دون تمييز بالدين والعرق

دون تمييز.jpg

أريئيلا بوبر- جفعون ويَعيل كيشت

أحمد أشقر

كشفت جائحة كورونا عن حجم الطاقم الطبيّ العربي ودوره ومُعاناته في جهاز الصحة الإسرائيلي، إذ يشكل الأطباء والممرضون والصيادلة وفقاً لمعطيات متداولة وشبه رسمية 21، 25، 35% على التوالي، وتتجاوز نسبة العرب من سكان الدولة والبالغة 19%، كما أنها تتجاوز نسبتهم في كافة قطاعات التشغيل والعمل الأخرى. أما قبل عقدين ونصف من الزمن فقد كان عددهم متدنيّا جدا نتيجة اقتصار سياسة الجامعات الإسرائيلية على قبول 10- 15 طالباً للطبّ كل سنة بتوزيعة طائفيّة. فيما كانت الدول الاشتراكية السابقة تقبل عدة أضعاف هذا العدد منهم. هنا نطرح السؤال: ماهي العوامل وراء زيادة نسبة الطاقم الطبيّ العربي في الكيان؟

تضافرت عدة متغيرات وجهود في إسرائيل أدّت إلى هذا الانقلاب والتغيّر، وكان أولها تركيز الدولة على قطاع المعلوماتيّة ذي الصبغة الأمنية الواضحة، وذي الرواتب والأرباح الخيالية، ممّا أدّى إلى توجّه قطاع كبير من العرب إلى هذه القطاعات. الأمر الذي أدى إلى عزوفهم عن دراسة الطبّ والعلوم الصحيّة لأن الرواتب والأرباح أقل بكثير من أرباح المعلوماتية، مما أدى إلى انخفاض عدد الأطباء اليهود. عندها قامت الدولة باستجلاب أطباء يهود من فرنسا، والمكسيك، والبرازيل والهند لكن صعوبة العمل في قطاع الطبّ أدى بغالبية هؤلاء الأطباء إلى العودة إلى أوطانهم أو الانتقال إلى مهن أخرى أقل صعوبة وأكثر ربحاً. وفي نفس الفترة أدت اتفاقيتا أوسلو سنة 1993 ووادي عربة 1994 إلى توجّه الطلاب العرب من مناطق الـ48 إلى دراسة الطبّ في الجامعات الأردنية والفلسطينية، وتحديداً الجامعة العربية الأمريكية في جنين لأنّها خاصة. ومع تحسن الوضع الاقتصادي لعرب 48 بدأ الأهالي يرسلون أبناءهم للدراسة في أوروبا. لكن إسرائيل التي تجري امتحانات مزاولة المهنة للأطباء الجدد هندست نسبة الناجحين من هؤلاء الخريجين ما بين 6%- 20%، أي حسب احتياجات قطاعها الطبي. وفي فترة الكورونا رفعت النسبة لتصل إلى 25%. أما المُتبقون من الخريجين، ويقدر عددهم بـ300 طبيب، فقد غادر بعضم البلاد ليزاول مهنة الطب هناك أو البقاء في البلاد ليعمل بما هو متاح له من أعمال جسديّة وذهنية أخرى. ويمكن التأكيد على أن كثرة الأطباء العرب هو نتاج جهد عائلي عربي مُتَحَدٍّ لسياسة الدولة من أجل ضمان أماكن عمل ثابتة لأبنائها في ظل تفشي البطالة بين العمال وسائر المهنيين العرب. ورغم تزايد عدد الأطباء والعاملين العرب في جهاز الصحة لم تقم إسرائيل بإنشاء أي مشفى في هذه المناطق العربيّة فيما حاصرت المشافي الثلاثة في الناصرة بشحّ الميزانيات والعقبات الإدارية الأخرى.

 

الكتاب الذي بين أيدينا لا يُعنى من قريب أو من بعيد بما ورد أعلاه، بل يبحث في التوترات 'الإثنوقومية' أو العنصرية ضدّ العرب في الجهاز الصحّيّ داخل المشافي، مثل الشكوك بين الطرفين أثناء انفجار الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين كالحروب والعمليات التفجيرية المختلفة. والطرفان هما الطاقم الطبي والمرضى العرب- مقابل الطاقم الطبي والمرضى اليهود. وهو محاولة لكشف التوترات التي يتناساها العرب واليهود (المقدمة ص 8- 10)، إضافة لهذه المقدمة يضم الكتاب أربعة فصول.

تبحث كل من الكاتبتين أريئيلا بوبر- جفعون ويَعيل كيشت في (الفصل الأول- المساواة في العلاج الصحي)  في روح الحياديّة المهنيّة فتقولان أن الشائع في الطب المعاصر هو روح الحيادية إذ لا فرق في التعامل على أساس العرق أو الدين أو الجنس، لأن جسد الأطباء والمرضى "يتحرر" من كل التعيينات التي تميّز الوجود الإنساني. لكن هذا الرأي انهار مع الحرب العالميّة الثانية عندما تعامل الجهاز الطبيّ النازي على أساس عرقيّ. وتضيفان بالقول أن روح الحيادية هي التي يجب أن تُدير الجهاز الصحي في إسرائيل، لكن المقابلات التي أجرتها الباحثتان بين سنتي 2016- 2017 مع العرب في المشافي كشفت عن عنصرية سائدة ضد العرب ولا يوجد للجهاز الصحي طرق واضحة لحلّها، لذا يتم إلقاؤها على الكوادر الطبيّة العربيّة واليهوديّة لحلّها (ص 11- 23). يمكن القول أن العنصرية المبحوثة هي تحصيل حاصل للنظام الاستعماري في فلسطين، وتبدأ قبل دخول المشافي، مثلاً، فمشفى (رمبام) في حيفا أسسه الطبيب الفلسطيني حمزة، ومشفى (هعيمق/ المرج) في مستعمرة العفولة في مرج ابن عامر يسميه العرب مشفى الرهوة على اسم التلة التي أقيم عليها.. ومشفى (فولفسون) في مستعمرة (رحوفوت) إلى الجنوب من مدينة يافا هو مشفى الدكتور الدجاني. ولولا إقامة دولة إسرائيل لبقيت هذه المشافي العربية. ورغم حاجة إسرائيل للأطباء إلا أنها ترفض تثبيت الأطباء العرب وتحسين ظروف عملهم. ففي تاريخ 17. 10. 2021 قررت حكومة إسرائيل استقدام 3000 طبيب يهودي من العالم، وصل منهم حتى الآن 70 بدأوا التدرّب في مشفى (رمبام) في حيفا، للجْم نسبة الأطباء العرب لمنعهم من تشكيل جسم عربي وازن أو نقابة مستقلة تطالب بحقوقهم. وتكشف نسبة الأطباء العرب من الباحثين التي لا تتجاوز 2%، و 6% من المتخصصين، والمدير العربي الوحيد لمشفى يهودي من بين 87 مشفى في إسرائيل والبالغ عددها  90 منها ثلاثة تبشيريّة في الناصرة تم إقامتها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مديروها هم من العرب والأجانب أحياناً، عن هشاشة وضعهم والعنصرية تجاههم.

 

تنطلق الباحثتان في (الفصل الثاني: العرب في المهن الصحيّة) من موقف العرب من التعليم الذي تبنوه بعد النكبة مباشرة والقائل إن تطوّرهم يتم عن طريق توسيع التعليم المدرسي والجامعي، لأن الاحتلال هدم وسيطر على مصادر ثروتهم من أراض ومياه وجهاز تعليم مستقل وأغلق الحدود بينهم وبين أبناء أمتهم في المحيط العربي. وفي المقابلات التي أجريتاها مع بعض العاملين العرب في هذا الجهاز أكّد جميعهم على الرغبة بتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية لأن هذا الجهاز مفتوح نسبيّا ومتعطش لكوادر جديدة. وتضيفان: "لكن هذه الكوادر اكتشفت أن العنف والتمييز فيه هو نفس العنف والتمييز خارجه كما في كل الأجهزة والقطاعات الأخرى". وتؤكدان أيضا على أن نسبة النساء العربيّات فيه أقل من نسبتهن في أسواق العمل الأخرى. وتخلصان بنتيجة أن العرب في هذا الجهاز يعانون من التمييز والعنصريّة (ص 24- 58). هذا صحيح. لكن هنالك قضايا أخرى أكثر خطورة على الأطباء العرب لغياب المشافي والعيادات الصحيّة المتطورة في أماكن سكناهم. فتقوم السلطات استيعاب غالبيتهم في هذه الأماكن، الأمر الذي يحرمهم من تحقيق أرباح مالية واجتماعية أخرى، مثل التدرج في السلم الوظيفي المتوفر للأطباء اليهود، ويتم توزيع البعض في مشافي اليهود وسط البلاد وجنوبها، المقرون بإضافة أعباء مالية واجتماعية مثل انتقال العائلة للسكن هناك، الأمر الذي يشكل عبئاً عليها لعدم وجود أطر تربوية اجتماعية عربيّة مناسبة لها ولأبنائها، لذا تضطر إلى إرسال الأبناء إلى أقرب مدرسة عربيّة تبعد عشرات الكيلومترات يوميّاً، أو العودة إلى القريّة الأصل وخسارة مكان عمل مناسب، أو خسارة الأبناء لهويّتهم العربيّة (والدينيّة) لصالح هويّة إسرائيلية مشوهة، كما حدث للكثيرين ممن درسوا في مدارس يهودية. لذا أعتقد أن المؤسسة الإسرائيلية الرسمية هي التي تخلق مثل هذه الإشكاليات لتبقى العائلة العربيّة غير مستقرة مكانيا ونفسيّاً ومنع تطور كادر طبيّ يسعى لتطوير مجتمعه. يمكن القول إن سياسة توزيع الطاقم الطبي العربي على كافة مشافي وعيادات وصيدليّات الكيان من شمال فلسطين إلى أم الرشراش، "إيلات" سياسة رسمية تهدف المؤسسة من خلالها إلى تفكيك العائلة العربية وجعل حياتها اليومية صعبة للغاية.

 

في (الفصل الثالث- يهود وعرب في منظمات الصحة- توترات، آراء مسبقة وتعابير عنصرية) تتحدث الباحثتان عن التحديات التي تواجه الطاقم الصحي والمرضى العرب، حيث يُظهر قطاع من اليهود رغبتهم بتلقّي العلاج من أطباء يهود، وعدم مشاركة المرضى العرب غرفا مشتركة، بينما العرب كانوا سعداء بالالتقاء مع اليهود. وفي بعض الحالات رفض المرضى اليهود تلقى العلاج من الطاقم الطبيّ العربي نتيجة لمواقف مسبقة وعنصرية أخرى، بينما فضل بعض العرب تلقي العلاج من طاقم عربي بسبب سهولة التواصل باللغة العربيّة، التي تشكلّ سببا للتوتر مع الطاقم الطبيّ اليهودي، والذي تصل قمته خلال المعارك والعمليات والحروب المختلفة، حيث يعبّر خلالها غالبية اليهود عن عدائية مفرطة تجاه العرب في الضفة وغزة ولبنان، شفاهة، وفي وسائل التواصل الاجتماعي. أما إذا تماثل أي فرد من الطاقم العربي مع العرب المُعتدى عليهم فإن إدارة المشفى تستدعيه لتوجّه له التحذير (ص 59- 107). 

ويمكن القول إن العنصرية التي تتحدث عنها الباحثتان هي الأكثر شيوعاً وصعوبة على الطاقم الصحي العربي لدرجة أن بعضها يصل إلى وسائل الإعلام. وكثيرًا ما قرأنا وسمعنا عن يهود من الطاقم الصحي والمرضى يتمنّون الموت للأسرى العرب الذين يحضرون للعلاج في المشافي؛ أو تمنوّا على الجيش ضرب غزّة بالسلاح النووي وإبادة كل عرب فلسطين ولبنان. رغم شيوع التعبيرات العنصرية والإهانات، إلا أن الطاقم الصحيّ العربي يفضلّ الصمت والغضب الكامن لأنه يعلم أنه الخاسر في أية مواجهة مع الإدارة أو وسائل الإعلام. ثم تختمان الفصل بالاعتراف بعدم وجود سياسة رسمية من قبل الدولة أو المشافي لعلاج مثل هذه الظواهر. 

 

في (الفصل الرابع- كيفيّة التعامل مع التوترات الإثنو- قوميّة في جهاز الصحّة) تعترف الباحثتان بعدم وجود سياسة واضحة للتعامل وحلّ مثل هذه العنصرية حيث يتفق متخذو القرار في وزارة الصحة والمشافي المختلفة على التغافل عن مثل هذه العنصرية التي تتجلّى أثناء استضافة العرب واليهود في غرف مشتركة؛ ورفض تلقي العلاج من طبيب عربي على خلفيته القومية؛ ورفض الطاقم الطبيّ اليهودي علاج الأسرى وجرحى الاعتداءات والمعارك من العرب، وصعوبة تقديم الطاقم العربي العلاج للجنود اليهود الجرحى؛ ولغة الحديث بالعربيّة بين أعضاء الطاقم الطبيّ العربي؛ والنقاشات والخلافات السياسية بين طاقمي العمل من اليهود والعرب. ثم تخلصان إلى ضرورة الدمج بين منهجي التأهيل الثقافي والبنيوي لوضع سياسة مناسبة لمنع وحلّ مثل هذه التوترات (ص 108- 121). العنصرية التي تتحدث عنها الباحثتان ليست خافية على أحد من العرب واليهود الذين مارسوا مثلها أو سمعوا عنها والتي أشهرها كانت رفض عضو الكنيست الفاشي (بتسلـءل سمورتيتش) من مشاركة زوجته في غرفة ولادة مع نساء عربيات أخريات، في نيسان 2016. والتوترات داخل المشافي تتحول أحياناً إلى حالة قلق وخوف للعائلات العربية على مصير أبنائهم الأطباء ممن "تورطوا" في تصريح يعارض سياسة المؤسسة. وكذلك قلق بعض أهالي الأسرى الذين يُنقلون لتلقّي العلاج في هذه المشافي. ومن أبرز وأقسى هذه التوترات هو ما كشفه التحقيق الصحفي: "أبناؤنا نُهٍبَت أعضاؤهم"، لكاتبه السويدي (دونالد بوستروم) في صحيفة (آفتونبلاديت) في السابع عشر من آب 2010 الذي يؤكد فيه أن إسرائيل سرقت أعضاء الشهداء العرب. كما سمعت على لسان الباحث اليهودي المعادي للصهيونية (عكيفا أور) أن مبحثي الجراحة والتشريح الطبيّين تطورا كثيرا في "إسرائيل"، لأن المؤسسة العسكرية اعتادت أن تزود كليّات الطب ومعاهد التشريح المختلفة بجثث الفدائيين وبقية العرب الذين كان جيشها يقتلهم، لاستخدامها لأغراض التدريب العلمي طبعاً. 

في النهاية يمكن القول إن رغبة الباحثتين في العمل على إيجاد حلول للعنصرية التي يواجهها الطاقم الطبي والمُعالجون العرب في المشافي الإسرائيلية رغبة طيبة إلا أنها مثالية ولا يمكن تطبيقها لأن النظام الاستعماري اليهودي في فلسطين مبني على أساس الهرميّة العنصرية البنيوية ولا يمكن اختراقها في ظل الواقع القائم.

 

تفاصيل الكتاب:

اسم الكتاب: دون تمييز بالدين والعرق: توترات إثنو- قومية بين اليهود والعرب في جهاز الصحة بإسرائيل

المؤلف: أريئيلا بوبر- جفعون ويَعيل كيشت

دار النشر: كرمل، القدس

عدد الصفحات: 138 صفحة، بالعبرية.

أخبار ذات صلة