هيرفي مازوريل
سعيد بوكرامي
ماذا لو كان اللاوعي نفسه مجرد تاريخ منسي؟ لماذا أهمل المحللون النفسيون المحيط الاجتماعي والتاريخ الشخصي للإنسان؟ عندما وضع فرويد التحليل النفسي خارج السياق الاجتماعي، وخارج التاريخ، تركه محاصرًا في فرضية مُعيقة لا تتيح إمكانية اكتشاف مزيد من أسرار النفس البشرية ووجودها الفردي والجماعي. لقد تصرف كما لو أن بنية الشخصية التي لاحظها لدى مرضاه في فيينا خلال نهاية القرن التاسع عشر قد أثرت على الإنسان عامة وليس على ممثلي حقبة معينة أو ثقافة أو عالم اجتماعي محدد في الزمان والمكان.
يعتمد هذا الكتاب الهام على التاريخ العاطفي وعلم الاجتماع النفسي والأنثروبولوجيا النقدية، ليوضح كيف أن حياتنا النفسية العميقة موشومة بالتاريخ، إذ يقدم هيرفي مازوريل، المحاضر في التاريخ المعاصر في جامعة بورغون، مسارًا آخر أكثر إثارة في هذا العمل نتيجة عمله كمشرف على الأبحاث الأكاديمية. ولا يحتاج المرء للاقتناع بهذا الطرح سوى فحص عميق على المدى الطويل للتحولات البطيئة للداوفع المكبوحة وللرقابة العاطفية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالثورات الصامتة لأعرافنا، والتغيرات الباطنية في حياتنا العاطفية، والتحولات السرية في الرغبات والمحظورات. وبذلك يجب أنْ نستنتج أنَّ هناك مشاكل نفسية واجتماعية وعصابات طبقية تخص كل عصر. ثم التفكير بعد ذلك في التجدد الدائم للأوهام التي تتحرك من خلالها الكائنات الداخلية، والاختلافات الرمزية للأحلام، على غرار ما يحدث للخيال الجماعي وليس على النماذج العالمية العتيقة، أو حتى على الطفرات النفسية العاطفية الصامتة. (بما في ذلك عقدة أوديب) التي ترتهن بالتحولات الأسرية والعائلية والعلاقات بين الجنسين.
يدعو هذا العملُ التحليلَ النفسي وجميع العلوم النفسية إلى الأخذ بعين الاعتبار الديمومة الزمنية الطويلة من التاريخ التي شكلت اللاوعي الذي نحن عليه الآن. بالإضافة إلى ذلك، يبدو في السياق نفسه أن شيئاً واحداً مؤكداً وهو أنَّ الفصل بين الحياة النفسية والتاريخ الاجتماعي، دفعنا إلى إهمال طويل الأمد لحياتنا العاطفية والنفسية، في أكثر طبقاتها غورا وغموضًا، تلك الغارقة في الحياة الاجتماعية والتاريخية. منذ كتابات ميشيل دو سيرتو، واجه عدد قليل من المؤرخين السؤال الشائك المرتبط بالعلاقة بين التاريخ والتحليل النفسي. ويجدر القول أن الاستخدامات الأولى للتحليل النفسي من قبل المؤرخين - على سبيل المثال في عمل إيمانويل لو روي لادوري أو آلان بيزانسون – قد شهدت على الكبوات التي اعترضتهم عندما اعتمدوا في تأملاتهم على المفاهيم التحليلية، المتأرجحة بين مطبّات المفارقة التاريخية والتفسيرات النفسية.
يعتمد الكتاب في جانبه النظري على مجلد سابق أكثر تجريبية، والذي يتساءل، من خلاله غاسبار هاوزر، عن العمق التاريخي للفرد وعلاقته الحساسة بالعالم. في هذا العمل الأخير المؤلف من ستمائة صفحة تقريبًا، يفكك المؤلف الطابع اللاإرادي والشامل المزعوم للاوعي، بينما يعيد وصل الخيوط التي تربط التحليل النفسي بالعلوم الاجتماعية بشكل عام وبالتاريخ بشكل خاص. في وقت يتزايد فيه الجدل حول مُساهمة التحليل النفسي، والتاريخ وبذلك تحدد هذه العودة لمفاهيمه المركزية العديد من طرق البحث التي يمكن أن تنجم عن الحوار المتجدد بين المؤرخين والمحللين النفسيين. يبدأ مازوريل بالعودة بطريقة فيها الكثير من الإقناع إلى مقاومة التحليل النفسي لأي شكل من أشكال التأريخ. من المسلم به أن التطورات الأولى لنظرية فرويد كانت هدامة، حيث أدت إلى تفكيك نفوذ الأسرة أو الأخلاق في المجتمع الفيينيّ في نهاية القرن التاسع عشر. لكن هذا الإرث تلاشى بسرعة. إذ حجب المعالم الاجتماعية والسياسية التي تحيط الفرد لصالح مسرح نفسي خاص مفصّل فقط على مقاس النسيج العائلي (الفصل 1). من خلال الانضمام إلى ما طرحه عالم الاجتماع روبرت كاستل في الثمانينيات، يوضح هـ. مازوريل أن هذا العمى يمنع التحليل النفسي من مراعاة التحولات المعاصرة للفرد. بحيث يصبح تدريجيًا النظام محصورًا في الثوابت (أوديب، الإخصاء، إلخ) ومدعّما بنظرية التطور في القرن التاسع عشر (الفصل 4). تنعكس هذه المثالية الميتافيزيقية للفرد، والتي يمكن ربطها أيضًا بتأثير الكانطية في ذلك الوقت، بشكل خاص على المستوى النظري من خلال تجسيد الرغبة الجنسية على المستوى الاجتماعي: أثناء إعادة تعريف مسألة الجنسانية وإعادة توزيع حدود الطبيعي والمرضي، جمّد فرويد مسألة الرغبة وتمثيلاتها. وبات مصير النساء في النظرية الفرويدية مثالا معبرا، لأنه يقدمهن دائمًا كما لو أنهن المقابل السلبي للرجل، وعلى الرغم من أن المحللين النفسيين مثل ميلاني كلاين أو هيلين دوتش قد حاولوا تجديد هذه القراءة، فإن فلاسفة مثل بول. ب. بريكيادو. وقبله ميشيل فوكو أصروا على الطابع التاريخي والبطريركي لهذه التمثلات، كما أن المؤرخين أمثال جان بيير فيرنان قد ألحوا على أن الجنسانية والحساسيات العاطفية تستمر في التحول على مر القرون. ومع ذلك، فقد سمح لنا المنهج الفرويدي بإلقاء نظرة أولية على الأسئلة التي لم تكن آنئذ مرئية ومطروحة. وبعد فرويد، تضاعف عمل المؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا حول العلاقة العاطفية والعلاقات الأسرية. بعيدًا عن موضوعات الدراسة المكرورة، يُحدث التحليل النفسي تحولًا في تمثل الزمن: فهو لم يعد خطيًا، بل جاء بعدد كبير من الطبقات التي تتشكل على نحو متبادل تاركة مجموعة من الآثار التي يمكن الوصول إليها وتحليلها. إن المنهجية التي اقتبسها المحللون النفسيون وبعض التيارات التأريخية، التي تسعى وراء تفاصيل الحياة الإنسانية العادية ولكنها في الواقع في غاية الأهمية، وتشكل الكثير من الروابط بين التخصصيْن (الفصل 3).
إن الفصول التي تعيد ربط مسألة اللاوعي بمسألة الثقافة مفيدة على أكثر من صعيد. يبدأه. مازوريل بالعودة إلى هرمسية فرويد تجاه الأنثروبولوجيا كلها. هذا الاستدعاء المعروف لعالم الأنثروبولوجيا برونيسواف مالينوفسكي بخصوص عدم وجود أوديب بين سكان جزر تروبرياند يشهد على حرج فرويد – ومعه التحليل النفسي على نطاق أوسع - في تخليص نفسه من نماذج وأنماط الحياة في فيينا. يدافع جورج ديفيروكس، مؤسس التحليل النفسي العرقي، عن الاهتمام بالثقافة، بينما هو في الواقع يسعى فقط إلى إعادة اكتشاف التصورات الفرويدية التي تخفيها الأنماط الثقافية المختلفة (الفصل 12). تدريجيا تتعطل، مع التحليل النفسي، أهمية الثقافة. ومع ذلك، يعتبره ملزوريل أن "فكرة الثقافة يجب أن تظل مع ذلك أفقًا تنظيميًا" (ص 253) لفهم اللاوعي وتاريخيته يعتمد في أطروحاته على أعمال ألبان بنسا، أو كليفورد غيرتز، أو كارلو غينزبورغ أو مارشال ساهلينز، مستعيدا تعريف الثقافة على أنها شبكة من تحقق الهويات، التي تتطور باستمرار، يهيمن عليها الجانب النفسي (الفصل 7). وبالتالي فإنَّ كل مثال مستخدم هو فقط "حالة من بين الحالات كلها" (ص 255)، ومن هنا تأتي الحاجة إلى منهج شامل، خلافاً للسعي إلى وضع قوانين يفترض أنها غير ثابتة ومن شأنها أن تبسط مفهوم اللاوعي، ولا تمكننا من سبر أغواره والكشف عن آلياته.
وبذلك يمكن إخراج المرء من تصور لا تاريخي للفرد والذي عززه، بعد فرويد، التيار اللاكاني، الذي جاء بدوره نتيجة تأثير المنهج البنيوي مع ليفي شتراوس المقاوم لأي تأثير للظروف – وهنا يستدعي ويبين المؤلف في بضع صفحات إلى أي مدى رفض لاكان بشكل جذري كل أنواع التاريخانية (ص 530). وهكذا يقترح مازوريل إعادة صياغة مفهوم الشخصية من خلال حشد مُساهمات المؤرخين وعلماء الاجتماع الذين يولون أهمية للفرد. وفي هذا السياق يستدعي منجز نوربرت إلياس، الذي نجد ظلاله في معظم فصول الكتاب، ومعلوم أن نوربرت يعتبر القارئ المعاصر والمثابر لنظرية فرويد، كما ساهم في ربط معظم المفاهيم النفسية، بالإشكالات الحضارية المعاصرة. وأيضًا بتأكيد الطابع التاريخي للمشاعر الأكثر حميمية (الفصلين 5 و6). يذهب مازوريل إلى حد التساؤل عما إذا كان المفهوم الفرويدي للتسامي هو في النهاية ليس الاسم الآخر للمفهوم الاجتماعي للتنشئة الاجتماعية. أما الآخرون، مثل كورنيليوس كاستورياديس، وهو محلل نفسي أيضًا، لم يتوقفوا عن التشكيك في ثبات اللاوعي (الفصل 13). من خلال تفضيل فكرة التخيل على فكرة الرمزية . أما بالنسبة للمؤرخ ميشيل دو سيرتو، فمن المحتمل أنه أكثر من أشار بأكبر قدر من الاهتمام إلى مخاطر "النقل المشوه، دون بذل جهد في الترجمة، ودون العمل على إعادة بناء المفاهيم" التي تنتظر أولئك الذين يسعون "بأي ثمن إلى نمذجة أوديب، والأنا العليا والعقد الأخرى"(ص 72-73) من خلال مختلف الأزمنة والجغرافيات (الفصل 2). وفي سياق آخر حدد دو سيرتو عكس المحلل النفسي كارل يونغ، المخاطر التي يتعرض لها أولئك الذين يميلون إلى مطابقة الجانب النفسي للفرد بمجتمعه. ما يدعونا إليها مازوريل أن البحث عن تكوين جماعي غير واع ليس هو ما يثقل كاهل الفرد، ولكن أن نكون منتبهين للاضطرابات المعاشة في العصر والتي تعبر الفرد، بإحساس واقعي ولترسم الحدود تاريخيًا. يبرز ذلك حتى في لحظات "النوبات الحادة"، الأكثر عنفًا وصدمة، يجب أن تقود هذه "المناطق الغامضة والمظلمة من التاريخ" (ص 363) الباحثين إلى إعادة صياغة هذه الأحداث في اقتصاد نفسي معين، أشد تعقيدًا من الدوافع البسيطة، من أجل إعطاء معنى لهذه الحلقات وبالتالي فهم الإطار التاريخي الأساسي الكامن وراءه (الفصل 10).
وفي خاتمة الكتاب يبقى سؤال عالق: في أي اتجاه محدد يجب أن نسير من الآن فصاعدًا؟ يمكن أن يكون الجانب النظري للعمل الثريّ، أمرًا مثيرًا للقلق بزخمه المعرفي، على الرغم من أن الكتاب كان دائمًا ينحاز إلى منجز المؤرخين الباحثين عن المتواري والمنسي في لاوعي الإنسان الجماعي. توضح الصفحات الأخيرة من الكتاب بعض المسارات
الملموسة. إذ يقترح مازوريل، على سبيل المثال، تناول المادة التي يتركها المحلل النفسي مهملة أو منسية عن عمد، أو بدون قصد، ليس من أجل التأريخ للمعارف الممارسة على نطاق واسع حتما، ولكن من أجل العثور على الآثار التي تحتوي عليها والمتجسدة بعمق في الجانب الاجتماعي من الحياة اليومية للإنسان بأفراحها، وأتراحها، كي نجعل لخطوط التحليل النفسي مسارًا يؤرخ للأنظمة الاجتماعية والسياسية التي تشكل البنية العاطفية والنفسية وذلك وفق العصور والجغرافيات؛ إذ لا يمكن تصور أن نظريات علم النفس السالفة والحالية ستكون قادرة على مجابهة ومقاربة البينيات النفسية للأجيال القادمة بنفس المفاهيم والوسائل التحليلية.
في الختام لابد من التنويه بالعمل رغم تخففه من ببليوغرافيا نهائية كان من شأنها أن تشغل حيزا غير معقول من الكتاب، بينما كان وضع فهرس مفصل موضع ترحيب. بالإضافة إلى ذلك، كان غياب حوار معمق مع بعض الأعمال الغائبة عن الكتاب، على سبيل المثال أعمال أندراس زيمبيليني حول دور المجموعة في تشكيل الحالة المرضية، أو مؤخرًا، أعمال مايكل س روث التي تتعلق بمساحات الذاكرة وتأثيرها على الجانب النفسي للفرد. لكن ربما حجم العمل الكبير يسمح بغياب بعض الأسماء والأعمال. عموما يمكن اعتبار الكتاب من المؤلفات الجادة القادرة على رسم آفاق واعدة لمواجهة اللاوعي والتاريخ المنسي الذي حجّره التحليل النفسي تدريجيًا، ولا شك أن عمل هيرفي مازوريل يعد من الآن فصاعدا تقاطعا معرفيا مذهلا وموئلا مرجعيا لا غنى عنه لأي مهتم بالتحليل النفسي وعلاقته الجدلية بالتاريخ.
تفاصيل الكتاب:
عنوان الكتاب: اللاوعي أو التاريخ المنسي: أعماق وتحولات وثورات الحياة العاطفية.
المؤلف: هيرفي مازوريل
الناشر: لا ديكوفيرت، "كتابات التاريخ". فرنسا
سنة النشر: 2021
عدد الصفحات:590 ص
اللغة: الفرنسية.
