ليونيد سيوكياينين
فيكتوريا زاريتوفسكايا/ أكاديمية ومستعربة روسية
صدر مؤخرا لكبير المختصين في الفقه والشريعة الإسلامية في روسيا، أستاذ العلوم القانونية والباحث في معهد الحقوق والقانون التابع لأكاديمية العلوم الروسية، ليونيد سيوكياينين، كتاب بعنوان "الشريعة الإسلامية وحوار الثقافات في العالم الحديث" وهو بحث معمق، متعدد الأوجه، يقع في نحو 700 صفحة. يضمّ العمل أجزاءً كثيرة، يتطرق كل منها إلى أسئلة تتراوح بين النظرية والتاريخية وأخرى آنية ومُلحة، ولكل منها قابلية أن تصبح بحثا مستقلا، نذكر منها: "الثقافات القانونية الإسلامية والأوروبية: التفاعل والتعارض"، "الفكر القانوني الإسلامي ومشاكل العصر الحديث"، "العولمة والعالم الإسلامي"، "الربيع العربي والفكر الشرعي الإسلامي"، "الإسلام والأقليات المسلمة في أوروبا"، "الثقافة الشرعية الإسلامية وروسيا" وغيرها من المواضيع.
وباستثناء موضوع يتعلق بإمكانية (أو استحالة) ممارسة الشريعة الإسلامية في روسيا بطريقة دمجها بالنظام القانوني المعمول به، فإن الباحثين العرب وزملاءهم الأوربيين قد تناولوا، بهذا المقدار من التركيز أو ذاك، كل المواضيع الأخرى. أما الدكتور سيوكياينين فيقدم عرضا تاريخيا لمحاولات ممارسة الشريعة الإسلامية في الأراضي الروسية وخاصة في منطقة القوقاز التي ضمتها إليها. كما ويتأمل في الأسس القانونية لهذا الموضوع، ويكشف عن إشكالياته وتعقيداته. إذن فنحن أمام بحث شامل وجريء.
إنَّ الشرح الذي يسوقه المؤلف في عدم تأصل الشريعة الإسلامية في روسيا المُعاصرة، وذلك على الرغم من مكونات الجزء المسلم من مجتمعها، ينطلق من عدم الرغبة في كشف إيجابيات الشريعة الإسلامية العامة، وعدم معرفة كيفية استخدام آلياتها التي تصب لمصلحة المجتمع الروسي ككل. يشير الكاتب متأسفًا: "من اللافت للنظر أنه من بين جميع مظاهر الإسلام المختلفة، ينصبّ التركيز عادة على جوانبه المُرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بالسياسة والدولة والقانون. حتى عند تحليل المكوّن الأيديولوجي للإسلام، يتم التركيز على المفاهيم والنظريات التي تقف وراء النشاط السياسي للحركات والمنظمات الإسلامية فقط. فضلاً عن أن الحديث هنا يدور أساسًا حول الأنشطة ذات التوجه الراديكالي (...) لا شك أنهم يواصلون في روسيا مناقشة قضايا الاقتصاد الإسلامي بشكل حيوي، ولكن البارز أيضًا أن عددا من الباحثين الروس يفضلون عدم الكشف عن ريادة الأعمال الإسلامية، وطرق ممارسة الأعمال التجارية في حل المشكلات الاقتصادية للمجتمع الحديث، بل يقتصرون في مناقشاتهم على ما يسمى بمؤسسة الحِوالات (تحويل القروض) لتمويل التطرف". (ص: 661)
هل يصحُّ اختزال الإسلام بالظاهرة المذكورة؟ بالطبع لا، ليس لأننا نتحدث عن واحدة من أكبر الديانات في العالم فحسب، بل لأن الإسلام ليس مجرد دين بالمعنى القاموسي للكلمة، فهو أيضًا ثقافة وأسلوب حياة وحضارة. لذلك فالقانون والمؤسسات الاجتماعية جزء لا يتجزأ من الإسلام، تعكس طبيعته، وليس شرطًا أن تكون طبيعة دينية مباشرة. مع ذلك، وعلى الرغم من مركزية المظاهر القانونية والاجتماعية في الإسلام، يشير الكاتب إلى أن الإسلام والشريعة الإسلامية، حين يقعان في دائرة الضوء للإعلام ورجال السلطة في روسيا، يتحولان إلى موضوع سياسي بحت، أولاً وقبل كل شيء. ينطبق هذا حتى عند تقييم الإسلام على خلفية المواجهة بين الثقافات وتصنيف أنماط الحياة، فينحصر مفهوم صراع الحضارات على بعده السياسي فقط، ليغدو مباشرة (والحال كذلك) عاملا سلبيا.
يُشير الباحث إلى غياب حلٍ توافقي في روسيا لتحديد حيّز للشريعة الإسلامية، لا في النظام القانوني الوطني ولا في عادات المجتمع. ففي الخلاف حول آفاق الشريعة الإسلامية في روسيا، يتمسك معارضو الشريعة ومؤيدوها بحزم بمواقفهم الثابتة، من دون تنازل أو محاولة للتقريب بين آرائهم. يلتجئ الفريق الأول بشكل أساسي إلى الدستور ومبادئ نظام القانون الروسي، التي يُزعَم أنها تتعارض تمامًا مع الشريعة. بينما يرفض الرأي الآخر ذلك ويدعو، بشكل مُباشر أو ضمني، إلى التواضع لإرادة الله بدلاً من مراعاة التشريع الذي أوجده البشر. يقول الباحث: "إنهم لا يفتقرون إلى القدرة على مُناقشة المشكلة بطريقة إيجابية فعَّالة، والبحث عن طريقة قانونية للخروج من حالة الجمود هذه وحسب، بل ويفتقرون كذلك إلى المعرفة بأساسيات الشريعة الإسلامية وتجربة تطبيقها في العصر الحديث في أوربا حيث نجد أمثلة لتفاعل الشريعة مع التقاليد القانونية الأوروبية (...) فهياكل السلطة (في روسيا) غير قادرة بعد على رؤية سلسلة من المواقف القانونية المتسقة في الشريعة وإيجاد مكان لها في نظام القانون الروسي. وفي الجهة الأخرى، لا يرى القادة المسلمون في روسيا هذا أيضًا، فضلاً عن أنهم لا يلاحظون الاختلافات الجوهرية بين واجب مراعاة الشريعة، المفروضة على المسلمين كمؤمنين، وإدراج صبغتها في قوانين الدولة" (ص: 626)
من جانب آخر، يُقدّر المؤلف تجربة الإمبراطورية الروسية في مسألة الشريعة حق تقديرها. فيلاحظ أن القانون العرفي كان يشمل، بشكل مستمر وهادف، النظام القانوني للإمبراطورية. في الوقت نفسه، لم تؤد التعددية القانونية، التي كانت تسمح للمسلمين بأن يسترشدوا بأعراف الشريعة والعادات في مسألة الأحوال الشخصية والأسرة، لم تؤد إلى تفكك الدولة الكبيرة. ويلخص رأيه أن تلك السياسة كانت متسقة مع الخصائص العرقية والجيوسياسية لأراضي روسيا، الأمر الذي حافظ على الإمبراطورية الضخمة وحماها طويلا من الانهيار. ويرى الباحث أن اللجوء إلى هذه التجربة التاريخية الإيجابية لا بد وأن يساعد على صدّ التوترات الطائفية وزيادة وزن السلطة التشريعية في المجتمع الروسي الحديث.
ويعتبر المؤلف أن المسار )يسميه بالمسار المعاكس( الذي اتخذه النظام السوفيتي، جاء خلافاً للحقبة القيصرية، فأرسى السوفيت أسسا للصراعات العرقية والطائفية، حيث استُبعد العمل الفعَّال للقانون العرفي، ما دفع السكان المحليين لمواجهة القانون والسلطة باعتبارها مؤسسات غريبة. ولكن، وبالرغم من كل هذه الاعتبارات والاستنتاجات، لا نجد في تاريخ الدولة السوفيتية معارك أو صدامات على خلفيات قومية، ويبدو أنَّ السبب يكمن في نظام التربية والتعليم الموحد، عالي المستوى، والمطبق على الجميع بلا استثناء. بالمقابل نرى أن هذه المسألة تحولت إلى قنبلة موقوتة بعد انهيار الدولة السوفيتية ومنظومتها القوية.
في الوقت الراهن هناك حالات خجولة تحيل إلى الشريعة في روسيا مثل قانون تتارستان حول "حرية الوجدان والجمعيات الدينية"، والمحكمة الشرعية في إنغوشيا التي تشكلت عام 1999 ولم تدم طويلا، والمحاكم الشرعية في الشيشان وتعدّ من الماضي أيضاً، فالحقيقة أن الدولة لا تعترف بمؤسسات الشريعة كمؤسسات قانونية كما لا ينص التشريع الروسي على إنشائها، وحتى في حالة وجودها، لا تحمل قراراتها قيمة قانونية. يبقى فقط أنَّ هذه الهيئات الاعتبارية تتمتع باعتراف المُسلمين أنفسهم. وهنا تجدر الملاحظة بأن العديد من الإدارات الروحية للمسلمين تتضمن وحدات تُعرف بـ "القديات"، من صلاحياتها تقديم المشورة في قضايا الشريعة ومساعدة المسلمين في حل نزاعاتهم. والحال كذلك فإنَّ العديد من القادة المسلمين يعتبرون هذه الوحدات بمثابة محاكم شرعية.
يولي المؤلف اهتمامًا بحقيقة أن التقييم السلبي الحاد للرأي العام وهياكل السلطة الروسية لم يقابله إلا نموذج الشرعية الذي مارسه المتطرفون. أما بالنسبة للمحاكم الشرعية الأخرى، فلم يثر نشاطها اهتمامًا لفترة طويلة. وفي عام 2010 شهد الوضع نكسة حادة مع إعلان منظمة الفتح الدينية المستقلة في سانت بطرسبرغ إنشاء مركز إسلامي لحقوق الإنسان، كان من المفترض أن تعمل بها محكمة شرعية. لقد تم رفض المبادرة بصورة قاطعة سواء من قبل السلطات أو الجمهور. وكان ردّ البرلمانيين الروس والموظف المفوض بحقوق الإنسان في العاصمة الشمالية لروسيا، سلبيا للغاية، بل وتبعهم في ذلك مكتب المدعي العام. إلى جانب هذا يورد الأكاديمي الروسي ليونيد سيوكياينين في كتابه تحليلا شاملا لآراء الباحثين الروس حول ردود أفعال العالم الإسلامي على العولمة، وهي آراء عديدة شكلت وجهة نظر سائدة، فينتقدها سيوكياينين بشدة ويفضح ضحالتها وأفقها الضيق. يعتبر الكاتب أن زملاءه من الباحثين الروس مقتنعون برفض العالم الإسلامي، القاطع والحاد، لكل ما ينتج عن العولمة، مفندين رأيهم هذا بطريقة تجعل من ردة فعل الإسلام على العولمة، بكل أطيافها الواسعة، واحدة، ألا وهي الانغماس الحاد في الراديكالية الإسلامية والأصولية المتطرفة. وهكذا، يتم تقديم الإسلام ككل على أنه قوة حتمية تناقض وترفض العولمة. يقول سيوكياينين: "من البيّن أنه، ووفقًا لهذا النهج، يرتقي تحليل التفاعل بين العولمة والإسلام إلى مستوى مناقشة ظاهرة الإسلام الراديكالي كقوة سياسية محض" (ص: 197) وكأن الفكرة الإسلامية مقتصرة على هذه الجزئية فقط.
إنَّ غالبية البحاثة الروس ينبهون إلى تحصّن وتمنّع العالم الإسلامي، وهو برأيهم عالم يقوم بتطوير بديله الخاص للعولمة على أساس مثالي للدولة الإسلامية وعلى القواعد الثقافية والقانونية للإسلام. بعكس هؤلاء يؤكد المؤلف على رأيه بأنَّ "الثقافة الإسلامية تتضمن معارضة قوية للنموذج المادي للتنمية، حيث يوجد في تعاليم وممارسات الإسلام حصانة قوية ضد أمراض العصر. والعالم الإسلامي، وفقاً لثقافته الغنية وتقاليده الدينية، يستجيب للتحديات المدمرة للحضارة الحديثة المشتركة للبشرية جمعاء". (ص: 203) مبررا قوله هذا بظهور المفاهيم التوافقية والنماذج المميزة للتنمية في العالم الإسلامي، والتي تشهد على تكيف الإسلام مع عملية العولمة.
بخلاف ما سبق، يشير المؤلف إلى إحدى المحاولات القليلة لإظهار المبادئ والمفاهيم الإسلامية الصحيحة والتي يمكن استخدامها كأساس لموقف الإسلام من العولمة، منها ما قام به د. فيتالي ناومكين، مدير معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية. يقوم هذا الأخير بعرض المعايير الرئيسية للتنمية المستدامة في بحوثه المهمة، مستشهدا بأحكام العقيدة الإسلامية التي تتوافق مباشرة مع هذه المعايير ومن بينها أفكار العدالة والمساواة وإنشاء نظام مجتمعي لإعادة توزيع الدخل وأخلاق الاعتدال واحترام البيئة وغيرها.
في ختام كتابه يحثّ الباحث القارئ ورجال السلطة على تذكّر أن "الفكر الشرعي الإسلامي الحديث يسبق الحاضر من جهة، ومن جهة أخرى، متأخر عن الركب، وهذه سمة تميّز الفقه، أي التمسك بالماضي وعدم التفريط بالديناميكية. وليس من قبيل الصدفة أن يعمد مؤيدو القيم الديمقراطية الليبرالية إلى توجيه نقدهم للشريعة الإسلامية. في الوقت نفسه، يظل هذا الحراك لمعرفة الإسلام الحديث طريقا لإشاعة أجواء الحوار وإيجاد حلول ومقاربات مبدئية للتعايش. فمن بين الطيف الواسع لمجالات الفكر الإسلامي الحديث، فإن العقيدة الشرعية هي المؤهلة لتتبوأ مكانًا خاصًا في حوار الإسلام مع الثقافات الأخرى. يتّضح ذلك في تفاعلها مع الثقافة القانونية الأوروبية، صراعا أو تكاملا، تعايشا إيجابيا أو استتباعا، وأحيانا، انصهارا كاملا تقريبًا". (ص: 684) وهكذا نرى أنه، رغم التحولات والتطورات الإيجابية التي حدثت في العقود الأخيرة في روسيا بالنسبة للإسلام كبناء المساجد وزيادة عدد الحجاج وطباعة الكتب الإسلامية ونشرها، لم يفتح الإسلام في روسيا إمكانياته بعدُ في مسألة التجديد الروحي للبلاد؛ هذه البلاد التي تضم نسبة من المسلمين غير قليلة.
تفاصيل الكتاب:
الكتاب: الشريعة الإسلامية وحوار الثقافات في العالم الحديث
المؤلف: ليونيد سيوكياينين
دار النشرالجامعة الوطنية للأبحاث، "المدرسة العليا للاقتصاد" / موسكو/ 2021
اللغة: الروسية
عدد الصفحات: 688
