فيديريكو رامبيني
فاتنة نوفل
في كتابه المكون من سبعة فصول مع مقدمة وخاتمة، يستحضر المؤلف آخر ألفي عام من التاريخ مستعرضاً اضمحلال حضارات وانبعاثها من جديد باختيار بعض التقاطعات الحاسمة في الماضي ويعرّف هذه الفترات على أنها مواقع بناء تاريخية وهي حقب تم البدء منها في بناء حضارات جديدة وهو ما يعني النهوض من جديد بعد الكارثة.
أولى هذه الحقب السبع التي يذكرها الكاتب هي سقوط الإمبراطورية الرومانية والتي سلط الضوء فيها على حقيقة خفية وضارة وهي ظاهرة انقراض الروح المدنية والشعور بالانتماء إلى المجتمع كما هو الحال اليوم، واصفاً القرون الأخيرة للإمبراطورية بأنها سلسلة من الأوبئة والأضرار البيئية وهو ما أضعف المقاومة الرومانية للغزوات البربرية ما أدى إلى تراجع سياسي واجتماعي وثقافي حيث يوضح أن "التحالف بين الحرب والغزوات الأجنبية والطاعون وتغير المناخ تآمر لإعادة إيطاليا من ألف عام من التقدم المادي إلى منطقة متخلفة في أوائل العصور الوسطى" كما لوحظ عدم قدرة الإمبراطورية على تجديد نفسها على الرغم من تخصيص ثلثي الميزانية للدفاع والجيش وهنا يقول رامبيني: "يصبح الإنفاق العسكري سبباً للانهيار المالي وخنقاً للاقتصاد ولا يمكنه حتى ضمان الأمن بعد ذلك وهو ما أشار له أوسفالد شبينغلر في كتابه (انحدار الغرب) في تناوله لأسباب سقوط روما لشرح تراجع الحضارات الأوروبية اليوم، كذلك ما ورد في مذكرات ماركوس أوريليوس أن وباء جالينوس أو أنطونيوس قد ضرب الإمبراطورية في عام 165 وتبع ذلك وباء عام 542، أول طاعون في العصور الوسطى لتتداخل ميزانية الجائحة مع تلك المخصصة للغزوات وهو ما أدى إلى الأمية الجماعية التي عالجها الرهبان بكفاءة وصولاً إلى عصر النهضة.
انتقال الولايات المتحدة من العبودية إلى الانفصال وإعادة الإعمار في عهد لينكولن هو أيضاً موقع بناء تاريخي. إن نموذج التغلب على الأزمة لم يحدث فقط مع إلغاء العبودية التي كانت القضية الأكثر إثارة للجدل بين معسكري شمال وجنوب الولايات المتحدة والتي نجح أبراهام لنكولن خلالها وفي خضم الفقر الجماعي من تمرير ثلاثة تشريعات لخدمة المواطنين وهو ما عُرِف بـ "الصفقة الجديدة" والتي أُعتبرت الأكثر جرأة في الابتكار السياسي وغيَّرت تاريخ أمريكا وهي قانون السكك الحديدية في المحيط الهادي والذي بدأ ببناء خط من نيويورك إلى كاليفورنيا؛ تخصيص الأراضي الغربية للمواطنين وتمويل نظام الجامعة لوضع حد للحرب الأمريكية وتوحيد الأمة. يذكرنا رامبيني: "من بين جميع الصراعات التي خاضتها الولايات المتحدة فإن الصراع الذي قتل أكثر من غيره هو ذلك الذي خاضه الأمريكيون ضد بعضهم"، أكثر من الحربين العالميتين وأكثر من حرب فيتنام، كانت مذبحة داخلية ملأت المقابر في الولايات المتحدة بسقوط سبعمائة ألف شخص.
كان مفهوماً حتى النهاية أن الحرب المريرة لا تناسب أحداً وكان قانون إعادة البناء العسكري لعام 1867 هو أول فعل لبداية تاريخ بناء موقع تاريخي في أمريكا، تم تقسيم الجنوب إلى خمس مناطق يحكم كل منها جنرال شمالي لإنشاء مجالس تأسيسية وافتتاح حكومات محلية جديدة. ومع ذلك، عشية عيد الميلاد عام 1865 في ولاية تينيسي، وُلدت جماعة كو كلوكس كلان المناهضة للجمهورية وقوانين المساواة التي فرضها الشمال ومعارضة لإعادة توحيد الولايات المتحدة. مارست المنظمة عمليات إعدام خارج نطاق القانون وقامت كذلك بالتعذيب والغارات الليلية وحرق منازل "المتعاونين" البيض والاعتداء على السود ثم على اليهود والإيطاليين. حتى الآن، "لا يعتقد الكثير من البيض الجنوبيين أن القيم الأخلاقية والعدالة قد انتصرت مع أبراهام لنكولن".
هناك أيضاً أزمة عام 1929 وهي أم كل الأزمات الاقتصادية، كانت السنوات التي سبقتها -العشرينيات الذهبية أو عصر الجاز- اتسمت بالمرارة، وكانت أوقاتاً اتسعت فيها المسافة بين الأغنياء وأغلبية السكان بشكل رهيب. في تشرين أول/أكتوبر 1929، خسر مؤشر وول ستريت سبعة وثلاثين في المائة في جميع أنحاء أمريكا حيث اقتحم المدخرون البنوك وشلوا نظام الائتمان، لذلك قرر تيدي روزفلت تنظيف النظام المالي غير المنظم الذي يُمَكِّن بعض المصرفيين فيه بتقرير مصير ملايين المدخرين وتم إنشاء الكونجرس الاحتياطي الفيدرالي الذي أصدر بعد سنوات قانون جلاس-ستيجال وهو حجر الزاوية في التمويل العالمي وهذا يخلق جداراً كبيراً بين تجارة البنك التجاري (الذي يجمع الودائع ويقدم القروض) وتجارة البنك الاستثماري الذي يعمل في البورصة عن طريق المخاطرة، ولادة جديدة وموقع بناء تاريخي عام 1907 وانهيار عام 1929.
ألان كروجر، الرجل الثاني في وزارة الخزانة للسياسة الاقتصادية في عهد باراك أوباما صاغ مصطلح "منحنى غاتسبي العظيم"وأظهر أن التفاوتات الحالية قد عادت إلى مستويات عشرينيات القرن الماضي، إذا كانت أزمة عام 1929 هي الأصعب على الإطلاق فقد حدثت بالفعل في عام 1907 أول أزمة عالمية في القرن العشرين.
خطة مارشال لعام 1947 هي موقع بناء آخر: بهذه المساعدة، بدأت أوروبا في التعافي بعد أكثر الصراعات تدميراً حيث لعبت الولايات المتحدة دور البطلة في إعادة بناء الحضارة وكان إصدار القروض الأمريكية للدول الأوروبية المُدّمَّرة بما في ذلك ألمانيا بمثابة وقود للنهضة الأوروبية، أُجبرت بون من خلالها على أن تُولد من جديد في شكل ديمقراطي ومدني وسِلْمي وتم طرد اثني عشر مليون ألماني من وسط وشرق أوروبا وأعيدوا إلى ألمانيا. بهذا الخصوص تحدثت صحيفة نيويورك تايمز عن "القارة السوداء الجديدة" واصفةً فترة ما بعد الحرب كالعصور الوسطى الحديثة تتكون من المعاناة والعنف وصولاً إلى التقنين في الشتاء القارس عامي 1946-1947 في لندن.
قال المؤرخ الإنجليزي توني جدت إن الحرب العالمية الثانية كانت أيضاً وقبل كل شيء تجربة مدنية وكان محقاً؛ لأنه بدون خطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا، لم تكن أوروبا التي نعرفها اليوم. القروض للقارة القديمة شكلت عُشر الميزانية الفيدرالية للولايات المتحدة وجعلت المعجزة الألمانية والفرنسية والإيطالية ممكنة لتنهض ألمانيا وفرنسا وإيطاليا من ساحات التاريخ الخاصة بكل منها.
مارشال" كان مقتنعاً بأن أمريكا يجب أن تساعد أوروبا في توحيد قواها في نظام سِلْمي جديد يشمل ألمانيا نفسها". ومع ذلك، كان على الأوروبيين أن يساعدوا بعضهم البعض أولاً وقبل كل شيء وهكذا فعلوا: كان مجمع الفحم والصلب (ECSC) أول جنين للاتحاد الأوروبي وكان أساسه موضوعين: ألمانيا العسكرية لتجنب حروب جديدة وتقرر وضعها مع دول أخرى، و أمريكا المسلحة بشكل جيد من ناحية أخرى.
موقع بناء آخر في كتاب رامبيني هو "معجزات" ما بعد الحرب، كانت المعجزة الفرنسية الأقل احتمالاً من بين الدول الأوروبية حيث تعرضت فرنسا لثلاث هزائم متقاربة -الحرب العالمية الثانية وحرب الهند الصينية والجزائر- بالإضافة إلى نظام سياسي محطم، وكان التحدي الفرنسي هو إعادة توحيد الأمة. حدثت نهضة باريس من جديد بعد المعركة في الهند الصينية وإندونيسيا وأصبح شارل ديغول في ذلك الوقت أسطورة ورمزاً للجمهورية، وكان قد نظّم المقاومة من لندن ثم وضع فرنسا في صدارة الجغرافيا السياسية العالمية.
منذ خمسينيات القرن الماضي وفي انتعاش كامل، سرقت باريس دور فيينا وبرلين في نظام رئاسي يتضمن الانتخاب المباشر لرئيس الدولة بالاقتراع العام، نظام جديد للاستقرار والانطلاق والذي يضمن التناوب أيضاً.
يُعْتبر صعود اليابان موقع بناء آخر في التاريخ وانطلاقها هو مثال ناجح لبناء دولة. صعدت اليابان إلى قمة الكوكب من حيث الأهمية الجيوسياسية منذ عام 1895 وهزمت الإمبراطورية اليابانية آنذاك الصينيين في جزيرة فورموزا وبعد ذلك بعشر سنوات روسيا القيصرية. انتصرت في فرساي وغزت كوريا ومنشوريا (شمال شرق الصين) في عام 1931. بعد التجربة المؤسفة والمريرة للسيطرة الأمريكية عليها، استوردت اليابان الديمقراطية الليبرالية كما تصفها أمريكا. ماك آرثر كان "ديغول الياباني" الذي رسى على متن حاملة الطائرات الأمريكية ميسسوري في 2 ايلول/سبتمبر 1945 في خليج طوكيو بعد أن حصل على استسلام غير مشروط من طوكيو، هو من مهَّد الطريق ليابان كانت ستسبب في الثمانينيات لإدارة رونالد ريغان في الكثير من المتاعب في الأمور التجارية؛ حيث كتب دستور اليابان وفرض إصلاحات اقتصادية وسياسية. يتذكر رامبيني أنه في ذلك الوقت نضجت "ديكتاتورية عسكرية أمريكية" غير مسبوقة، ولكن تم وضع الأسس لديمقراطية ليبرالية حديثة تقوم على مبدأ السِلْم. تحت حكم ماك آرثر، أصبحت اليابان دولة ديمقراطية غير متجانسة. لقد أُجبر ترومان على إقالة الجنرال في 11 نيسان/ أبريل 1951 والذي كان بمثابة صدمة لليابانيين "لأن الأخير كاد أن يكون على عتبة انقلاب" حيث كان رئيساً لقوات الاحتلال في اليابان ورئيس القتال في كوريا كما أصبح شخصية تاريخية للإدارة الديمقراطية في واشنطن.
كان النهوض مرة أخرى عام 1960 لتصبح اليابان القوة العالمية الخامسة. في إدارة الوباء لا يسع المؤلف إلا أن يشير إلى المرونة الاستثنائية لليابان أثناء الجائحة التي تم التقليل من شأنها في الغرب أو تمت تصفيتها من خلال بعض الصور النمطية السطحية وتجاهل الإحساس القوي بالهدف المشترك والروابط المجتمعية التي تغلف بقوة جميع المواطنين.
انتهت المعجزة الاقتصادية اليابانية في عام 1989 وهي سنة مهمة في تاريخ الصين وهي آخر مواقع بناء في التاريخ التي حللها المؤلف. درس القادة الشيوعيون الصينيون نظام النهضة الياباني على نطاق واسع وبعد مذبحة ثورة ماو تسي تونغ الثقافية، وُلِدَ التنين من جديد مع دنغ شياو بينغ، وبعد عزلة دنغ الدولية بعد واقعة ساحة تيانانمن وتأثر الصين بالعقوبات الأوروبية والأمريكية، بدا في ذلك الوقت أن سنوات المبادرات الصينية قد تلاشت. ومع ذلك، على عكس الاتحاد السوفياتي الذي انهار في ذلك الوقت، تعافت الصين لتدهش الجميع تقريبًا ولتصبح أقوى من أي وقت مضى. يتذكر رامبيني أن تيانانمين "كانت بداية إعادة الإعمار وخلفية ولادة جديدة وعشية إعادة التشغيل لم يصدقها كثيرون في ذلك الوقت".
من ناحية أخرى، إن الصين ما بعد ماو وما بعد دنغ هي الصين التي تُبْعَث من جديد تمثل موقعي بناء في التاريخ جعلا من الصين التي لدينا اليوم تحت أعين الجميع. يتذكر رامبيني أن دنغ كان قادراً على فهم اللحظة المناسبة لفتح الصين على العالم والاستفادة من العولمة والفرص التي تتيحها. من ناحية أخرى، فإن فهم لحظتك والعمل على استغلالها هو أساس كل ولادة جديدة لجميع مواقع البناء في التاريخ.
من المؤكد أن الفترة التي نعيشها ستُذكر في كتب التاريخ المعاصر باعتبارها لحظة كان من الضروري فيها فتح مواقع بناء كبيرة لإعادة البناء الاجتماعي والاقتصادي والصحي على المستوى العالمي.
لا يعني ذلك أن التاريخ يعيد نفسه ولكن بالتأكيد الطرق والدروس التي تأتي من هذه القراءات يمكن أن تساعدنا اليوم في اتخاذ أفضل طريق لبناء مجتمع أكثر إنسانية. من المؤكد أن هذه الفترات تتميز أيضاً بشخصيات عظيمة من الرجال والنساء الذين تمكنوا من تجاوز أنفسهم وقناعاتهم الشخصية وتوسيع آفاقهم ولديهم القدرة على رؤية ما وراء أنفسهم مع الذكاء لتغيير رأيهم والانفتاح على مستوى التنوع. قراءة يمكن التوصية بها لكل من له دور سياسي ويريد حقاً الانشغال بتصميم المستقبل والغد وليس مجرد التفكير في مصلحته الشخصية.
تفاصيل الكتاب:
العنوان: مواقع البناء في التاريخ: البدء من جديد، إعادة البناء، الولادة من جديد
المؤلف: فيديريكو رامبيني
دار النشر: موندادوري
بلد الإصدار: إيطاليا
لغة الكتاب: الايطالية
تاريخ الإصدار: تشرين ثاني/نوفمبر 2020
عدد الصفحات: 252
