إيزابيلا ويبر
محمد السالمي
تسارعت وتيرة اندماج الصين بشكل كبير في الاقتصاد العالمي دون اللجوء إلى استيعاب الليبرالية الغربية. تكشف إيزابيلا ويبر في هذا الكتاب "كيف أفلتت الصين من العلاج بالصدمة" عن المنافسة الشرسة حول الإصلاحات الاقتصادية التي شكلت مسار الصين. ففي العقد الأول من بعد ماو، كان الإصلاحيون في الصين منقسمين بشدة، بشأن كيفية إصلاح الصين لنظامها الاقتصادي. هل ينبغي للصين أن تُدمر جوهر النظام الاشتراكي من خلال العلاج بالصدمة، أم ينبغي أن تستخدم المؤسسات الاقتصادية لقيادة التحول؟. واستنادًا إلى أبحاث مكثفة، بما في ذلك مقابلات مع خبراء صينيين ومسؤولين بالبنك الدولي، يرسم الكتاب المسار الذي مكّن الصين في النهاية من التوسع الاقتصادي، وكذلك البناء التدريجي لهذه القاعدة الاقتصادية. كما يكشف الكتاب الأسس الفكرية للعلاقات بين الدولة والسوق في حقبة الإصلاح في الصين.
وللتعريف بالمؤلفة، تعمل إيزابيلا أستاذة في الاقتصاد بجامعة ماساتشوستس أمهيرست. كما تعمل كخبيرة اقتصادية في برنامج الاقتصاد السياسي الآسيوي التابع لمعهد الاقتصاد السياسي لنفس الجامعة. تتنوع أعمال المؤلفة في قضايا الصين والتجارة العالمية وتاريخ الفكر الاقتصادي. حاز الكتاب على استحسان النقاد وتم تضمينه في قائمة الفايننشال تايمز. بالإضافة إلى فوز الكتاب بجائزة جوان روبنسون لعام 2021 الممنوحة من الجمعية الأوروبية للاقتصاد السياسي.
تستكشف إيزابيلا الخلافات وراء مسار الصين للإصلاح الاقتصادي، وتوضح كيف التزمت بالتدرج التجريبي بدلاً من العلاج بالصدمة للتحرير الفوري للسوق. يلقي هذا الكتاب الدقيق والواسع النطاق الضوء على تاريخ إصلاحات السوق في الصين والعوامل التي دفعتها للهروب من العلاج بالصدمة. ويقصد بالعلاج بالصدمة حزمة من السياسات الاقتصادية يمكن صياغتها في أربعة عناصر. أولاً، تحرير الأسعار والخروج من تثبيت سعر الصرف. العنصر الثاني يتمثل في التقشف الاقتصادي أي السياسة النقدية الصارمة وفرض القيود المالية. ثم يأتي عنصر تحرير التجارة والخصخصة.
كان النمو الاقتصادي في الصين لافتاً للنظر. بدأت القصة في أوائل الثمانينيات، حيث عمدت الحكومة الصينية إلى سياسة الإصلاح والانفتاح لإعادة رسم الاقتصاد الاشتراكي. لم تكن الصين الدولة الوحيدة ولا الأولى التي أطلقت مشروع إصلاح السوق، لكنها كانت الأكثر نجاحًا بين الدول الاشتراكية. ماهي العوامل التي أدت إلى عزوف الصين عن هذا الإصلاح الضخم بينما اختارت دول اشتراكية أوروبية أخرى العلاج بالصدمة وواجهت فوضى اقتصادية وفشلاً مستمرًا؟.
توضح المؤلفة أن الأسواق لا تحدث بشكل طبيعي، ويجب بناؤها وإدارتها بعناية، وتكون أداة للدولة لتطوير اقتصاد حديث ولتلبية الاحتياجات الشعبية. ومن المعلوم أنَّ الصين مندمجة بشكل كبير في الرأسمالية العالمية ولكن ليس بالطرق التي يفضلها الغربيون.
يأتي الجزء الأول من الكتاب بعنوان "طرق إنشاء السوق وتنظيم الأسعار" حيث يتطرق في فصوله للدروس الكلاسيكية الصينية للفيلسوف كوان تشونغ، والخبرة السابقة للتحكم في الأسعار وإلغاء القيود في الدول الغربية والممارسات الملموسة للكوادر الشيوعية التي تهدف إلى إدارة الاقتصاد.
في حقبة الإصلاح، كان الاقتصاديون الصينيون وغيرهم على دراية بالمناقشات الاقتصادية في الصين القديمة. حيث إن القادة الصينيين منذ قرون وهم يناقشون كيفية إدارة مؤسسات الدولة وخاصة عند الانتقال من الحرب إلى السلام، ومشكلات شرعية النظام في أعين الناس، وإدارة أسعار السلع والخدمات الأساسية التي من شأنها أن تُعزز من التحول التدريجي مقابل التحول المُباشر.
ففي تعاليم الفيلسوف كوان تشونغ حول كيفية إدارة الدولة، يشير إلى أن المسؤولين في الدولة يجب أن يتحكموا في ما هو مهم وضروري من أجل حياة الناس والاستقرار الاجتماعي، وترك ما هو هامشي وغير مهم. كان طموح كوان تشونغ الأصلي هو توضيح كيفية تعزيز القدرة على توسيع واستخدام الموارد حتى يتمكن الملوك من التغلب على المنافسين عند الحرب. ولذلك، كانت كيفية تحقيق الازدهار والعمل المستقر للمجتمع أمرًا محوريًا لدى كوان. وبالتالي، وفي السلالات الإمبراطورية اللاحقة، تم تحويل الدروس المجردة إلى مُمارسات ملموسة، مثل احتكار الملح والحديد، ونظام صوامع الحبوب المستخدم لتسوية أسعار الحبوب، وما إلى ذلك. أحد المنطلقات المهمة التي حددها كوان هو أن الاستقرار السياسي يحظى بالأولوية حتى على حساب الحرية الاقتصادية. على سبيل المثال، يمكن للتقلبات الكبيرة في الأسعار أن تؤدي إلى اضطراب اجتماعي، والذي بدوره سيعرض الشرعية السياسية للخطر. ومن هذا المنطلق، يجب على السياسيين الحكماء بذل قصارى جهدهم لتجنب مثل هذه المواقف المحرجة. وتشير إيزابيلا إلى أن هذه المعرفة أصبحت نوعًا من الغريزة التي توجه كيف يتخذ أباطرة الصين القدامى والسياسيون المعاصرون القرارات. من المسلم به بشكل متزايد أن الصين الحالية تشترك في الكثير من الاستمرارية مع ماضيها فيما يتعلق بالبنية المجتمعية والأيديولوجية السياسية. تأثرت ممارسات الكوادر الشيوعية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي بالحكمة الكلاسيكية أيضًا.
من بين الأسئلة التي أثيرت بشكل مباشر خلال الكتاب حول كيفية التفكير إصلاح الاقتصاد الصيني في أواخر السبعينيات وحتى الثمانينيات. لم تكن القضية في ذلك الوقت هي ما إذا كان الاقتصاد الصيني بحاجة إلى إصلاح في الاتجاهات الرأسمالية والذهاب نحو السوق الحر، بل كانت عن كيفية القيام بذلك لرفع مستوى الاستقرار السياسي والتقليل من الاضطرابات الجماهيرية ، وتعظيم شرعية النظام، وانتشال الملايين من الفقر والجوع وخاصة في الريف. وهذا ما يقودنا للجزء الثاني حيث تناقش المؤلفة في فصوله قضايا ضبط الأسعار في الاقتصاد الماوي، وتأهيل السوق بين النظرية والتطبيق، والهروب من العلاج بالصدمة.
مثل الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية، أنشأت الصين أيضًا الاقتصاد الستاليني المخطط الذي كانت فيه الأسعار تخضع لرقابة صارمة من قبل الحكومة، وتم تنظيم الإنتاج والتوزيع من خلال لجان التخطيط. وبحلول أواخر السبعينيات، فشلت الصين في تحسين مستويات معيشة الناس أو الوفاء بوعد الاشتراكية المجيدة. وبعد وفاة الزعيم ماو، بدأ السياسيون في محاولة إلغاء القيود والبدء في التصنيع الموجه نحو الغرب. وفي أوائل الثمانينيات، تم لفت الانتباه إلى تحرير الأسعار الذي كان يُعتقد أنه جوهر إصلاح السوق. ومع ذلك، كان هناك القليل من الإجماع بين السياسيين حول كيفية تحرير آلية السعر. اعترفت الحكومة بحذر حول وجود الأسواق السوداء وتداول السلع على نطاق ضيق خارج آلية التخطيط؛حيث انتشرت الأسواق في هوامش كبيرة، وأصبحت أساس نظام المسار المزدوج. ومن خلال نظام المسار المزدوج، دخلت الصين تدريجياً في تحرير الأسعار. ومن ناحية أخرى، فإنَّ الوحدات الإنتاجية، مثل المصانع المملوكة للدولة والأسر الريفية، فإنها ملزمة بالوفاء بالإنتاج الإجباري الخاضع لاستخراج الحكومة أو فرض الضرائب. ومع تحقيق الإنتاج الإجباري، يمكن لهذه الوحدات الاستفادة من قدرتها الإضافية لإنتاج المزيد من السلع للتداول الحر الذي تسود فيه آلية السعر.
خلال الثمانينيات، تم التوصل إلى إجماع على أن الإصلاح ضروري ويجب أن يحدث، واستمر السجال حول النهج الأفضل، هل الإصلاح الشامل أم التدريجي. تقدم المؤلفة خريطة معرفية مفصلة من تلك المناقشات الفكرية التي يمكننا من خلالها العثور على أدلة حول سبب "هروب الصين من العلاج بالصدمة". ففي أوائل الثمانينيات، جاء اقتصاديون من أوروبا الشرقية والغرب لزيارة الصين وإلقاء محاضرات فيها. لكن صانعي القرار الصينيين لم يأخذوا نصيحتهم، على الرغم من أن بعض المثقفين الصينيين الشباب قد تم تبشيرهم بحزمة الإصلاح التي اقترحها الاقتصاديون الأجانب.
وفي وقت لاحق أفلتت الصين من العلاج بالصدمة مرتين. ففي عام 1988م، مارست الحكومة الصينية عملية تحرير للأسعار، لكنها أدت إلى تضخم مفرط، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ جمهورية الصين الشعبية، ثم عدم الاستقرار الاجتماعي. وسرعان ما تم إنهاء تحرر الأسعار ، وأعيد فرض الرقابة الصارمة.
ولكن لماذا كان النهج التدريجي مفضلًا في الثمانينيات من القرن الماضي؟ يكمن مفتاح الإجابة على هذا السؤال في حقيقة أن صانعي القرار الصينيين أدركوا النتيجة المحفوفة بالمخاطر المحتملة لتغيير جذري، وأنهم أعطوا الأولوية للاستقرار الاجتماعي قبل كل شيء. كانت لدى صناع القرار الصينيين مخاوف عميقة بشأن التضخم وعدم الاستقرار الاجتماعي الذي كان بمثابة كابوس. وقد نجحوا عدة مرات في إجهاض مخططات أولئك الذين أرادوا أن يحدث تحرير أسرع للأسعار. وفي ظل هذه الظروف، تم التوصل إلى حل وسط مع شرط مسبق للاستقرار الاجتماعي، حيث سُمح لآلية أسعار محدودة بالتدخل تدريجيًا. كما يجب على الحكومة السيطرة على ما هو ضروري لحياة الناس اليومية حتى يمكن تجنب الاضطرابات الاجتماعية. وينبع هذا المنطق السياسي من الحكمة الكلاسيكية الصينية التي من خلالها أعطى السياسيون الأولوية للاستقرار الاجتماعي وشددوا على السلوكيات البراغماتية، وهذا ما دعا اليه كوان تشونغ قبل 2000 عام. وبالتالي، لم تقنع المناقشات في الثمانينيات صانعي القرار الصينيين بفوائد العلاج بالصدمة، لكنها كشفت المخاطر المحتملة لمثل هذا الإصلاح. كما أخبرهم المنطق السياسي الذي تم اختباره منذ فترة طويلة بتجنب الأعمال التي قد تعرض الاستقرار للخطر. ومن النهج التدريجي نمت آلية السوق في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وفي الختام، يمكننا القول أنه لا يوجد مخطط واحد للتنمية يمكننا نشره في جميع أنحاء العالم من شأنه أن يحل مشكلة التنمية. ما يستحق التأمل في الكتاب أن حالة تطور الصين تستحق الدراسة، ومن شأن دول العالم الثالث تطوير نموذجها الخاص بما يتماشى مع تاريخها ومقوماتها الطبيعية.
يقدم الكتاب تحليلاً رصينًا للنضالات الفكرية والسياسية التي حدثت وغيرت الصين ، وتداعياتها العالمية. إنه يوفر رؤى أساسية حول كيفية عمل الصين ويوضح بمهارة أن الليبرالية الغربية ليست الأيديلوجيا الوحيدة في العالم. ما قدمته إيبزبيلا ليس مجرد أطروحة اقتصادية، ولكن يأخذ الكتاب للجوهر التاريخي والاجتماعي والسياسي الذي صنع الصين المعاصرة. هذا الكتاب يجب أن يقرأه أي شخص مهتم بتاريخ الإصلاحات الاقتصادية في الصين.
تفاصيل الكتاب:
اسم الكتاب: كيف أفلتت الصين من العلاج بالصدمة
المؤلفة: Isabella M. Weber
الناشر: Routledge
سنة النشر: 2021
اللغة: الإنجليزية
عدد الصفحات: 358
