يوفال نوح هاراري
محمد الشيخ
هذا مجمل تاريخ البشرية برواية راوٍ طبَّقت شهرته الآفاق. وما كان راويتنا هذا بالمتنبئ، ولا بالعرّاف، لا ولا حتى بالشيخ الروحي كان؛ وإنما هو ـ حسب ما يذكر عن نفسه المرار العدة ـ مجرد "ملاحظ" ومحض "مراقب" للنوع البشري يسعى، منذ أن كان صبياً، إلى "فهم العالم في جملته"؛ وذلك لا عن طريق "التحليلات التفصيلية"، وإنما عن طريق "المرويات الشاملة". كما يعترف أنه ما كان هو بعالم حفريات، لا ولا بعالم سلوك حيوانات رئيسة، حتى يخوض في ما خاض فيه من تاريخ مُجمل للبشر، وإنما هو مؤرخ لا يقدم جديدا، بل يقدم معارف مشتركة تقديما مستأنفا، أو هو كما يقول المثل الفرنسي الذائع: "يقدم مشروبات عتيقة في زجاجات جديدة".
وقد لجأ، في مجمل تاريخ البشر هذا، إلى "حفظ المسافة" بينه وبين "موضوعه"ـ الذي هو "الإنسان" في مسيرته ـ وإلى استشراف مصير نوعه هذا ـ الذي هو النوع البشري المسمى homo sapiens؛ بمعنى الإنسان الذكي النبيه المتبصر المتروي، الذي هو سلف الإنسان كما بتنا نعهده ـ أمام المخاطر الثلاثة التي أمست تهدده: السطوة التقنية، والانهيار البيئي، والتهديد النووي. أما المشاكل الأخرى التي يتفق أهل السياسة على طرحها ـ الإرهاب، التفاوتات، الهجرات، الفقر ... ـ فهي أقل أهمية في نظره. إنما الأولى المشكلات التقنية؛ حيث إن مقاليد التسلط والتسلطن سوف تصير بيد ذاك الذي من شأنه أن يتحكم في المعطيات الشخصية التحكم: تصوروا أَنْ يمسي يَعْلَم عنك واحد من سان فرانسيسكو أو من بكين كل شيء لحظة بلحظة: من يوم ولادتك إلى يومك هذا الذي أنت فيه!
وصاحب هذا الكتاب مؤرخ كان قد تخصص في العصور الوسطى، ولا سيما في الحروب، لكنه سرعان ما انقلب اليوم إلى "مبسِّط" لتاريخ البشرية ـ مأخوذ في وجهه الجُمَلي ـ يقرأه الرؤساء (أوباما، ماكرون، ميتسوتاكيس ...) في هذا العالم والكبراء (فدرين، زوكربرغ، جيتس ...) سواء، ويصل إلى الجمهور العريض سواء بسواء. وهو ينطلق من فكرة غياب ثقافة علمية حول القضايا الأساس في عهدنا ـ التغير المناخي، الذكاء الاصطناعي، الهندسة الحيوية ـ ويقترح أن يعمل "وسيطا" بين "الجماعة العلمية" و"الجمهور الواسع"، مُثَرِّباً على "الجماعة العلمية" أنها لا تعرف كيف تُبَلِّغ. إذ من شأن "الإحصاءات" و"المنحنيات" ـ التي يستعين بها أهل العلم على بيان أغراضهم ـ ألا تلقى الإقبال من الناس؛ فلا بد من "مروية" تأخذ بألبابهم. ومن أمر "المعلومات" أنها مبثوثة في الطرقات هوامل، والشأن في نضدها في مرويات شوامل: "من أمر البشر ألا ينصتوا اللهم إلا إلى مرويات".
ويروي الكتاب كيف أنه، في خلال 000 70 حَوْلٍ، غيّر نوع تافه من الحيوانات الرئيسات الكوكب تغييرا جذريا. وذلك في مروية طويلة مديدة لتاريخ البشر منذ العهد الحجري إلى عهد جوجل يرويها هاراري بحيوية باذخة موضوعها ملحمة حيوان كان، في البدء، عديم القيمة؛ ثم استطاع أن يهيمن على الكوكب برمته، بل حتى أن يهدد النظام البيئي عبر مسيرته المتذبذبة المتسارعة. وذاك هو تاريخ هذا النوع المسمى "بشرا": من كائنات قَنَّاصَةٍ لُقَطَةٍ إلى كائنات باتت تهدد بفناء الإنسان نفسه في زمن ما بعد الإنسانية، مرورا بثلاث ثورات معرفية وزراعية وعلمية، رافقتها إمبراطوريات رامت تصنيع العالم. والكتاب أقرب شيء يكون إلى سيناريو ـ والرجل عاشق للسيناريوهات مولع بها كل الولع، حتى قال عنه أحد أهل الفلسفة بفرنسا: "هو راوية مِفَنٌّ ومفكر هش" ـ لمغامرة النوع البشري: كنا قناصة لُقَطة خلال عشرات الآلاف من السنين، قبل أن نحيا على الزراعة (منذ حوالي 10 000 سنة)؛ ثم حدث أن أصبحنا، بعدها، عُمَّالا مدينيين (منذ 200 سنة) ...
كان هراري قد ناقش أطروحته عن الحرب في العصر الوسيط بجامعة أوكسفورد (2002)، وعاد إلى بلده ليشتغل بالجامعة العبرية (القدس). وفي عام 2003 أقرت الجامعة مادة "مدخل إلى تاريخ العالم" تأفف المؤرخون التقليديون من تدريسها؛ بتعلة افتقادها إلى التفصيل وإلى التخصص، وقَبِلَ وحده تدريسها. وبما أنه كان يكره ملاقاة الجمهور، فقد كان يحرر محاضراته في الموضوع وكأنها سيناريوهات، ويوزع منسوخاتها على طلبته، حتى يكُفوا عن التدوين، وينصتوا إليه ويحاوروه. ثم سرعان ما لاقى الدرس نجاحا في الكلية، وبدأ ينتشر بين الطلبة. وقد أوحى إليه ذلك بجمع الدروس في توليفة. وكان أن نشر كتاب "موجز تاريخ البشرية" في طبعته الأصلية عام 2011، وشهد نجاحا باهرا، وحقق لصاحبه شهرة واسعة. لكنه واجه صعوبات جمة عند الرغبة في نشره في الخارج، ونُشر نشرة محدودة تحت الطلب بترجمة واضعه لم تتعد الألفي نسخة. ثم في عام 2013 اقترح ترجمة جديدة بتبويب مستحدث. فكان أن تنافست على نشره 22 دار نشر إنجليزية، بينما لا ناشر أمريكي رغب في ذلك، إلى أن كان ما كان من نشرته الأمريكية التي أعقبها نقله إلى أزيد من خمسين لغة، وبيع منه أزيد من اثنتي عشر مليون نسخة. وها هو يتم إخراجه اليوم سلسلة تلفزيونية؛ فضلا عن رسوم للأطفال ...
في مروية الإنسان الكبرى
الولع بالمرويات أحد نظريات هذا الكتاب الكبرى. إذ سعى إلى الإجابة عن السؤال: تُرَى، من يكون الإنسان؟ وكيف أمكن لهذا الكائن المهين أن يعلو على جميع الكائنات ويتسيد، بل يستأسد؟ والذي عند صاحبنا أن الإنسان أمسى ما أمساه بفضل مَلَكَتِهِ التخييلية؛ تلك الملكة التي توفر له إمكان إنشاء "بنيات فوقية مجردة": من الأديان إلى الأبناك. ومن شأن هذه "التخييلات"، التي يقتدر عليها الإنسان دون سواه، أن تثمر الأفضل، كما من أمرها أن تتمخض عن الأسوأ: من الأول فكرة حقوق الإنسان التي هي محض "خيال" تخيله الإنسان، حسب المؤلف. ومن الثاني نظريات المؤامرة التي بدورها "وهم" توهمه الإنسان. والمشكلة أن عالمنا اليوم، بعد أن عاش على هذه التخييلات ردحا طويلا، طفق يكفر بهذه المرويات. ومشكلة إنسان اليوم أنه نسي أن هذه المرويات إنما جاءت لتخفف من آلام البشرية. إذ فكرة "الأمة"، مثلا، مجرد "تخييل"، لكنها كانت تخييلا نافعا سمح لأسلافنا بالانتقال من طور كائنات قناصة لُقَطَةٍ تعيش زرافات، ولا تلتقي بالآخرين من البشر في حياتها إلا لماما، إلى طور مواطنين متعالقين حيث كل واحد يشكل عضوا في جماعة جبارة تقوم عليها تربيتنا وصحتنا وأمننا. لكن، ها قد استحالت "الأمة" مجرد ضريبة تؤدى إلى شخص غُفْلٍ لا نعرف من هو. وها قد استعيض عن "الأمة" بأدلوجة مضادة للأمة هي الشعبوية التي دعا إليها ترامب ومختلف مسائخه في عالم اليوم... ويروي هاراري تاريخ البشرية المجمل هذا في ثلاث ثورات:
الثورة المعرفية
اقتدر الإنسان على ما لم يقتدر عليه سائر الحيوان: أن يتعاون بأوسع تعاون يكون وأشده مرونة. فإن تعاون النمل والنحل أصلب ما يكون. وتعاون القردة والذئاب أضيق ما يكون. ولو خلي الإنسان، أو عشرة أناس، تلقاء قرد أو عشرة، لتم الظفر لهؤلاء؛ لكن، لو فاق العدد المئين لتعاون الإنسان بما لم ينهض به حيوان. ولو أنزلت مائة ألف قرد في وول ستريت أو ساحة تيانانمن لحدثت الفوضى، لكن لو أنزلت مائة ألف من البشر لوجدوا طريقهم إلى إنشاء تنظيمات. هُوَ ذا ما جعل البشر يغزون الدنيا، وركن القردة في حدائق ومخابر. لكن، ما الذي سمح لأولئك بالتعاون؟ إنه "الخيال" الذي هو قدرة على ابتكار كائنات مجردة موهومة لا توجد اللهم إلا في مخيلتهم (الأرباب والأمم والنقود والحقوق ...). وتلك هي "الثورة المعرفية" التي أعطت إشارة انطلاقة تاريخ البشر. والمقصود بها منعطف في طريقة تواصلنا (ابتداع لغة التجريد) وتفكيرنا (التعاون الاجتماعي). وهو ما أدى إلى إبداع الأساطير والمعتقدات وتوسيع نطاق ذلك: من القبيلة العشائرية إلى الدولة القومية مرورا بالدولة المدينة وجماعة المؤمنين، وكلها قامت على "أساطير متشاطَرَة" لا توجد اللهم إلا في المخيال الجمعي؛ إذ لا وجود في الواقع لأرباب في الكون ولا لأمم ولا لنقود ولا لحقوق ولا لقوانين ولا لعدالة خارج مخيال بني البشر المشترك. ومنذ قيام هذه الثورة المعرفية والبشر في "واقع مثنوي": الواقع الموضوعي للأنهار والأشجار والسباع، والواقع المتخيل للأرباب والأمم والجمعيات. وعلى مر الأيام تغَوّل الواقع المتخيل على حساب الواقع الموضوعي، حتى صار في أيامنا هذه بقاء الأنهار والأشجار والسباع رهين ألطاف الأرباب والدول وجوجل. هذا وقد ظهرت الكائنات العضوية على وجه الأرض منذ حوالي 3.8 مليار سنة، وطفق بنو البشر، وقد ظهروا في شرق إفريقيا، أول ما ظهروا، ثم تفرقوا شذر مذر، يقيمون "ثقافاتهم"، منذ سبعين ألف حَوْلٍ، وينشؤون المرويات إنشاء، ويشكلون عصائب رواة هي القوة الأهم داخل مملكة الحيوان والأخطر والأشرس.
الثورة الزراعية
بدأت الثورة الفلاحية منذ حوالي 000 10 سنة بتركيا وإيران وبلاد الرافدين. وقد شكلت، على الحقيقة، القهقرى: لم تُترجم إلى ثورة معرفية، وإنما جعلت حياة الإنسان الزراعي أشقى من حياة الإنسان القناص اللاقط، وصيّرت غذاءه أعوز وأسوأ؛ إذ ما استألفنا ـ معشر البشر ـ القمح والرز والبطاطس وإنما هي من استألفنا، كما تسببت في أنحاء من التفاوتات، وزادت من حدة العنف. وثمة وجه آخر للثورة الزراعية، وهو أنها أدت إلى ظهور الحيوانات المستألَفة؛ إذ شيئا فشيئا تم استئلاف حوالي 90 في المائة من الحيوانات الكبرى ـ مثلا بقي اليوم 000 20 ذئب وحشي تلقاء 500 مليون كلب أهلي، و000 900 ثور وحشي مقابل مليار ونصف أهلي، و50 مليون بطريق في مقابل 50 مليار من الدجاج. على أن بؤس هذه الكائنات المستألفة بات أشد مما كان عليه وهي مستوحشة. لقد خلفت الثورة الزراعية آلاما لا تقدر ولا تَخِفُّ، محوّلة الحيوان من كائن حي إلى آلة منتجة. وتلك إحدى أعظم "جرائم التاريخ".
الثورة العلمية
ازدادت أن قوتنا ازديادا فاحشا وموحشا منذ 1500 حَوْلٍ: بتنا أكثر عددا بأربعة عشر مرة، وننتج أكثر بمائتين وأربعين ضعفا، ونستهلك من الطاقة أزيد بمائة وخمسة عشر نوبة. كل ذلك نَمَّ عنه سلطان العلم وسطوته. وقد تميز هذا السلطان بثلاث سمات: ينطلق العلم من الجهل ممارسا للشك، ويستعمل الملاحظة والحسابات، ويكتسب سلطا جديدة وهو يتقدم. أَوَ لم يقل بيكون: إنما المعرفة سلطة؟ هُوَ ذا ما فتح الباب أمام تعالق العلم (النظر) والعمل (التطبيق/التقنية)، وشرع الشارع أمام البعثات العلمية والسلطة السياسية: تحالف العلم والإمبراطورية، وتماثل العالِم والغازي.
تُرى، ما حصيلة هذه الثورات الثلاث؟ لقد كيّف التطور عقولنا وأجسامنا مع حياة القنص واللقط، بينما حكم علينا التحول الزراعي، ثم الصناعي، بحياة مضادة للطبيعة. وما من اكتشاف جديد، إلا وما يفتأ يبعدنا عن جنة عدن البعد السحيق. وهكذا، يمكن أن نعيب على الحياة الحديثة أنها تُفقر حواسنا وتُعجزنا عن تذوق اللحظة الحاضرة؛ بحكم أنها باتت تمنحنا اختيارات محيرة. لكن، علينا أن نُقرّ أن من مزاياها: تقدم العلم، تقلص العنف، اختفاء المجاعات. على أن كل هذا الذي حصلناه هش؛ ثم إنه تم على حساب الحيوانات الأخرى.
اختفاء الإنسان التاريخي
ها نحن قد انتقلنا في ظرف 000 70 عام من مقام كائن حي تافه إلى مقام التَّرَبُّبِ على الكائنات الحية الأخرى، عن طريق امتلاك قدرات الدمار والخلق. فهل لنا أن نفخر بذلك؟ وجواب المؤلف: أعتقد، لا. ها نحن ندمر النظام البيئي، ونؤلم الحيوان، وفي الوقت نفسه لا نرضى عن أنفسنا. أكثر من هذا، بتنا لا نعلم إلى أين نحن غادون! أَوَ ثمة أخطر من منزلة غير راضية وغير مسؤولة ولا تعلم ما تريد. والأنكى من هذا كله، ها قد باتت قدرتنا التقنية، لأول مرة في تاريخ البشرية، تتقدم على قدرتنا الأخلاقية. والبادي أننا أضحينا لا نعدم التقنية والصنعة، ولكننا نفتقد إلى البصيرة والرؤية. وها قد بتنا نمزج، المزج الذي لا تُدرك غائلته، بين الحياة العضوية وغير العضوية: مثلا بين السلاح الآلي والحشرات المصنعة للحرب على العدو، وبين العقل البشري والحاسوب من خلال رقاقات توضع في دماغ الإنسان وتحول نشاط الدماغ الكهربائي إلى كلمات. وقبل وبعد، هل يبقي، بعد هذا كله، الإنسان إنسانا؟ يرى هاراري أنه من الممكن أن يختفي الإنسان الذي عهدناه طيلة تاريخ البشرية المديد؛ لكن، لكي ينشأ نشأة مستأنفة في صورة إنسان "مُتَقْنَن" و"مُمَكْنَن" يترك مكان "الإنسان" التقليدي إلى "شيء آخر".
عشر أطروحات أساسية في الكتاب
كان لنا معشر البشر مصير استثنائي بخلاف مصير سائر الحيوانات؛ وذلك بحكم أننا قادرون على التعاون على أوسع نطاق يكون.
وتعاوننا على أوسع نطاق تم بفضل الوقائع التي تخيلناها التخيل (الأمة، المقاولة، النقد ...)، وباتت هي اختراعات تُهَيكل عالمنا؛ بحكم أننا نؤمن بهذه المتخيلات إيمانا جماعيا شديدا.
ما يجمع بين "الفِرَق الطبيعية (=الحيوانية)" (أقل من 150 عضوا) إنما هو الصلات الحميمية، بينما ما يجمع بين "الفِرَق المصطنعة (=البشرية)" (أزيد من 150 عضوا) إنما هو الوقائع المتخيلة.
لا زال جسمنا وعقلنا جسم وعقل كائنات قناصة لقّاطة تحيا في قبائل، ولهذا بتنا غير مناسبين للعيش بوفق العيش الحديث.
بصيرورتنا مزارعين وفلاحين مقيمين مستقرين ضحينا بازدهار الأفراد لصالح تطور النوع البشري.
صارت أوروبا الحضارة الأولى في العالم لأنها مزجت بين المعرفة والسلطة.
تجمع المجتمعات الحديثة بين خليط من التأثيرات لدرجة أنه بات من الوهم السعي إلى تحديد سمات هويات ثقافية خالصة.
أنشأت الإمبراطوريات أفكارا وقيما وحقائق متخيلة لصالح فكرة وحدة البشرية وأذاعتها.
كلا؛ ما كنا أبدًا كائنات بيئية؛ وذلك لأننا حولنا الكوكب تحويلا بئيسا منذ البداية.
سعادتنا حالة نفسية لم تغير فيها إنجازاتنا أي شيء: بتنا كائنات أكثر تعقيدا، لكن ليس أكثر سعادة، إِنْ لم نكن أقل!
هاراري المتشائل
(المتفائل والمتشائم معا)
ما العمل والحال هذه؟ يؤمن هذا "العدمي الزِّن" بحكمة بودا الثلاثية القائلة: "ثمة حقائق أساسية ثلاث تتعلق بهذا العالم: ما من شيء فيه إلا وشأنه أن يتغير بموصول التغير، ولا شيء من أمره أن تثبت له ماهية راسخة، وما كان أي شيء ليحمل على الرضا الشافي". ولهذه الحيثية، قال بودا: "لا تفعلوا أي شيء إطلاقا". على الرغم من كل متاعب البشرية، يذهب المؤلف مذهبين يكادا يكونان متناقضين عند أول النظر: من جهة، يرى أن البشرية ما حيت في تاريخها يوما أفضل مما تحياه الآن ـ إذ نبذنا المجاعات والأوبئة والحروب من وراء ظهورنا، حتى وإِنْ لم تختف هي بَعْدُ اختفائها النهائي؛ فكان أن أمسى بذلك وضعنا، بالمقارنة مع الماضي، أفضل ـ وهو يرى، من جهة أخرى، أنه قد أتى حين من الدهر شديد على الحيوانات مبيد لها لم تعهد له مثيلا من ذي قبل؛ حتى انقلب الإنسان إلى "قاتل بيئي بالتسلسل" أفنى نصف كبريات الحيوانات الثديية بالكوكب، وحتى لربما شكل لعنة على الأرض؛ إذ كان ازدهار البشر كارثة على أغلب حيوانات الأرض؛ اللهم باستثناء الجرذان والصراصير. ومن تم: "لم ينتج نظام الإنسان على وجه الأرض لحد الآن شيئا يمكن أن نفخر به". تُرَى، أنفخر بالتقدم؟ وجواب المؤلف: ما "التقدم" سوى "وهم". أم نفخر بالثورة الزراعية؟ تلك "أعظم فرية". أم هل نفخر بما يسمى "الإنسانية الليبرالية"؟ هذه باتت "ديانة" جديدة للبشرية.
وهكذا، ينتهي "الإنسان الذي عهدناه" من حيث يبدأ "الإنسان المتربب" ـ وذلك عنوان كتاب آخر لهاراري.
تفاصيل الكتاب:
عنوان الكتاب: موجز تاريخ البشر
اسم المؤلف: يوفال نوح هاراري
دار النشر: سيجنل بوكس
