أوريان سترود
سعيد بوكرامي
إن تغيير أنماط الحياة في القرن الحادي والعشرين ليس مجرد نزوة فردية، ولكنه ضرورة جماعية لمواجهة التحديات البيئية العالمية. ومع ذلك، فإن تغيير الحياة اليومية للفرد من أجل العيش بنمط أكثر بساطة هو أبعد ما يكون عن الوضوح وينطوي على تحول عميق في المادة والهوية. لا يتعلق الأمر بتغيير عادات الاستهلاك الخاصة بنا فحسب، بل يتعلق أيضًا بتغيير العمل والتطلعات الخاصة والعلاقات الاجتماعية بحيث تعكس وتدعم هذا التغيير في الحياة البديلة.
من خلال تحليل تجربة أولئك الذين يحاولون العيش بأنماط أكثر بساطة، يسلط هذا البحث الجديد الضوء على عملية التباعد المعياري التي يخوضها هؤلاء الأشخاص، لكي يستكشف التغييرات التي تحدث في حياتهم اليومية وتداعيات اختيارهم لهذه الحياة البديلة على تفاعلهم الاجتماعي، والتزاماتهم الشخصية و نظرتهم إلى العالم على المدى القصير والبعيد.
إن تغيير الحياة والذهاب نحو مزيد من بساطة العيش في عالم مضطرب ومتفاقم هو دائمًا نوع من التشكيك في علاقة الإنسان بالنموذج الشائع. تعتبر هذه النقلة النوعية والقبول بالتغيير معركة خوضها شاق وطويل، لأن الهدف النهائي ليس ثابتًا ولا واضحًا؛ لأن من يوافق من الأشخاص الذين يختارون هذا الخيار للعيش في مرحلة انتقالية، والمضي قدمًا نحو مستقبل يجب عليهم باستمرار اختراع حياة بديلة على طول الطريق الشاق.
هل يمكن الاستمرار في العيش دون القلق بشأن مستقبل الكوكب وبقاء البشرية؟ ليس السؤال جديدا لأن جائحة كوفيد -19، عززت الشعور بالدهشة، والصدمة الذي عجل بتنشيط الوعي بقضايا المناخ والبيئة. و يبدو أن الوعي بهذه القضايا قد أثبت نفسه بالفعل باعتباره القضية المركزية في تحول المجتمعات المعاصرة. وفي هذا السياق، كرست عالمة الاجتماع أوريان سترود عملها المهم لتفكيك وتحليل التحولات المجتمعية الناتجة عن إشراك عدد متزايد من الأفراد في أسلوب حياة أكثر ملاءمة من حيث تأثيره البيئي. تتبنى المؤلفة المفهوم الاجتماعي لـ "التباعد" الذي نظرت له نوربرت إلياس لشرح مفهوم "الالتزام" الذي لا يعتبر هنا نقيض (التباعد)، ولكن كرفيق أو "دافعين يتعايشان بشكل دائم" (ص 4).
تستند الأطروحة الرئيسية على دراسة معمقة لفئات عديدة من الأفراد الذين اختاروا إبعاد أنفسهم عن الأعراف الاجتماعية السائدة، والتي ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالاعتقاد في النمو الاقتصادي اللانهائي. هذه الأعراف الاجتماعية، التي تُترجم إلى أوامر للاستهلاك والتهافت لتحقيق النجاح الشخصي، تعمل في البداية بمثابة إحباط قبل استخدامها كنماذج مضادة لتصميم أنماط حياة بديلة. يستند الكتاب إلى استطلاع أجرته المؤلفة وهو جزء من أطروحتها للدكتوراه بين عامي 2012 و 2015 (ص 249) وهي تتناول ثلاثة حقول مختلفة. الأول قرية أرديشوا البيئية الكائنة بفرنسا، التي تضم حوالي ثلاثين مسكناً ومدرسة بديلة. والثاني عبارة عن مبادرات مختلفة للمواطنين في سويسرا وإنجلترا وفرنسا، مستوحاة من حركة المدن التي تمر بمرحلة انتقالية، والتي بدأت في عام 2006 في إنجلترا بقيادة روب هوبكنز. وأخيرًا أجري الجزء الثالث من الاستطلاع مع حوالي خمسة عشر فردًا في سويسرا يتميزون بالتزام طوعي وجذري بتغيير نمط الحياة "للانتقال نحو مزيد من البساطة" (ص 252).
هذه الحقول الثلاثة ليست موضوع معالجة محددة ومتباينة في الكتاب، بل تتم معالجتها لإثبات أن الأفراد المنتمين إليها يعيشون تجربة مشتركة من الانخراط في عملية تباعد اجتماعي تعتبر ظاهرة اجتماعية معاصرة. كما ينير ملحق منهجي بصيرة القارئ حول اختيار هذه الحقول الثلاثة، لا سيما فيما يتعلق بتحديد المفاهيم الاجتماعية المتناقضة التالية (ص 250): الجماعي مقابل الفرد، والانفصال مقابل الاستمرارية، وأخيرًا الاندماج مقابل التهميش.
عنونت المؤلفة القسم الأول من الكتاب بـ "التباعد بواسطة الحياة التقليدية". يمكننا في البداية وقبل كل شيء سبر جوهر التغييرات التي حدثت من حيث الطعام أو التسوق أو التنقل أو العمل، ليس فقط كتطور للتنظيم اليومي لأسلوب الحياة، ولكن أيضًا كمسارات تولّد تحولًا عميقًا في الهوية. هنا يعتبر وصف عملية الانفصال عما أسس هوية الفرد على أنها رحلة يجد فيها كل شخص طريقه من خلال الجمع بين قرار القطيعة أو الاستمرارية. إن الوجه الاجتماعي للأشخاص الذين ينخرطون في عملية التباعد المعياري هي موضوع معالجة محددة؛ تؤكد أوريان سترود أن الاتجاهات التي يتشاركها على نطاق واسع علماء الاجتماع تبرز هيمنة الطبقات الوسطى، مع تقديم العديد من الفروق الدقيقة والتوضيحات. تتناول المؤلفة تحليل إيملين دو بوفر، التي تعتبر أن الأشخاص الذين يحاولون الإقدام على مزيد من البساطة يتمتعون عمومًا "بالموارد المعرفية للمعلومات والتفكير الشمولي" (ص 16). بالنسبة إلى أوريان سترود فإن السكان المدروسين لا يتميزون برأس مال اقتصادي كبير، ولكن بمستوى تعليمي أعلى بقليل من المتوسط وخاصة من خلال القدرة على اكتساب المعرفة التي طوروها أحيانًا من خلال المشاركة في شبكات الناشطين بيئياً واجتماعياً.
بعيدًا عن هذه التحليلات الكلاسيكية، فإنَّ أحد المقترحات الأصيلة للعمل هو ما يتعلق بـ "اللحظات الأساسية لمسارات التباعد المعياري" (ص 24) حيث نكتشف أن فترات عمرية مُعينة (الدخول في سن البالغين، والأبوة، والتقاعد) وبعض الأحداث (الانفصال الزوجي، المشاكل الصحية، الصعوبات المهنية) تؤدي إلى تغيير في نمط الحياة. وقد استثمرت الكاتبة هذه التغييرات التي تحدثها الأحداث والتحولات في بعض الحالات كفرصة لاستكشاف ممارسات جديدة تتوافق مع التطلعات الكامنة للأشخاص منذ مدة طويلة. كثيرًا ما يوصف التغيير في النظام الغذائي بأنه "بوابة للدخول" في عملية مقارنة مع تعقيدات الحياة السابقة حيث يدفع البحث عن تماسك في نمط حياة جديد الأفرادَ الذين ينخرطون في عملية التغيير إلى استبدال جوانب أخرى من حياتهم اليومية بجوانب أخرى بديلة.
في بعض الأحيان يكون اختيار نظام تعليمي بديل (العودة إلى تجربة مونتيسوري أو شتاينر) هو الذي يشكل "بوابة الدخول" لتغيير الحياة تغييرا قد يكون جذريا. مهما كان مجال التغيير الأول، فإن المؤلفة تسلط الضوء على القوة الدافعة للتغيير إلى نمط آخر والالتزام بعملية "تولد تحولات عميقة ومتعددة في أنماط الحياة" (ص 66). إن مسألة العلاقة بالعمل وحدها تمثل التوترات والصعوبات التي يجب أن يواجهها الأشخاص الذين ينخرطون في نمط حياة بديل، ولا سيما تلك الناتجة عن خيار التوفيق بين الرغبة في التغيير الجذري والبقاء في المجتمع الأصلي 91).
يقترح القسم الثاني من الكتاب المعنون بـ "التحول المعياري" مراجعة مجموعة من المفاهيم التي تنبثق من تحليل عملية التباعد الموصوفة أعلاه. نجد أولاً مسألة العلاقة بالجماعة، والتي تتميز برعاية خاصة تُمنح للانفتاح على أكبر عدد من الأفراد، ولكن أيضًا من خلال وجود اختيار ضمني قائم على قدرة الأفراد على التخلي عن علامات اجتماعية مميزة. مثل تلك المرتبطة بنمط الاستهلاك الذي يعتبر غير مسؤول وخارجا عن قواعد التغيير. يُفضل تطوير "المعايير العملية" على "القيم" ذات الدلالات الثقافية المبنية على المصالح المفرطة. وبذلك تتوافق هذه القواعد مع "الضوابط الاجتماعية الدقيقة، غير المرئية، والضمنية، والخفية" (ص 149) ؛ وعندما تكون المعايير إيجابية، ترتبط الممارسات بالطبيعة والثقافة الروحية المستوحاة من حكمة الأجداد أو التراث الفكري والروحي الإنساني. لكن عندما تكون سلبية، فقد تتعلق هذه المعايير بأشكال الاستهلاك الجماعي والترفيه المفرط. يستخدم مصطلح "جماعة"، في هذا السياق، كبديل عن تسمية "المجتمع". بالنسبة للمؤلفة، فإن رفض الاندماج في "المجتمع" ليس فقط منظورًا فرنسيًا مرتبطًا بالاعتبارات اللغوية والثقافية، ولكنه أيضًا ترجمة لاختلاف رئيسي، لأن هذه المجموعات "تريد تواصلا ملتزما بين الأفراد بدلاً من شكل متجانس لهوية بديلة وهجينة "(ص 163). عندما تسهب أوريان سترود في دراسة مسار الأشخاص الذين ينخرطون في نمط حياة بديل، نكتشف أن هذه ليست تشعبات بسيطة لأنها لا تسعى بالضرورة إلى وضع مستقر جديد. على العكس من ذلك، فهؤلاء اختاروا السماح لأنفسهم بالاسترشاد بتجارب متعددة دون أن يكون لديهم هدف محدد ودقيق يسعون لبلوغه. تستخدم المؤلفة نظرية الفعل الشعري التي اقترحها مارك هنري سوليت لتشرح كيفية بناء السكان المدروسين لعملهم في الوقت الحاضر من خلال قبول الحالات الطارئة المرتبطة بشعور عام يسوده الارتياب في الأحداث المستقبلية. تتأسس هذه النظرية من خلال تراكم خصائص محددة، نذكر منها على سبيل المثال: البناء المتزامن للأهداف والموارد، وإنشاء أشكال من الشرعية أثناء العمل، والاستثمار الكامل في العمل الفردي (ص 194).
تشرح أوريان سترود في خاتمة الكتاب كيفية تحول عملية التباعد إلى نموذج انتقالي. وتشير إلى أن الانتقالية هنا تعني البُعد التطوري والمفتوح لالتزام الأفراد بتغيير الحياة. ثم ينتهي العمل باقتراح "التخلي عن السياسي" أي "ما المقصود بأن تعيش، أو تستهلك، أو تتنفس، أو تتحرك، أو تتواصل وعلاقتهم بالسلطة" (ص 236). يشكل الملحق المنهجي مادة ثمينة للغاية تكشف من خلال مقاربة أوريان سترود عن "حركة مستمرة بين الترسيخ في الواقع والتصور المفاهيمي" والتي يمكن أن تذكر في نواحٍ معينة بمسار الأشخاص الذين كانوا موضوع عملها(ص 263).
وإذن من خلال ما سبق يبدو واضحا أنَّ الكتاب يبين كيف أن أولئك الذين ينخرطون في تحول نحو نمط حياة أكثر بساطة ينأون بأنفسهم عن بعض المعايير الاجتماعية ليطوروا ليس حياتهم اليومية فحسب، ولكن أيضًا رؤيتهم للعمل، وروابطهم الاجتماعية وهويتهم الشخصية. إن تغيير أساليب الحياة في القرن الحادي والعشرين ليس مجرد نزوة فردية عابرة، بل ضرورة جماعية لمواجهة التحديات البيئية العالمية. ولكن تغيير حياة الفرد اليومية إلى حياة أكثر بساطة أبعد ما يكون عن الوضوح، لأنه يؤدي إلى تحول مادي وهوياتي عميق. إنها ليست مسألة تغيير عادات الفرد الاستهلاكية، بل هي أيضا مسألة تغيير عمله وطموحاته وعلاقاته الاجتماعية بحيث تعكس وتدعم هذا التغيير في الحياة ومن خلال تحليل تجربة أولئك الذين يطمحون إلى عيش أكثر بساطة، تتجلى الآليات المتحكمة في عملية الابتعاد المعياري التي يشارك فيها هؤلاء الأفراد. و كذلك ما يتغير في حياتهم اليومية وما يخلفه اختيار الحياة الجديدة من تأثير على تفاعلاتهم الاجتماعية والتزاماتهم الشخصية وتفكيرهم ومنظورهم للعالم. إن تغيير حياة المرء لتصبح أكثر بساطة في عالم يزدادا تعقيدا وتشابكا وتواصلا، يطرح الكثير من الأسئلة عن علاقة الفرد بالأنماط المعيارية. وهذا يعني تغيير النموذج وقبول التغيير كرفيق في الطريق نحو حياة أفضل؛ لأن الهدف النهائي ليس ثابتا ولا بديهيا، فالناس الذين يختارون هذا الخيار يوافقون على العيش في مراحل انتقالية، قد تكون في البداية صعبة وقاسية لكنها تنشد التحول الإيجابي نحو مستقبل أكثر بساطة واستقرارا وأمانا.
نستنتج في الأخير أن الكاتبة لم تشر إلى قضية النوع الاجتماعي رغم أهميتها فيما يتعلق بقضية التحول البيئي، والتي أدت مع ذلك إلى ظهور منجز مهم في العلوم الاجتماعية في السنوات الأخيرة. كما كان يمكن أن تستفيد الكاتبة من عمل جينيفيف بريفوست، التي خصصت فصلًا مهمًا للنسوية البيئية، وما تطرحه من قضايا تهتم بضرورة تغيير أنماط العيش لضمان مستقبل آمن. يمكن القول أن الكتاب إضافة معرفية مثيرة لاهتمام القراء الذين يرغبون في تعميق معرفتهم عن العيش البديل كفلفسة لحياة أكثر بساطة وأقل تعقيدا واضطرابا و أوهاما.
تفاصيل الكتاب:
الكتاب: العيش الأكثر بساطة: تحليل سوسيولوجي للتباعد المعياري
المؤلف: أوريان سترود
دار النشر: كيبيك، جامعة لافال، "علم الاجتماع المعاصر" كندا.
سنة النشر: 2021
عدد الصفحات: 280 ص
اللغة الفرنسية.
