نعوم تشومسكي
عزالدين عناية
في هذا الكتاب الذي يُعالج قضايا على صلة بفعل المُثقف ودوره يُعيدنا المُفكر نعوم تشومسكي (من مواليد فيلاديلفيا 1928) إلى ما هو مطروح على المُثقف في الألفية الثالثة. فحقبتنا الراهنة المُتميزة بالسرعة الفائقة والقيم السائلة، أضحت تتطلب مُعالجة في مستوى خصوصياتها التاريخية والسوسيولوجية، وهو ما يلحّ عليه تشومسكي ويُحاول تسليط الضوء عليه حتى لا يغترب المثقف عن مهمّته النبيلة. فهناك إصرار لدى تشومسكي لوضع المفكر في قلب حراك التاريخ لا على هامشه حتى يحافظ فعله على إيجابيته.
يستهلّ المؤلّف كتابه بسؤال لطالما تردّدَ في أوساط المُثقفين على صلة بمسألة الولاء، لأي طرف ينتمي المُثقف وما هي الجهة التي تُحدّد فعله والتزامه وخياراته؟ فما من شك أنّ الأمر قد أشكلَ دائما على المثقف. فهناك شقّ من المثقّفين على أهبة لوضع خبراتهم وقدراتهم في صالح من يملك النفوذ، طواعية ودون إكراه أو إجبار. وغالباً ما يتماهى هذا النوع من المثقفين مع مشروع المؤسّسة الأيديولوجي والسياسي. يغدو المثقف في هذا السياق جزءاً من المؤسسة موجودا بها وعاملا ضمنها، يَصنع ويُروّج مشاريعها في آن واحد. والواقع كما يُبيّن تشومسكي أنّ هناك غنائم يغنمها المثقف من ذلك الخيار، مثل غنيمة الهيبة والامتيازات والنفوذ. وحالة التماهي مع المؤسسة عاشها كثير من المثقفين في الغرب، لا سيما فترة النظامين الفاشي والنازي، أو كذلك مع السلطة الحاكمة "الديمقراطية" في أمريكا، بمناصرة حرب فيتنام وموالاة خيار المؤسسة الاستراتيجي. وهو ما كان جليًا في تاريخ المثقفين في إيطاليا وألمانيا وأمريكا، فلا يمكن الحديث عن تاريخ المثقف المناوئ دائمًا، بل عن المثقف المُوالي أيضًا، حيث يرتبط كيان المثقف بالمؤسسة. بَيْد أنَّ ذلك التماهي قد يتعرّض أحياناً إلى اهتزاز وارتباك فيخلّف انشقاقا، ويتحول المثقف من جهة إلى أخرى ومن ولاء إلى نقيضه. تلعب المراجَعة دوراً محوريا في هذا التحول، وهو عادة ما يكون بِناءً على تروٍّ وجراء موازنة. وكما يُبين المؤلف أنّ المثقفين غالباً ما تكون خياراتهم الجوهرية مستمدّة من قِيم خُلقية ترفض الزيف، ومن مبادئ عقلية تستند إلى موضوعية تناقض الخديعة، ومن بنية منطقية تنفر من اللامعقول، بما ينطبق عليهم نعت "المجانين المثاليين" كما يُسميهم. في حين تستند خيارات المؤسسة إلى رؤى براغماتية، وإلى مناورات مصلحية، وإلى تحالفات ظرفية ودائمة تمليها الضرورة، وهو ما يخلق نوعا من التضارب بين الطرفين ويولّد انخراما في التعاقد.
لكن مُهمّة المثقف النابعة من طبيعة الحقل العامل فيه، كما يبين تشومسكي، هي مهمة كيانية مرتبطة بطبيعة دوره وشغله، تجعل منه راصدا للّحظة التاريخية وإن تبدّلت الأوضاع والأدوات. وفي ضوء ذلك الحضور يكون المثقف جزءاً من فعل عام لا يتحدّد بشخصه، بل يشمل مجالا أوسع على صلة بحركة الاجتماع، وطبيعة الثقافة السائدة، وتطلعات الكيان الجمعي ذات الأبعاد الاقتصادية والتحررية.
تحت معنون "مهنة المثقف" يستعيد نعوم تشومسكي مناقشة المهام الجوهرية الملقاة على عاتق المثقف من خلال طرح جملة من الأسئلة: فهل المثقف هو مجرد منفّذ للتعليمات والأوامر أم هو مُتأمل في الخيارات الكبرى بفرز المصلحة عن المفسدة؟ وهو في الحقيقة دورٌ نابعٌ من طبيعة مهمّته، تلك المتمثّلة في النقد البنّاء الذي يأتيه بغرض التصويب لا لمجرّد النقد العبثي. فالمثقف المسؤول لا يُنبّه من مضار خيارات، ولا يحذّر من خطوات خاطئة لأجل الظهور والمشاكسة، وإنما لِما يسكنه من وازع المصلحة والسعي الدائم نحو تحقيق الأفضل والأنفع للجماعة التي ينتمي إليها، سواء في دائرته الوطنية أو في شمولها الكوني. وفي ضوء ذلك الفعل تتلاقى محفزاته مع خيارات العدالة والخيرية والإنسانية، وهو ما يَضع المثقف في قلب حراك التاريخ. ضمن هذا السياق يستحضر تشومسكي الهاجس الذي رافق الكاتب التشيكي فاتسلاف هافل، قبل اعتلائه منصب الرئاسة، في مسعاه إلى مناصرة القيم المبدئية والخيارات المصيرية التي تطلّعت لها الجماهير لأجل بلوغ مطامح العدالة والخيرية والحقوق.
في هذا السياق يحاول تشومسكي تحليل جوهر مسؤولية المثقف وفيما تتمثّل، وباستحضار المغامرات السياسية لجملة من الدول الغربية الرأسمالية في التاريخ المعاصر يَلوح كثير من المثقفين الغربيين منشقين عن رؤية سائدة شاءت لها الآلة السياسية الرواج. يقف المثقفون "المبدئيون" -كما يطلق عليهم- ضدّ الزيف المروَّج عبر آلة دعائية قوية. لكن كما يَتبيّن لتشومسكي ليس صفّ المثقفين موحّداً، فغالبا ما تعتريه اختراقات وانشقاقات من الداخل. وفي دراسته لجبهة المثقفين الممثلَنة، يَعُدّ الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر أبرز وجوه هذا الخلل والاختراق. فقد صرّح فيلسوف الرايخ في العام 1933 بتصريحات لصالح خيارات هتلر، وانحاز إلى موقف الدولة من خلال اعتبار الحقيقة في صف من يتطلّع إلى جعل الشعب قوياً وآمنا، وهو خيار سلطة "الفهرر" في ذلك العهد. إذ الملاحَظ أنّ المؤسسة السياسية في النُّظم الشمولية عادة ما تتعلّل بالحفاظ على القيم المثلى والمصالح العُليا: الديمقراطية والحرية والعدالة، وهي من تنتهك هذه المُثل والقِيم. يضرب تشومسكي أمثلة من فضاءات أخرى عن هذا التعليل الزائف، بشأن حالة الاحتلال الروسي لأفغانستان وما رافقه من تهديم هيكلي لبنية المجتمع، ثم يستعرض المغامرة الأمريكية في العراق من أجل إسقاط نظام صدام حسين وزعزعة بنية العراق وإفساد مخزونه القِيَمي. وفي كلا المسرَحيْن رُفعت الشعارات ذاتها، وإن تبدلت طبيعة القوة الغازية من شيوعية إلى رأسمالية، فكلتاهما زعمت الدفاع عن قِيم ممثلَنة: الاشتراكية والديمقراطية. استطاعت كلتا الآلتين العسكريتين، السوفييتية والأمريكية، تهشيم بنية مجتمعين لا يزال ما لحق بهما من أضرار متواصلا إلى الراهن وإن مرّت عقود على الانسحاب. في الأثناء يُبرز تشومسكي دور المثقفين الرافضين للحرب في كلا المجتمعين السوفييتي والأمريكي. فإن يكن المثقف في روسيا الشيوعية محكوماً بقبضة صارمة لا تُبيح توجيه الانتقاد أو مناقشة الخيارات سوى من داخل مؤسسة الحزب الشيوعي، فعلى العكس من ذلك وُجِد هامش أوسع وأرحب تحرّك فيه المثقف الأمريكي "المنشقّ". ولهذا استطاع المثقف الأمريكي أن يلعبَ دوراً أفضل من نظيره السوفييتي في التنديد بالحرب في العراق وبيان خطأ الخيارات وزيف التبريرات. وفي هذه النقطة يعالج تشومسكي ضرورة تنزيل دور المثقف ومسؤوليته ضمن الإطار السياسي-الاجتماعي الصائب، حتى لا يُتَّهم المثقف بالصمت والتواطؤ أو المشاركة في الانتهاكات. فأحياناً تكون آلة الرقابة والمحاصَرة الإعلامية مؤثرة في دور المثقف وتَحول دون تقديم أي سند أو دعم. استطاع المثقف في الولايات المتحدة أن يجد هامشا في الداخل، ولو ضئيلا، لانتقاد خيارات الحكومة في الحرب على العراق، في حين لم يجد نظيره الروسي ذلك الهامش لبيان خطأ خيار الدولة في أفغانستان سوى في المنفى خارج روسيا، مع تعذر تحقيق انتقاد من الداخل. وإن كان ثمة من يعارض هذا الرأي ويَعتبر أن الضغط المسلَّط على المثقف في تاريخ أمريكا المعاصرة لا يقلّ شأنا عن الضغط المسلط في روسيا الشيوعية. يورد جون كواتسوورث في كتاب "تاريخ كامبريدج للحرب الباردة"، من العام 1960 وإلى غاية سقوط الاتحاد السوفييتي 1990، أنّ عدد المساجين السياسيين والملاحَقين والمنشقين ممّن حُكم عليهم بالإعدام في الولايات المتحدة قد فاق عدد المتضرّرين جراء تُهم مشابهة في الاتحاد السوفييتي وممّن داروا في فلكه بشكل كبير.
في القسم اللاحق من الكتاب المعنون بـ "مثقّف جديد لزمن جديد" يتساءل نعوم تشومسكي عن صنف العلوم القادرة على دعم المُثقفين في مقاربتهم النقدية، مبرزاً أن العلوم الإنسانية والاجتماعية والدينية تقف في صدارة تلك الأدوات المعوَّل عليها في دعم المثقف في أداء دوره. لكن تبقى الإشكالية الماثلة في خَلْق تيار نقدي داخل هذه الحقول البحثية جريء في التنديد بالتجاوزات والانحرافات، وقادر على بناء خطابات معرفية واقعية ومنطقية قابلة للرواج والمساندة. إذ لا يمكن القول إن هذه العلوم فاعلة بذاتها وبشكل مستقلّ في عرض الحقائق، ولكن تبقى في حاجة إلى توظيف صائب يدعم قضايا محقّة. والسؤال المطروح ضمن هذا السياق: ما هي القضايا العاجلة التي ينبغي على المثقف الانخراط فيها؟ يبدو سؤال تشومسكي سؤالا عسيراً في زمن مأزوم على جميع الأصعدة. ففي ظل هيمنة قطب واحد على السياسة الدولية، وتراجع الحس النقدي الذي ساد في ستينيات القرن الماضي وإلى أواخر التسعينيات، في الأوساط الأكاديمية، تكدست القضايا المؤجلة، مثل قضايا الاغتراب الثقافي، واحتواء المثقفين والأكاديميين، وإلهاء الباحثين بمُعالجة قضايا بعيدة عن مشاغل الناس، وبثّ ثقافة الولاء للمؤسسة في أوساط المعنيين بالثقافة، واختلاق قضايا ثانوية لتغيير وجهة المثقف بدل الانشغال بالقضايا الجوهرية، شكلت كلّ هذه العناصر وغيرها تعطيلا لدور المثقف إن لم نقل انحرافا بوجهته. ولذلك يبدو المطروح على المثقفين بإلحاح وهو إعادة بلورة مشروعهم النقدي في ظلّ تحول العالم وتعولم قضاياه.
ولعل من المثالب البارزة التي ينبّه إليها تشومسكي وهي أنّ جبهة المثقفين غالبا ما فشلت في توحيد صفوفها في مواجهة صنّاع الحروب. فقد شهد القرن الواحد والعشرون حروباً متنوعة خلّفت دمارا هائلا لم يوفق المثقفون في استخلاص العبر منها. فلطالما تواطأ المثقفون مع إحدى الجبهات أو بقوا في منطقة محايدة دون إبداء موقف أخلاقي أو مبدئي. ويبين أن هذا الوضع غيْر الموحد في مواقف المثقفين هو عائد بالأساس إلى أنّ كثيرا منهم قد صاروا أداة من أدوات المؤسسة، وافتقدوا إلى تلك الخصوصية المتحررة من ضوابط المؤسسة التي تضمن للمثقف استقلالية الرأي والموقف. ينحو تشومسكي باللائمة على الدور السلبي الذي لعبه المثقفون في الترويج للأيديولوجيات، وفي تقديمها كسُبل للخروج من الأزمات، وهي في الحقيقة أُطر لاعتقال أذهان الناس وتفكيرهم ضمن ضوابط محددة وضمن مفاهيم بالية تستهدف خلق رأي عام ومنظور موحّد لا يدعم سوى خَلقِ حشْدٍ موسّع منضبط ضمن مسارات معينة. ينتقد هذا الأسلوب المنساق ضمن تلميع بعض الأيديولوجيات وترذيل أخرى، وهو ما أَفقد المثقف دوره التنويري والتصحيحي. فالمثقف المسؤول والحامل لهمٍّ إنساني هو ذلك المثقف المتملّص من تلك الضوابط الأيديولوجية، والباحث عن بناء فكر مستقلّ لا ينضبط سوى بدعم تحرر الإنسان المادي والذهني، بعيدا عن إضفاء القداسة على المتوارين خلف الخيارات الاقتصادية والسياسية الباحثة عن تدجين البشر، وعلى هذا الأساس كان النداء بانتهاء زمن الأيديولوجيات وموت الأيديولوجيا. ثمة تبشير بعصر متحرّر من الأيديولوجيا شريطة أن يمتلك المجتمع حسّا نقديا وقدرة على فهم ألاعيب المتحكمين بالعقول والموجهين لمسارات الناس وأذواقهم، ومن ثَمّ حركتهم وفعلهم في التاريخ. إذ لطالما توجّهَ نقد للمثقف، من قِبل الأيديولوجيات، بوصفه فوضويا وخصما للانضباط، وهي التهمة التي حدّت كما يبيّن تشومسكي من دور المثقف النقدي الرافض لأنْ يتحول إلى آلة عمياء تدعم الاستغلال وانتهاك كرامة البشر. فبعد انهيار الشيوعية وتفرّد الرأسمالية بقيادة العالم على مستوى اقتصادي، بات الترويج لدولة "الوال فار" (دولة الرفاه)، وهو مصطلح خادع، كما يرى تشومسكي، تغيّر فيه ثوب الرأسمالية ولم يتغير فيه جوهرها الاستغلالي. ولذلك باتت المجتمعات الغربية أكثر المجتمعات التي تعاني شرائحها الوسطى والدنيا من البطالة، ومن التسريح من العمل، ومن الضغوطات الاجتماعية. ولذلك كان مفهوم "دولة الرفاه" الذي رفعته الرأسمالية هو في الحقيقة بحثا عن هدنة لاستعادة الرأسمالية أنفاسها. وقد رُفِع الشعار في دول الجنوب دون دراية بخلفياته العميقة، التي لم تسفر سوى عن تحويل شعوبها إلى مجرد أيد عاملة زهيدة الثمن لأجل خدمة نظام رأسمالي عالمي. لقد ازدادت الأوضاع تدهورا في كثير من دول الجنوب، في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، حتى أصبح البحث عن خلاص عبر الهجرة هو الملجأ.
يخلص تشومسكي في خاتمة الكتاب إلى أن المثقفين ما عاد بوسعهم العمل فرادى، فقد تغيرت الأدوات والأوضاع، وبات العمل المطلوب هو العمل الجماعي الهادف. ثمة مأسسة للعمل الثقافي تتطلّب الانضباط ضمن مشاريع وبرامج تستهدف بلوغ أهداف محددة. والأمر لا ينطبق على قطاع المثقفين وحدهم، بل على الإعلام والاقتصاد والساسة، وغيرها من القطاعات الفاعلة. لذلك يتوجب على المثقف اليوم التدرب على هذا المناخ الجماعي الجديد في العمل الثقافي ولا يهدر طاقته.
تفاصيل الكتاب:
الكتاب: مسؤولية المثقّفين.
إعداد: نعوم تشومسكي.
الناشر: بونتي أللي غراسيه (ميلانو) "باللغة الإيطالية".
سنة النشر: 2021.
عدد الصفحات: 125ص.
