جبال صامتة

جبال صامتة (2).jpg

  أيه. بي. جعفر

فيلابوراتو عبد الكبير

إن مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيس بوك ميدان هام يفتح أمام مستخدميها مجالا واسعا للتعبير عمّا عندهم من الأفكار بحرية كاملة. ولكن للأسف قلما نجد فيها من يستفيدون منها بجدية أو يستخدمونها بشكل نافع. قد أصبحت الآن مثابة قمامة يرمى إليها كل شيئ، فلا محرر يقوم بتصحيح الأفكار الفاسدة أو بحذف الكلمات الضارة. كل من يملك حائطا فيها يُصبح ملكا مستبدا. ومن الثلة النادرة الذين يستخدمونها بشيئ من الجدية مؤلف كتاب "جبال صامتة" الدكتور جعفر. ومن يمر على صفحات فيس بوك الخاصة به يشهد شعوره بمسؤوليته وصدق أمانته في الكتابة. والكتاب ذاته في الحقيقة حزمة أثمار جمعها من أفكار رسمها على حائط فيس بوك الخاص به من حين لآخر.

الكاتب مِهنيا طبيب في مستشفى حمد في دولة قطر. حين يعالج المرضى الذين يمرون عليه لا يقتصر علاجه على أداء أمانته الطبية بل يتجاوزها إلى توطيد علاقاته الودية معهم بحيث يعيش في أعماق قلوبهم أبد الأبد حتى بعد فترة العلاج. هكذا نقرأ في هذا الكتاب أصدقاء كسبهم من مختلف الجنسيات في دول عديدة ظل التواصل معهم من بعيد حتى بعد أن غادروا إلى بلادهم. وكذلك نراه أيضا يراقب ظروف حياتهم حتى يستفيد منهم بمعلومات تقوده إلى شاطئهم المجهول. فمثلا مرة حدث أن عالج امرأة أمريكية اسمها "جانيت"، ولكن فوجئ باسم زوجها عبد القادر الصوفي مكتوبا على أوراقها الطبية. مسلم صوفي وزوجة مسيحية، طبعا بدا له هذا غريبا، وأراد استطلاعه فاستفسر من تلك المرأة التي يعالجها عن أسرار زواجها من مسلم، فاكتشف أنها مسيحية الأصل ولكن اعتنقت الإسلام مؤخرا بعد زواجها من عبد القادر الصوفي، وأن تغيير اسمها تحت إجرءات رسمية لم تكتمل بعد.

أدى هذا إلى تعارفه مع عبد القادر الصوفي. ويحكي الكاتب قصته تحت عنوان "الباحث عن الحق". الصوفي في يفاعته الآولى الثائرة كان "هيبّيا" من أمريكا يتجول في أنحاء العالم  بدون هدف محدد. "الهيبي"(Hippy)  ظاهرة منتشرة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في الدول الغربية. مرة حين كان يمشي على شارع في إسطنبول وحدث أن سمع موسيقا صوفيا يعزف من إحدى مقاهيها، فأعجبه حتى أصبح طالبا روحانيا ووصل أخيرا إلى بر أمان الإسلام. تَسمّى عبد القادر احتراما ومودة للصوفي الكبير الشيخ عبد القادر الجيلاني. سأله الكاتب أي تفسير من تفاسير القرآن أعجبه؟ فأجاب بلا تردد إنه تفسير محمد أسد النمساوي The Message of the Quran”". كان هذا الرد دهشة للسائل حيث استغرب: كيف تتوافق مقارباتك التي ترتكز على المشاعر الإشراقية الروحانية مع منهج أسد المبنيّ على العقلانية البحتة الحادة؟" وكانت إجابته أن لغة أسد كان لها سحر جمال فوق طبيعي لا مثيل له".

 

 يصل الكاتب إلى حكاية عبد القادر الصوفي بدءا من حكاية زينب التي لاقاها في إحدى المقاهي في برلين. وزينب هي الأخرى كانت معجبة بأسد. يدردش الكاتب معها في ذلك المقهى عن مواضيع جادة. هي صيدلية تنحدر من أسرة مسيحية بروتاستانتية، كان اسمها السابق "أنيتا". نسخة من القرآن المترجمة إلى اللغة الألمانية غيّرتْ مسار حياتها ووجهات نظرها رأسا على عقب. تلك الترجمة لم تكن معروفة على نطاق واسع، ولكن لو شاء رب البرية أن يقضي أمرا مفعولا فلا يعرقله شيئ. "من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا". المبادئ الأساسية الموجودة في دفتي النسخة المترجمة جذبتها إليها. رصدت النقاط التي لاتستطيع أن تتفق معها لدراستها بالتفصيل فيما بعد. مع استمرار عملها كصيدليّة التحقت بالجامعة لدراسة الإسلام بعمق.  كانت ناشطة اجتماعية، تجتمع مع أصدقائها في بيوت خالية من السكان لتنشط في تنظيم احتجاجات ضد الأسلحة النووية والتلويث البيئيّ. وفي تلك الأثناء لاقت سودانيا وعرفت من خلال دماثة أخلاقه في التعامل عظمة الإسلام عن قرب، وفتح لها الباب إلى حلقات صوفية مختلفة.

وأخيرا بعد دراسة عميقة وبحث مستمر اعتنقت الإسلام في عام 1994، ومن ثم قامت برحلات كثيرة في مختلف البلدان الإسلامية وأدت فريضة الحج عام 2010. لا عجب في أن يكون أسد الذي قام برحلات كثيرة مثلها من كُتّابها المفضلين. خلال محادثة مع الكاتب مشيرةً إلى مسجد في ألمانيا قالت: هنا أعلن اليهودي "ليوبلود فايز" إسلامه وبدّل اسمه إلى محمد أسد حتى أصبح من جهابذة العلماء المسلمين، والسفير الثقافي الذي بنى الجسر بين الحضارة الغربية والشرقية". أضحت طليقة اللسان حين بدأت تتحدث عن أسد.

الحرب العالمية الأولى رمت بالمجتمعات المخملية والعائلات الميسورة في الغرب إلى لجج الشقاء. أثناء هذا حين مر "ليو" مع شريكة حياته "ايلسا" وجد الكآبة واليأس تغشيان وجوه الناس الكالحة. كانت الهموم عن الوله الشديد والشره المفرط السائدين في المجتمع المتوسط قد جعلت "ليو" الذي كان يعمل مراسلا لإحدى الجرائد الألمانية في الشرق الأوسط باحثا جادا عن كنه الحياة. "أنت في حياتك الشخصية صوفيّ. ولكن في البحث عن الحقائق الروحانية أنت عقلانيّ، مفكر يحدد الصواب والخطأ في عالم المعتقدات، وفي عامة الناس الضد هو الصحيح في هذا الشأن". هكذا تقوم الرسامة "البوهيمية" أليسا" بتقييم صحيح عن طبائع أسد. وأخيرا يصل أسد إلى "الطريق إلى مكة". حكاية تجوال طويل يَعْبر الكثبانَ الرملية في الصحراء العربية قبل تنقيب الذهب الأسود من تحت أقدام البدو الذين يعيشون حياة بسيطة جدا، ورسم بكلمات تتفتح من خلالها أمام أعين القراء أزهار يفوح منها أريج عقيدة غيرت مسار التاريخ." هكذا يجمع الكاتبُ عبدَ القادر الصوفي وزينب وأسدا في مثلث رائع. تكتب إليه زينب فيما بعد " يام كان يام في رأسي شغل شاغل في تغيير العالم ولكنني الآن في جهد جهيد في تغيير نفسي، في خلع رداء كبريائي حتى أتمكن من التحكم في أنانيتي".

 

وفي الأندلس يلتقي الكاتب وليد الفلسطيني الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية، والحاصل على درجة تكنولوجيا المعلومات. كان يعمل في شركة "إنتل"، ووصل إسبانيا يوما لزيارتها، الفردوس المفقود للمسلمين، ولكن لم يرجع إلى إسرائيل بعد ذلك؛ لأنه هناك اكتشف لأول مرة جذور عقيدته، فأصبحت الأندلس دار قراره إلى الأبد حيث انجذب إلى نضارة الحضارة الإسلامية التي بناها أجداده. حين كان في إسرائيل لم يكن متدينا، ولم يكن يصلي كل وقت. من هنا ابتدأ لأول مرة في أن يقوم بأداء فرائضه الدينية.

كانت حكايته تشبه على قدر كبير حكاية راشد الغنوشي قائد حركة النهضة. وهذا ذكّرني ما كتب في كتابه"تجارب الحركة الإسلامية في تونس". وفي طريقه من باريس إلى تونس، زار الأندلس ودخل جامع الحمراء حيث اكتشف نفسه فأذّن للصلاة مما هزّ تيار كهربائيّ أعماقَ قلبه وهلهل أفكاره من جذورها. أما وليد فبعد الاستقالة من وظيفته استقر في إسبانيا مرشدا للسياح. يشرح للكاتب تاريخ عبد الرحمن الداخل ،المعروف لدى العرب بـاسم "صقر القريش"، الخليفة الأموي الذي استولى على إسبانيا لأول مرة، كما يحكي له حكاية طارق بن زياد البربري الذي مهّد الطريق إليها قبل ذلك. يقطف ورقة من شجيرة ليمون أمام جامع القرطبة ويقول: وهذه الشجيرة ربّما أتى بها الأمويون كي تخلد ذكرياتهم عن دمشق." هنا يتذكر مقطع شعر يشارك فيه عبد الرحمن حنينه إلى وطنه مع نخلة تقوم وحيدة في ساحة جامع قرطبة، ويرد في معرض الحديث ذكر متحف محاكم التفتيش في قرطبة وحكايات عن الأمير فيرديناند والأميرة إسابيلا اللذين أخرجا المسلمين مع اليهود من إسبانيا، وبكاء الأمير عبد الله الصغير ولجوء المسلمين واليهود إلى فاس. ومن المفارقة الغريبة، كما تقول فاطمة المرنيسي في كتابها "نساء على أجنحة الأحلام"، أن اليهود الذين كانوا مضطهدين في إسبانيا مع المسلمين صاروا أعداء العرب فيما بعد. عندما ذكر الكاتب متحف التراث الذي تُحافظ عليه أرملة رجاء غارودي سلمى الفلسطينية، أثارت ذكرياتي عن زيارتهما كيرالا للمشاركة في مؤتمر منظمة الطلاب المسلمين الذي انعقد عام 1985.

المحاضرة التي ألقاها فيه غارودي كانت موجهة إلى الهندوس منها إلى المسلمين حيث ذكّرهم بروح التسامح الموجود في تعاليم ديانتهم، نقلا من كتبهم المقدسة. كان خطابه خير دليل على تعمّق الرجل في الديانة الهندوسية العريقة. وشريكة حياته سلمى أيضا خاطبت جلسة الأطفال في المؤتمر، وذلك بعد خطاب أحد أدباء الأطفال الهندوسي المشهور. كانت سلمى تُصغي إلى خطابه الغني بالأغنيات واللطائف. كان يغني الأغاني ويطلب الأطفال أن يكرروا ما يغني. ولما جاء دور سلمى بدأت خطابها بتلاوة سورة الإخلاص وطلبت الأطفال أن يرددوا معها تلاوتها. كان المضيفون رتبوا لغارودي فندقا عاديا لإقامته، وكنت أقوم برعاية أموره. لا أزال أتذكر قلقه البالغ حين تأخرت سلمى بعد مشاركتها في اجتماع عقدته لها إحدى الجامعات.

إذَن ماذا يعني عنوان الكتاب "جبال صامتة؟ نقرأ في الكتاب مقالة تحمل نفس العنوان. مضمونها تجارب الكاتب خلال رحلته إلى أديرة في جبل من جبال "آثهوس" التي كان يسكن فيها الرهبان المسيحيون الإغريقيون. الكاتب كزانتزاكيس كتب أعماله الإبداعية وهو يُقيم في إحدي هذه الأديرة. في الطريق إليها وسط مدينة "أثينا" أشار سائق التاكسي "يورغاز" إلى مبنى قديم تتحلق فوق مناراته الحمائم، كان مسجدا بناه العثمانيون الذين حكموا اليونان قبل قرنين، وهو الآن متحف. كان في اليونان مساجد كثيرة في عهد العثمانيين، منها مسجد عثمان شاه في تريكالا. أصبح أكثرها فيما بعد متاحف أو كنائس. وفي الطريق إلى "أثوس" أرا الكاتبَ يورغاز مسجد عثمان شاه في تريكالا وصرّح له عن مأساة الإغريق بعد دخولها في الاتحاد الأوروبي. ولماّ تحولت "دراخما" العملة الإغريقية إلى العملة الأوروبية الموحدة يورو زادت أسعار جميع الضروريات اليومية. ويقول إن وطنه كان يقع في وكر أعدتْه لذلك ألمانيا. بعد تجاوز عقبات جمة وصل الكاتب وصديقه بنيامين إلى دير "ميتيورا". بينما غرق بنيامين في عذوبة تأملات روحانية في ذلك الدير كان الكاتب يفكر في علاقة الجبال بالأديان، ويرى أن الثقافات العقائدية تنبثق من وجوم تحملها جبال في داخلها. ويقول: "قد يكون لأدعية كزانتزاكيس خلال إقامته في وحشة هذا الجبل دور في تبريد حممه الداخلية وتشكيل أفكاره وعقائده. علينا أن نجد وقتا للتأمل في وحشة صمت الجبال. وقد يُطهِّر أنفسَنا الجبال وهدوء فضائها". 

 

يبدأ الكاتب كتابه من مكان عمله، بحكاية عن فتاة فلسطينية جميلة تعاني من مرض التصلب اللويحي المتعدد، وهي طالبة الدراسات العليا في الطب. تدري أنها بعد سنوات قد لا تستطيع أن تمشي وتبتسم كما هي الآن، ولكنها دوما حيوية تقهقه حين تتكلم. هكذا بعض الناس، يقول الكاتب: "تتفتح دائما براعم الابتسام على شفاههم ولو أن هناك أسبابا كثيرة تبلل عينونهم. يعيشون كأنهم يعيشون أبدا رغم أنهم يسمعون خطوات المنية من وراء ظهورهم. مثل تلك الفلسطينية هناك ممرضة فيليبينية، وهي مشغولة دائمة في المكياج بينما يحترق داخلها بجمرات من المشاكل الحياتية. وثمة نماذج كثيرة مثل هؤلاء الذين يحملون آلاما في صميم قلوبهم ولكن ُيزوِّدوننا بطاقة بأحلام لدفع الحياة إلى الآمام. إنهم زنابق الحقل التي تَحدث عنها يسوع وأرادنا أن نتأمل كيف أنها تنمو ولا تتعب. إن هذه الزنابق هي دليل على أن الرب أراد أن يوجه أنظارنا إلى عنايته بهذه النباتات الضعيفة والتي تخطف الأبصار بجمالها وتعددِ أشكالها وألوانها".

والكتاب مجملا مليئ بحكايات أناس بسطاء ولكن ذوي تجارب غير عادية تنشر بَريق الأمل في سماء الحياة المعاصرة المغطاة بغيوم الهموم السوداء. كتاب واحد ولكن نستطيع أن نقرأ خلال صفحاته كُتبا وأن نلتقيَ كتّابا من قارات عديدة. كل فصل فيه لا يتجاوز صفحتين، كأنها لآلئ متألقة في أصداف رائعة.

 

تفاصيل الكتاب:

عنوان الكتاب: جبال صامتة

 المؤلف: دكتور جعفر أيه. بي

اللغة: مالايالام، عدد الصفحات:148

 سنة النشر: 2021 

الناشر: مكتبة النشرات الإسلامية، كوزيكود، كيرالا، الهند

أخبار ذات صلة