مرحبا يا غريب: كيفية التواصل في عالم منقطع

مرحبا يا غريب.jpg

ويل باكنغهام

طلال اليزيدي (كاتب وباحث عماني)

أثناء وباء كورونا المستجد كانت إحدى الخسائر العميقة التي عانينا منها أثناء الحجر الصحي، لا سيما الذين حالفهم الحظ بما يكفي بعدم فقدان أفراد عائلاتهم بفتك الوباء، هي الانقطاع عن الأشخاص الذين لم نكن قريبين منهم.  فشخصياً خلال هذه الفترة تقتُ إلى الندوات الاجتماعية والمؤتمرات الأكاديمية، والمحادثات في استراحات القهوة مع الأشخاص الذين أراهم مرة واحدة بعد طول انقطاع.  خلال فترة الحظر الصحي وطول فترة الابتعاد عن الناس كان من الواقعي خلال فترة الحجر القسري أن ندرك مقدار ما نكسبه من علاقتنا الاجتماعية من أقرب الأشخاص لنا حتى أولئك الذين لا تربطنا معهم علاقة حميمة، ولكن من وجودهم نستمد الراحة والتحفيز.

خلال فترة ما بعد الوباء نفكر ونسترجع تجاربنا مع الحظر الصحي القسري، من جانب آخر يشهد العالم ازديادا في أرقام الهجرة العالمية بشكل بارز. ناقش باكنغهام هاتين الظاهرتين المنفصلتين وربطهما في كتابه بعلاقتنا وتقاليدنا الاجتماعية بين القريب والغريب. جمع باكنغهام في مزيج رائع رؤى الفلسفة والأنثروبولوجيا وعلم النفس والتاريخ والأدب لاستكشاف تقاليدنا في مقابلة الآخر وكيف من الممكن تحسين هذه العادات لتخفف من مشاكل عصرنا. تتطرق باكنغهام في كتابه "مرحبا يا غريب" (hello stranger) إلى قصص الوحدة والنفي والصداقة من العصور الكلاسيكية إلى العصر الحديث، وإلى السفر والتكيف في مجتمعات شتى من مدينة برمنغهام في بريطانيا حيث إقامته إلى ميانمار. يناقش باكنغهام وضع كراهية الأجانب والخوف من الغرباء الغريزية لدينا جانبًا واحتضان طبيعتنا في حب الغرباء والإيثار، بنفس القدر. البشر كونوا مفهوم "الغريب" منذ زمن البشر الأوائل، فمنذ ذلك الوقت حتى وقتنا الحاضر شكل البشر الكثير من عاداتهم ومعاملاتهم الاجتماعية حول مفهوم الغريب والقريب. قلوبنا في معظم الأحيان مضطربة نحتاج إلى العزلة من الناس وفي نفس الوقت نحتاج إلى الأصدقاء. في كتاب "مرحباً يا غريب"، يقدم باكنغهام خريطة ليتبعها الآخرون في حياتهم ضمن نسيج من الغرباء والأقرباء.

 في كتاب مرحباً يا غريب، يقدم ويل باكنغهام (Will Buckingham) عالم الأنثروبولوجيا استكشافًا أنيقًا ومؤثرًا فيما يعنيه التواصل مع الغرباء. نقطة انطلاق الكتاب هي الحزن الذي راوده بعد وفاة زوجته إيلي بمرض السرطان. كان يتوقع أنه سيكون في حاجة إلى الأصدقاء في أعقاب وفاة زوجته. لكنه استغرب حاجته إلى أشخاصٍ غرباء ليقص عليهم مأساته. يروي في كتابه: "لقد فوجئت بمدى احتياجي أيضًا إلى الغرباء أشخاص لا يعرفون شيئًا عن إيلي ولا يعرفون شيئًا عن خصوصيات حزني". حتى قبل وفاة زوجته، قضى باكنغهام الكثير من حياته وسط الغرباء. أثناء نشأته كان منزل والده القس عبارة عن منزل مفتوح للمصلين وأطفال الشوارع والمشردين. وكشخص بالغ، سافر كثيرًا وقضى فترات طويلة في الاستكشاف والعمل والتعلم في إندونيسيا والصين وميانمار وأماكن أخرى. في الواقع حتى بعد تشخيص زوجته بالسرطان استمر في السفر للتدريس في تشنغدو، ولم يعد لوطنه إلا عندما اتضح أن المرض قد دخل مرحلته النهائية.

 كتاب "مرحبًا يا غريب" متجذر من تفكير طويل وتقليدي من العيش في عالم يحيط بنا فيه الغرباء، وحاجتنا أيضاً إلى ملذات وراحة المنزل. خبرات باكنغهام الأنثروبولوجية جليلة في هذا الكتاب، مدعومة بمعرفته بالتاريخ القديم والآداب والأساطير. سرد باكنغهام العديد من الملامح التاريخية لأحداث توثق دور الغرباء في الثقافة البشرية عبر التاريخ، وسنستعرض بعض هذه المواقف في هذه المراجعة. يقترح باكنغهام أنه من المحتمل أن مفهوم الغريب أصبح قوياً في الثقافة الإنسانية منذ ُ العصر الحجري الحديث حيث أفسح هذا العصر المجال أمام ظهور الزراعة وبدايات استقرار البشرية في المدن.  فعندما بدأ البشر بزراعة المحاصيل كانوا بحاجة إلى بناء سياج لحماية تلك المحاصيل، فكل شيء في الجانب الآخر من هذا السياج أصبح غريبًا وبالتالي من المحتمل أن يكون عدائيًا. أحد مظاهر الوجود الدائم في الكتاب هو ملحمة هوميروس اليونانية، ومخاض أوديسيوس في العودة إلى الوطن باعتماده المحفوف في كثير من الأحيان على الغرباء وكرم ضيافتهم على طول الطريق حول البحر المتوسط. فمفهومنا عن اللجوء "asylum" وإيواء الآخرين مستمد من المفهوم اليوناني القديم"Asulia”، فكرة أنه يمكن لأي شخص غريب أن يبحث عن ملاذ في المعبد، حتى لو كان بربريًا. بسبب هذا المفهوم تأسست روما وأصبحت قوية لأن رومولوس باني ومنظر مدينة روما قدم للعبيد الهاربين ملجأ إذا شاركوا رؤيته لبناء مدينة عظيمة. لطالما امتلأ الدين بفكرة الغريب أيضًا. يتظاهر الملائكة بأنهم غرباء في كتب العهد القديم ليختبروا البشر، الإله زيوس تنكر في زي غريب للتنصت على الأرواح البشرية. تلك التجارب التاريخية مع الغرباء إلى حد ما تشبه رحلتنا واعتمادنا على الغرباء عند الحاجة والسفر. أن تكون غريبًا يعني أيضًا الشعور بالوحدة. نجد أنفسنا غرباء في أغلب الأحيان عندما نسافر. كان لدى المرتزقة السويسريين في القرن السادس عشر كلمة تشير إلى هذا المزيج من الوحدة والحنين إلى الوطن الذي يأتي بنا في الخارج فأطلقوا عليه "مرض الحنين للوطن".  كانت هناك تقارير عن هؤلاء الجنود الذين سمعوا أجراس البقر، فاعتقدوا أنهم في ديارهم بسبب حنينهم فمرضوا وماتوا.

 

 في هذا الكتاب يكون باكنغهام في أفضل حالاته عندما يستكشف سيكولوجية هذا العالم بالأخص في التفاعل مع الغرباء. يستكشف باكنغهام الخطوات عند الالتقاء بشخص غريب حيث البدء بالمقدمات للتعارف في الاجتماعات الأولى، وخرز النظارات، لينتقل البشر حديثي التفاعل من المجهول إلى المعروف. باكنغهام يسرد كل تلك العادات والطقوس المتعلقة بالتعرف على الغرباء التي لا نأخذها في الاعتبار أبدًا في حياتنا، مثل تقديم الهدايا عندما نلتقي بعائلات الأصدقاء والأحباء لأول مرة، الذين نريد إقناعهم وجذبهم بسبب علاقتنا الحميمة بأصدقائنا على رغم من أنهم غرباء بالنسبة لنا. ومع ذلك نلتزم بشكل غريزي وبطريقة لا واعية بأن لا نكسر أيا من هذه الطقوس الدقيقة عند التعرف بالغرباء. باكنغهام اعتبر كسر أي من هذه الطقوس التقليدية المتعارف عليها عند التعرف بالغرباء بمثابة موت التفاعلات الاجتماعية بين البشر.

 لا يتجاهل باكنغهام في كتابه تقاليد كره الأجانب والريبة منهم، بل يؤكد أيضًا على تقليد التوازن في ظل مفهوم "الفيلوكسينيا"، وهي كلمة من العهد الجديد اليوناني تشير إلى الفضول والرغبة في التواصل مع أولئك الذين ليسوا مثلنا. الفيلوكسينيا تستحق الاهتمام وقد لاقت اهتماماً واسعاً من باكنغهام في كتابه. يتمتع البشر بتاريخ مليئ بالاستضافة والترحيب والتواصل مع أولئك الذين ليسوا أقارباً. باكنغهام شخصيًا مر بتجارب مع الاستضافة والترحيب من الغرباء في محطات مختلفة من رحلاته، تمثلت في ضغط الطعام في يديه ودعوته للبقاء في المنازل في كل مكان من بلغاريا إلى باكستان. بعد عودة باكنغهام إلى وطنه رد بالمثل على كل الاستضافات التي لاقاها في ترحاله. فخلال السنوات الأولى من زواجه وبعد مللهم من هدوء حياتهم في مدينة برمنجهام بوسط انجلترا، فتح باكنغهام وزوجته شقتهما للعالم عبر تطبيق couch surfing، تطبيق يسمح لك استضافة الغرباء الرحل في منزلك للنوم على الكنبة أو سرير إضافي. كتب باكنغهام عن تجربته في استضافة الغرباء في منزله: "بينما كانوا يجتازون عتبة منزلنا، جاء ضيوفنا حاملين هدايا غريبة ورائعة، زجاجات المشروب الكحولي الطبي الفعَّال من المجر، وكميات كبيرة من جبن البارميزان محلي الصنع من مزرعة عائلية في إيطاليا، والحلي المصنوعة منزلياً. ذات مرة استضفنا طاهي فطائر سوري، فأعد طباخة الفطائر الخاص به في مطبخنا وأعد وليمة من الكريب والجاليت."

 ضيافة الغرباء ليست مجرد إيثار، بل من الممكن أن تكون أيضًا مسألة التزام واحترام وكرامة.  يتذكر باكنغهام في كتابه "رحيم" اللاجئ الإيراني الذي كان يدرس في برنامج للكتابة في مدينة ليستر بإنجلترا أعده باكنغهام.  دعا رحيم باكنغهام إلى منزله لتناول الشاي، وقدم رحيم إلى باكنغهام كميات كبيرة من الطعام. ولكنه شعر في البداية بعدم الارتياح لقبول هذا السخاء لخوفه من الأكل من موارد رحيم الشحيحة. لكن باكنغهام استنبط من كرم رحيم "أن قدرته على التصرف كمضيف ربما ساعدته في إنقاذ إحساسه بالإنسانية وفاعليته في مواجهة العالم اللاإنساني". على الرغم من ذلك الإيثار في الضيافة هناك حد حتى في أكثر تقاليد الضيافة تفصيلا كما هو الحال في شبه الجزيرة العربية ومنغوليا، فإن الضيف عليه واجبات ليس فقط قبول الطعام والمأوى، ولكن أيضًا المُغادرة في الوقت المناسب وبالطريقة الصحيحة. المبادرة بالضيافة تكون دائمًا مصحوبة بالمخاطرة والثقة. ليس من قبيل المصادفة أن يتم ربط قوانين الضيافة في كثير من الأحيان بقواعد الشرف التي تدين أولئك الذين ينتهكونها بأقسى الأقدار. فعلى سبيل المثال ذكر باكنغهام قانون كانون Kanun الألباني الشمالي الذي مر عليه أكثر من 3000 عام، لكنه لا يزال هذا القانون يمارس سلطته إلى اليوم. يتطلب الشرف من المضيفين التخلي عن أسرتهم وأفضل طعام لأولئك الذين يزورونهم. وعندما يتم إهانة هذا الشرف، فإنه يؤدي إلى ثأر يمكن ملاحقته عبر الأجيال.

 

العيش مع الغرباء ليس بالأمر السهل. على الرغم من البهجة المصاحبة للعمل الجماعي والإلحاح على الضيافة الموصوفة بوضوح في هذا الكتاب، فإنه ليس مجرد أنشودة لمدح الناس ودعوتهم لتناول العشاء. الدماغ البشري تأقلم منذ العصور القديمة ليكون قادرًا حقًا على التعامل مع 150 شخصًا على أنهم "غير غرباء"، كأشخاص نعرفهم جيدًا ونرتبط بهم، فنحن نميل من الناحية التطورية إلى رؤية بقية العالم على أنه "الغريب الآخر"، والذي ربما يفسر الرعب والقسوة على وسائل التواصل الاجتماعي. على الرغم من جميع الملاحظات التحذيرية التي طرحها باكنغهام في كتابه حول صعوبات التعامل مع الغريب لم يتطرق حقًا الى الصعوبات المتعلقة بالاتصال عبر الإنترنت، المليئة بالكراهية ونداءات العنصرية من أشخاص غرباء إلى غرباء آخرين. في الجانب الآخر الكثيرون من مستخدمي الإنترنت على وسائل التواصل الاجتماعي يحاولون بشدة ردع الكراهية حتى لا يشعروا أن الإنترنت يبرز كراهية الأجانب أكثر من الفيلوكسينيا.

 العالم الحديث وبالأخص في المدن الضخمة يجبرنا على العيش جنبًا إلى جنب مع ملايين الأشخاص المجهولين. البشر بالفطرة على حد سواء لا يستحسنون الأجانب (xenophobic) وهذا يعني الخوف من الغرباء في هذه الحالة وليس الكراهية، ولكن كمخلوقات اجتماعية نحن أيضا (philoxenic) نحب الغرباء. على سبيل المثال المهرجانات الحديثة والقديمة سواءً تسمح للبشر الذين يخافون من بعضهم البعض فطريًا أن يستمتعوا مؤقتًا بمتعة فقدان أنفسهم وسط حشد من الأشخاص المجهولين. في نهاية الكتاب حاول باكنغهام التنبؤ بسلوكيات البشر مع الغرباء في المدن الضخمة في خضم تسارع التمدن بالأخص في الدول النامية في السنوات القادمة. باكنغهام طرح تساؤلات جوهرية حول أضخم مدينة في العالم قيد الإنشاء والتي تتباهى بها الصين. حيث قريباً ستندمج بكين وتيانجين وهيبي في تكتل كبير واحد يسمى جينجينجي يضم 100 مليون شخص، مدينة يبلغ عدد سكانها تقريبًا حجم فرنسا وإسبانيا معًا. ينهي باكنغهام كتابه ببعض الملاحظات الحزينة، فعلى الرغم من التعداد السكاني الضخم لجينجينجي تكهن باكنغهام أن معظم قاطني هذه المدينة سيعيشون في نسيج ضخم من الغرباء وسيعانون من وحدانية عميقة وصعوبة تكوين علاقات إيجابية.

 

تفاصيل الكتاب:

الكتاب: مرحبًا يا غريب: كيفية التواصل في عالم منقطع

الكاتب: ويل باكنغهام

عدد الصفحات: 293

لغة النشر: الإنجليزية

سنة النشر: 2021

أخبار ذات صلة