأسرية في المناطق الريفية (الفصل 1، وقد أنجزه دومينيك باسكير)، وعرضا للمشاكل الجنسية في مرحلة المراهقة (الفصل 2، بقلم يائيل أمسيلم-ماينغوي وآرثور فواتو)، ثم يليه الخلط بين المراهقة والتنمر (عبر الإنترنت) (الفصل 3، الذي قدمه ناتالي دوبين)، وكذلك فصلا عن ممارسات الانفصال عن الإنترنيت خلال الجولات أو النزهات في المناطق الجبلية أو النائية (الفصل 4، المنجز من طرف كارولين داتشاري وبيير ميركلي ودلفين مورالدو وبينوا تودو). يوضح هذا الجزء الأول التعقيدات الهائلة التي تحدث على الإنترنت وخارجه. ويتمحور الفصل الثالث حول "صراعات" المراهقين عبر شبكات التواصل. استنادًا إلى العديد من الاقتباسات الميدانية التي جعلت التحليل ملموسًا وأكثر واقعية، توضح ناتالي دوبين كيف تُظهر الشبكات الاجتماعية العلاقات الاجتماعية العادية بين المراهقين وتطيل أمدها. ودون الوقوع في التعميم، فقد طورت مفهوم "الحضور المباشر عبر الإنترنت" قبل تحليل ثلاثة أمثلة مختلفة تتضمن ثالوث العلاقات العاطفية والشائعات ونشر الصور عبر الإنترنت. تؤكد ناتالي دوبين على نقطة التحول التي تحدث عمومًا عن طريق تدخل طرف ثالث في العلاقة وتقترح تصنيفًا زمنيًا ومتسلسلًا في حدوث هذه التوترات، ونقطة التحول المرتبطة بتدخل طرف ثالث مما يجعل الارتباك علنيًا. يكون الحل المحتمل للنزاع مشروطا بشكل خاص بأهمية نشره عبر الإنترنت. لذلك يفتح هذا البحث الباب أمام دراسة العنف (السيبراني) والتسلط (عبر الإنترنت) في مرحلة المُراهقة، سواء خلال الاتصال بالإنترنت أو خارج الإنترنت. وكيف أصبح الناس يعيشون في عوالم افتراضية تمتد إلى واقعهم المادي والعاطفي وتتدخل في مصيره.
ويهتم الجزء الثاني بـ"الأنشطة الاجتماعية، ونسج العلاقات". يتناول المؤلفون ممارسة الألعاب ويتناولون لعبة البوكيمون غُووْ في (الفصل 5، قام بإنجازها فانسون بيري وصمويل فانسيغل)، وهي منصة رقمية تتيح لمرتاديها مُقابلة الغرباء والخروج برفقتهم (أما الفصل 6، فبقلم آن سيلفي فارابود)، ويتمحور حول انتشار الأمية الرقمية في صفوف طلاب الجامعات، لا سيما في سياق الجائحة والتعلم عن بعد (بينما الفصل 7، الذي أنجزه سيدريك فلوكيجر) يتناول إنتاج المعرفة والصلات الاجتماعية ضمن مجموعات الهواة (الفصل 8، بقلم فاليري بودوين). في الفصل الثامن، يؤكد المؤلف أن منتديات الهواة هذه لا يُمكن اختزالها في مساحة للتفاعل ولكنها أيضًا مكان لإنتاج المعرفة: "إنها أماكن لحل النزاعات وتنظيمها في بيئة الأفكار وأماكن افتراضية لبناء العلاقات "(ص 180) التي تسمح بالمشاركة المتزامنة في المناقشة وكذلك القراءة غير المتزامنة من خلال الأرشيف المتاح. إنها توضح أخيرًا أن هذه المنتديات ليست فضاءات مقسمة ولكنها على العكس فهي فضاءات متصلة بأماكن أخرى وجماهير أخرى، وهذا هو الحال أيضًا بالنسبة لمعظم الوسائل التي اعتنى الكتاب بتحليلها. ويتناول الجزء الثالث "منصات ووسائل ربط العلاقات أو منصات التواصل الاجتماعي"، ويحلل تأثير تطبيقات المواعدة الرومانسية ونجد ذلك في (الفصل 9، الذي أنجزته ماري بيرجستروم)، وهي منصة لمشاركة أنماط الحياكة والكروشيه، و (الفصل 10، المنجز بواسطة فينسيان زابان) يهتم بمنصات البحث عن وظائف للطلاب (الفصل 11، بواسطة إليز تينريت وماري تريسبيوك وإليز فيرلي). أما فصل فانسيان زابان فقد اهتم بشكل خاص باكتشاف شبكة البنية التحتية المعقدة والغنية التي تسمح بقدر ما بتبادل المعرفة والنماذج والإنتاج من خلال بعض الأعمال المنزلية، لذلك تهتم المؤلفة بمنصة مركزية للحياكة عبر الإنترنت، كما تصف كيف "يفتح الإنترنت إمكانيات جديدة من الإنتاج وكذلك توزيع النماذج والمواد الخام" (ص 221). فإذا كانت هذه المنصة المتخصصة للغاية تعزز تطوير ثقافة تقنية، فإن توحيد صفحاتها يعتبر أيضًا أحد القيود، لا سيما من خلال منع مشاركة أعمال الخياطة، على سبيل المثال. الحياكة هنا تجعل من الممكن معالجة مسألة بنية هذه المنصات، ومزايا وعيوب توحيد النموذج، وكذلك الأشكال الجديدة للتبادل، التجاري أو غير التجاري، والتي ما فتئت تزدهر عبر الإنترنت.
يقدم الفصل الثاني عشر، بقلم دومينيك كاردون وكريستوف بريور، تفكيرا أوسع في مسألة التفاعلات في الفضاءات الرقمية من خلال تحليل سلسلة الممارسات بين التفاعلات على "شكل تعليق" وتلك الموجودة في "نموذج المحادثة". يتكون الأول من التعليقات المفككة التي تصاحب المحتوى المنشور، بينما تتوافق الثانية مع المناقشات التي تعمل أحيانًا على تعبئة المحتوى الذي سينشر في مكان آخر. بين هذين القطبين، هناك سلسلة متصلة من "الوسائل التي تعبر عن كثب عن وجود المؤثر الجاذب ونظام التبادل" (ص 263). من خلال هذه الرحلة عبر تاريخ وسائل المحادثة على الويب، يقدم المؤلفان صورة محفزة للأشكال المعاصرة للتواصل والتفاعل عبر الإنترنت.
كتب خاتمة الكتاب كل من أوليفييه مارتان وإريك داجيرال، اللذان يؤكدان حقيقة أن "إنتاج التقنيات يدمج مجموعة من الخيارات الاجتماعية المتعلقة بالشكل والمبادئ والقواعد التي تشكلها، وعلى وجه الخصوص الاحتمالات المفتوحة - أو لا! - بواسطة الوسائل نفسها الموجهة إلى المستخدمين الذين تستهدفهم مسبقًا "(ص 285). وأخيرًا، وضعت باتريس فليشي كلمة الختْم حول: "التهجين و هو في المقام الأول نوع من التعايش" (ص 289)، قبل أن تُمثّل، من خلال منظور التهجين، الممارسات المعاصرة للتواصل الاجتماعي، والعلاقات الجديدة بين العمل والترفيه، والأشكال الجديدة للتعبير العام وأخيراً الأساليب المقدمة من خلال التقنيات الرقمية.
إن تنوع الدراسات المقترحة والاهتمام الملحوظ بمسائل منهجية الاستقصاء يجعل هذا الكتاب مؤلفًا يجب التوصية به لجميع الطلاب والباحثين في العلوم الاجتماعية إذ سيمكنهم من إلقاء نظرة عامة وواسعة على موضوع راهن وملح، وسوف يستفيدون من النصائح المنهجية الحكيمة، وقبل كل شيء، سوف يكتشفون كيفية تدخل الرقمي وتأثيره في كل ركن من أركان المجتمعات المعاصرة وفي كل ثناياها وخفاياها. بالإضافة إلى ذلك، سيكون الطلبة الجامعيون قادرين على أن يجدوا أنفسهم في مساهمتين على الأقل، تركزان بشكل خاص على "مهنة الطالب". الأولى، بقلم سيدريك فلوكيجر، الذي يستخدم مفهوم " الأمية الرقمية" لاستكشاف كيفية تفاوض الطلاب حول مساراتهم الرقمية عند دخولهم إلى الجامعة. بحيث يمكن مفهوم الأمية الرقمية من "النظر في كيفية قيام التحولات التكنولوجية بتغيير العلاقات الاجتماعية، والعلاقة بالمعرفة، والعلاقة بالتكنولوجيا والمجتمع بأسره" (ص 163). أما المساهمة الثانية، فهي من تأليف إليز تينريت، وماري تريسبيوك، وإليز فيرلي، الذين يدرسون سوق عمل الطلاب، الذي يعتمد بشكل متزايد على المنصات.بحيث يصف هذا الفصل بالتفصيل، استنادًا إلى بيانات عام 2020، وعود المنصات والقيم التي تروج لها، لا سيما قيم المرونة، وإدارة الوقت بشكل أفضل وسهولة التواصل.
إن القراءة المتأنية لهذا الكتاب تؤكد جليا أنه من أهم الدراسات الاجتماعية التي حللت آليات وتأثير منصات التواصل الرقمي على الحياة الاجتماعية المعاصرة؛ لأن المتخصصين في العلاقات الاجتماعية والدراسات الرقمية سيجدون في كل مساهمة تحليلًا دقيقًا ومفصلاً وحديثًا، أنجزه خبراء مشهورون في هذا المجال. حتى وإن كانت العديد من المساهمات في هذا العمل عبارة عن إعادة طبع لمقالات منشورة في منابر متخصصة، إلا أن جمعها وتنسيقها في انسجام تام جعل مظانها كلها أصيلة وحديثة تستشرف الكثير من القضايا الاجتماعية القادمة المرتبطة بالعوالم الرقمية لأن كل مساهمة على حدة تقدم حقائق محددة وبطريقة دقيقة .
في الواقع، وعلى الرغم من تقديم العديد من المفاهيم المهمة في جميع الفصول، إلا أن القارئ المتخصص يشعر بالأسف لغياب دراسات نظرية متعمقة في بعض النصوص. ومع ذلك، فإن الهوامش الموجودة في نهاية كل فصل تغنينا عن ذلك، لأن العمل يُقصد منه قبل كل شيء أن يكون ميدانيا و تجريبيًا و أكثر فعالية، و بصرف النظر عن هذا النقص المبرر فإن الكتاب عمل هام و أساسي لكل مهتم بالطريقة التي تخترق بها التكنولوجيا الرقمية حياتنا الاجتماعية، خصوصا وأن التطور الرقمي الميتافيرسي يسير في اتجاه الهيمنة الذهنية والنفسية الشاملة على الإنسان المعاصر وتهجينه وفق مرامي النظام العالمي الجديد.
تفاصيل الكتاب:
الكتاب: العلاقات الاجتماعية الرقمية: ممارسات واستخدامات "الويب"
المؤلف: أوليفييه مارتان وإريك داجيرال
الناشر: دار أرمان كولان. باريس. فرنسا
تاريخ النشر: 2021
عدد الصفحات: 350ص اللغة الفرنسية
