ياسين أقطاي
صلاح خيراني
تقدم الدراسة التي قام بها المُفكر التركي ياسين أقطاي للقارئ منظورًا واسعًا في ضوء الخلفية التاريخية لظاهرة الدين ومفهوم المجتمع المدني. كما تركز على وجه الخصوص على المقاربات التي قدمها علماء الاجتماع المؤسسون لظاهرة الدين من خلال ثنائية الحداثة وما بعد الحداثة والانفتاح الذي طرح في الفترة المعاصرة بُعدًا لفهمنا للدين، وما نتج عنه من فتح الباب على مصراعيه أمام مجالات جديدة للنقاش. كما أن الموضوعات الرئيسية لهذا الكتاب تتمحور حول مكانة الدين في عالم متمدن ومتعدد ومتعولم يقوم على مابعد الحداثة، والثنائيات مثل تغيير العادات والتقاليد، وعلم الاجتماع الديني-والدين، وعلم اللاهوت والأنثروبولوجيا والعلاقة بين المجتمع المدني والدولة.
المعرفة والخبرة
يمهد المؤلف لكتابه بالآية 48 من سورة المائدة التي تسلط الضوء على القوانين الأساسية للعملية التاريخية والاجتماعية.كما يشير في معرض حديثه للآيات 104-110 من سورة آل عمران التي تذكر كل مجتمع بمسؤوليتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي قسم خاص بعنوان "قلب عالم بلا قلب"، يتعامل المؤلف مع شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بلغة وأسلوب ديني بحت، مقدماً النبي محمد كنموذج يحتذى به للعالم المحتمل ضمن حدود الإنسان. وفي بعض المواضع يؤكد المؤلف على ماهية الرسالة الأساسية للإسلام وما هو مخالف للإسلام، وباختصار يعكس المؤلف بوضوح عالم الإيمان في متون كتابه. ويقتبس المؤلف من الفيلسوف مارتن هايدجر قوله إن ادعاء معرفة الله سيؤدي حتما إلى الانفصال عن الوجود، لأن فعل المعرفة الديكارتي يتطلب مسافة. يجادل هايدجر بأن معرفة اللاهوت تزيل أساس التأثير المباشر الذي يؤسسه الوجود. بل إنه يقول إن عدم دينه أقرب إلى الله من اللاهوتيين (ص 155). كما يؤكد أقطاي على العلاقة التي لا تنفصم بين الخبرة الدينية والمعرفة الدينية.
هذا النقاش الذي أجراه أقطاي في الواقع يلقي الضوء على النقاشات المعرفية حول المدى الذي يحدد فيه الإيمان والخبرة وعالم العاطفة النهج العلمي. وينتقد أقطاي المعارضة القاطعة في مناهج علماء الاجتماع المؤسسين مثل كونت وماركس وفيبر ودوركهايم لظاهرة الدين، ويكشف أن جميع الأديان في نهاية المطاف تُرى في فئة واحدة وبأن هذه المعارضة تجعل من المستحيل فهم الدين. ولكن من ناحية أخرى، كما ذكرنا أعلاه نرى أن مؤلفنا يسلط الضوء بوعي على دوافعه الدينية ومنظوره الاجتماعي لعالم القيم في عدة نقاط. تمامًا كما عكس علماء الاجتماع المؤسسون عوالم القيم إلى حد معين في تحليلهم العلمي، ويكرر أقطاي نفس الموقف هذه المرة لكن في الاتجاه المعاكس. كما أكد ماكس فيبر في مقالته الشهيرة "العلم كمهنة" فإن فكرة وجود علم خالص مستقل عن المعتقد وأحكام القيم والافتراضات الذاتية هي بالطبع فكرة ساذجة إلى حد ما. لذلك فإن النقطة التي نريد التأكيد عليها هنا هي حقيقة أننا بحاجة إلى انفتاح معرفي يسمح بمناقشة التجربة في نطاق المعرفة.
الحداثة وما بعد الحداثة والدين
في الفصول الأولى من الكتاب، يناقش أقطاي مفاهيم الحداثة والدين والتغيير الاجتماعي في محور ما بعد الحداثة والتعددية الدينية والسلطة الدينية والشذوذ العالمي. ويلفت الانتباه إلى الفرص التي يمكن أن توفرها على عكس النهج النقدي الواسع النطاق لحالة ما بعد الحداثة. ووفقًا للمؤلف فإن وضع ما بعد الحداثة هو أولاً وقبل كل شيء حالة التواجد على مفترق طرق ويوفر الحرية لاتخاذ خيارات مختلفة تمامًا عند هذا التقاطع. وهذا التفسير هو مظهر من مظاهر الدافع المتفائل والفعال للموضوع والذي يحاول المؤلف بإصرار الحفاظ عليه في جميع الظروف. وبالطبع يمكن القول أن منطقة مناورة أقطاي الواسعة والحرة هي أيضًا ثمرة لمنهجه البراغماتي تجاه المفاهيم بطريقة ما.
على الرغم من أن ما بعد الحداثة تحتوي على فهم تقدمي للتاريخ في أماكن قليلة مثلها مثل الحداثة، إلا أن أقطاي يركز بشكل أساسي على أن المفهوم - خاصة مع العولمة - يشير إلى المكان والجغرافيا بدلاً من الوقت "حقيقة أن العالم أصبح مجالًا واحدا له تأثير واضح على الوعي... "(ص 42). ومع ذلك ينبغي القول بأنَّ طبيعة وأبعاد هذا التأثير لم يتم تناولها بشكل كافٍ من قبل المؤلف مما ترك الجدال مُعلقًا جزئيًا.
الأصالة في العالم الحديث
واحدة من أكثر النقاشات لفتا للنظر مع مفهوم التحديث هي قضية الأصالة - وكما ناقش المؤلف ذلك في كتابه "العولمة والتعددية الثقافية والأصالة"- يصر أقطاي على أن كل سياق اجتماعي تاريخي هو أصيل في حد ذاته. ويوفر هذا النهج في الواقع فرصة لممارسة اجتماعية وسياسية محددة ومبتكرة في كل فترة من فترات التاريخ. كما يلخص الاقتباس المأخوذ من هيدجر الذي تأمل في الوجود وظواهر الوجود، المعنى الديناميكي الذي يضيفه أقطاي إلى مفهوم الأصالة: "لا توجد كلمة جديدة غير منطوقة تحت السماء. لكن أليس جديدًا أن أقول هذا هنا والآن؟ "(ص 2). نعم إن كل فترة وكل سياق هو أصيل بالضرورة، لكن المؤلف لا يزال يحذر من التصور القائل بأن الوقت الذي نعيشه -سواء كان ذلك بمشاعر الغربة والشوق أو الشعور بالتفوق- يختلف تمامًا عن الأوقات السابقة مذكراً أن هذا التصور عقبة في طريق فهم سنة الله في الكون، وباختصار يوازن المؤلف بين الأصالة والتكرار.
علم اجتماع الدين: مقاربات كلاسيكية
بينما يتعامل أقطاي مع النقاشات الرئيسية في علم اجتماع الدين، فإنِّه يتعامل مع مناهج أصل الدين وتعريفه باستجابات معاصرة ملموسة في عالم الإدراك اليوم. وتأكيدًا على ازدواجية المقدّس والمدنس كأكثر معادلات التعريف شيوعًا للدين، فإنه يدعو القارئ أيضًا إلى رؤية مقدساتنا في العصر الحديث. إنه يشير إلى المدى الذي تؤدي فيه الفروق الدينية (المقدسة)- الدنيوية التي نبنيها إلى تشتيت انتباه الدين الذي نؤمن به عن الواقع الاجتماعي والسياسي. بالإضافة إلى ذلك يلفت الانتباه إلى أدوات رأس المال الرمزية في العصر الحديث، خاصة من خلال الفكر الطوطمي الذي ناقشه دوركايم في تحليله لأساس الدين.
علم اجتماع الدين- علم الاجتماع الديني
من خلال التمييز بين علم اجتماع الدين وعلم الاجتماع الديني، يبدو أن أقطاي يحاول توضيح الخط الدقيق بين المعتقدات والنشاط العلمي، والذي ركزنا عليه في البداية. ومع ذلك ينبغي الإشارة إلى أن هذا التمييز في رأينا إشكالي من وجهة نظر معرفية. وبحسب أقطاي فإن "علم اجتماع الدين لا يصدر حكماً بشأن صواب أو خطأ السلوك الديني الذي يفحصه، والغرض منه هو النظر في العلاقات بين التفاهم الديني وديناميكيات التغيير الاجتماعي "(ص 73). ومن ناحية أخرى فإن علم الاجتماع الديني هو "النظر إلى علم الاجتماع من منظور دين معين" (ص 73). برأينا يؤدي هذا التمييز أساسًا إلى وجهة نظر تتجاهل الأسس الأنطولوجية والمعرفية للعلوم الحديثة وهو الافتراض الذي ينتقده أقطاي أساسا. وقد نوقش هذا الجدل من قبل حول ثنائيات علم الاجتماع الإسلام / أنثروبولوجيا الإسلام - علم الاجتماع الإسلامي / الأنثروبولوجيا الإسلامية، وقد شكل إحدى الإشكاليات الرئيسية في أسلمة دراسات المعرفة. ففي الواقع لقد تناول أقطاي وهو على دراية كبيرة بهذه النقاشات، هذه المسألة المهمة بإيجاز شديد في كتابه.
هل العلاقة مع الله عمل اجتماعي؟
يجادل عالم الاجتماع ماكس فيبر بأنَّ الاعتراف بظاهرة اجتماعية يجب أن يعتمد على المعاني الذاتية التي ينسبها الفاعلون الاجتماعيون إلى الظواهر المعنية، وليس على الأنماط النظرية والمنهجية الجاهزة للباحث. لقد أضاف منظور فيبر الذي يقدم اختراقًا نظريًا جادًا في علم الاجتماع، بُعدًا جديدًا لمفهوم الفعل الاجتماعي. بهذا المعنى فإنَّ سؤال أقطاي المستوحى من عالم الاجتماع بريان تورنر Bryan Turner هو ما إذا كانت العلاقة مع الله يمكن اعتبارها فعلًا اجتماعيًا. فإن المجتمع الذي يُنظر فيه إلى الله كعنصر فاعل اجتماعي لا يوسع نطاق العلاقة بين المعتقد الديني وممارسة الحياة اليومية فحسب بل يُظهر أيضًا مدى الغموض والاختراق في التمييز الديني وغير الديني. يتحدث أقطاي كثيرًا عن بحثه الميداني حول طائفة المورمون في أمريكا كتطبيق نموذجي لهذا الترابط، ويقدم للقارئ بالتفصيل تنظيم هذا الطائفة التي تضم حوالي عشرة ملايين عضو، على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
عندما يتم ذكر حالة ما بعد الحداثة والعولمة، يتبادر إلى الذهن بالطبع الاختلافات والتعددية في المقام الأول. فالديناميكية الأساسية لـ "السياسية" التي يعرّفها أقطاي بأنها "الحالة الإنسانية الناشئة عن ضرورة بناء مساحة مشتركة مع الأشخاص الذين يشبهوننا في هذا العالم إذا لم نكن وحدنا في هذا العالم "هي بلا شك بناء تصور للواقع المشترك. كما يتطرق المؤلف على وجه التحديد إلى علم الظواهر والمنهجية العرقية كمقاربات أساسية تلقي الضوء على كيفية تشكيل عوالم الفاعلين الاجتماعيين على مستوى العلاقات الاجتماعية الجزئية، وكيف يتم بناء الأنماط العقلية والذي يكون أحيانًا بوعي وأحيانًا بشكل تلقائي. ويضيف المؤلف أنه لسوء الحظ أن هاتين المقاربتين تم إهمالهما من قبل علماء الاجتماع ما حرمنا من الأفكار التي كان بإمكانهم أن يقدموها.
التحضر والدين والتعددية
وفقًا لأقطاي فإن أهم تغير حدث في سياق علاقة التمدن والدين هو أنه تم حصر كل دين في إطار نسبي. ويقول إن هذا السياق المستجد جعل من الصعب وجود مقام علوي ليقرر صحة أي اعتقاد داخل هذه الثقافة التعددية "(ص 119). يقرأ أقطاي هذه الحالة والمتمثلة في معادلة الأديان في وعاء التعددية، واختفاء مزاعم الحقيقة، الشذوذ العالمي، الضغط النفسي الذي أوجده المجتمع المتمدن الصناعي ضد البقاء مرتبطًا بشكل صارم بفكرة الحقيقة، باختصار على أنها تمييع للمعتقدات "(ص 128).
كما يلفت المؤلف الانتباه إلى الإمكانات التي يتيحها المشهد التعددي الناشئ، ولا سيما فيما يتعلق ببعد تآكل احتكار الحقيقة خصوصا عند بعض الجماعات الإسلامية، وتزايد ثقافة المجتمع المدني بشكل عام، ووفقًا له فإن "كل الطوائف والجماعات التي اعتادت أن تعتبر نفسها بأنها مركز العالم والممثل الوحيد للحقيقة، عليها أن ترى أن الآخرين لديهم نفس الفرصة للمطالبة بالحقيقة. وبأن يحاولوا اكتساب حس التسامح والتفاهم مع الآخرين. (ص 180) " يبدو أن رغبة أقطاي تحمل في طياتها الأمل في أن تتمكن بعض الجماعات الإسلامية في هذا الجو المتولد عن عصر الحداثة المتأخر أو ما بعد الحداثة بأن يقوموا بحركة نقدية تساؤلية تمكنهم من التمييز بين ما إذا كانت الحقيقة تنتمي إلى هذه الجماعات أم أن هذه الجماعات هي من تنتمي إلى الحقيقة.
التقاليد والتغيير
في مناقشته للعادات والتقاليد يدعونا أقطاي إلى التفكير في مدى صحة مجموعة الحقائق التي نؤمن بها في السياق الاجتماعي الذي نعيش فيه. وسواء كان التقليد يعبر عن النظام المحلي أو عن توجه أتباع هوبسباون Hobsbawn، فهو في الأساس استمرارية في السلوك الاجتماعي. وفي رأينا تركيز أقطاي ينصب على التساؤل دائمًا عن مدى توافق هذه الاستمرارية مع الواقع والحفاظ عليه بحساسية ذاتية الانعكاس.
مناظرات ونقاشات المجتمع المدني
في هذا القسم يلخص أقطاي الأدبيات حول مفهوم المجتمع المدني ويناقش العلاقة بين المجتمع المدني والدولة من حيث أبعاد التبعية والمعارضة. أما فيما يتعلق بمحور الدين والمجتمع المدني يواصل المؤلف النقاش وتسليطه الضوء على المسلمين بشكل خاص. ويبدو أن أقطاي قد تطرق إلى مفهوم المجتمع المدني من زوايا مختلفة في أجزاء مختلفة من الكتاب. ومن بين إحدى النقاط التي أكد عليها مرارًا وتكرارًا في عدة مواضع هي أن المجتمع المدني لا يعني بالضرورة معاداة الدولة أو مناهضة الدولة. ولكن من ناحية أخرى يذكر أن "جزءًا مهمًا من مفكري التنوير على طول الخط الذي يعود إلى هيجل تصوروا المجتمع المدني كمجال اجتماعي لا يرتبط مباشرة بالدولة" (ص 298) كما يربط أقطاي مفهوم المجتمع المدني مباشرة بالمشاركة السياسية ويؤكد أن ظهور ثقافة المجتمع المدني سيثير "السياسة"والثقافة السياسية والوعي السياسي ومنه ثقافة المجتمع المدني هي سلوك مواطنة نموذجي يهدف إلى بناء دولة جامعة للجميع" (ص 382).
لا شك أن المجتمع المدني والسياسة هما مفهومان يجب على الجماعات المتطرفة التي تدعي أنها تتبع الدين الإسلامي والتي تحاول تعميق دوامة العنف التركيز عليهما بشكل حساس وجدي في نفس الآن. بهذا المعنى يقدم كتاب ياسين أقطاي "الدين والمجتمع المدني عند مفترق طرق ما بعد الحداثة" منظورًا جديدًا للآثار الاجتماعية والسياسية للاعتقاد الذي ننتمي إليه فضلاً عن عرضه لإمكانيات وآفاق سياسة بنظرة تجديدية استشرافية.
تفاصيل الكتاب:
المؤلف: ياسين أقطاي
العنوان : الدين والمجتمع المدني عند مفترق طرق ما بعد الحداثة
مكان النشر: إسطنبول
دار النشر: دار التذكرة للنشر Tezkire Yayınevi
تاريخ النشر: 2020
عدد الصفحات: 422 صفحة
