أندرو فيليبس وجي سي شارمان
محمد السالمي
منذ أوائل القرن السابع عشر، سعت القوى الأوروبية إلى توسيع مجالات نفوذها من خلال السيطرة على الموارد خارج الحدود الأوروبية وذلك لمواجهة التحديات الجيوسياسية والعسكرية المتزايدة، إضافة إلى تعظيم الثروة. لم يكن لدى الحكام الأوروبيين الوسائل المؤسسية التي يمكنهم من خلالها توسيع سلطتهم عبر القارات، مما دفع لإنشاء شركات تعهيد سيادية عابرة للقارات. وتعد هذه الخطوة لبنة الأساس في بناء أول نظام دولي حقيقي في العالم. بعيدا عن الربح، تمتلك هذه الشركات مواثيق مؤسسية تمنحها سلطات سيادية للحرب والسلام والحكم ويمكن اختصارها بالاستعمار. لقد أقامت شركات مثل الهند الشرقية الإنجليزية والهولندية إمبراطوريات في آسيا، بينما دفعت دول أخرى للتوسع لأمريكا الشمالية وإفريقيا وجنوب المحيط الهادئ. في هذا الكتاب المميز، يشرح كل من أندرو فيليبس وجي سي شارمان صعود وسقوط هذه الشركات السيادية، ولماذا نجح البعض بينما فشل البعض الآخر، ودورها كطليعة للرأسمالية والإمبريالية.
وللتعريف بمؤلفي الكتاب، فإن أندرو فيليبس هو أستاذ مشارك في العلاقات الدولية والاستراتيجية بجامعة كوينزلاند، وهو مؤلف كتاب "الحرب والدين والإمبراطورية". في المقابل، جي سي شارمان هو أستاذ العلاقات الدولية بجامعة كامبريدج، من أبرز أعماله كتاب "إمبراطوريات الضعفاء" و"دليل المستبد لإدارة الثروات".
يغطي فيليبس وشارمان صعود الشركات التعهيد السيادية في المحيط الهندي والأطلسي، وكذلك سقوطها. وتتمثل الفرضية الأساسية للكتاب في أن الحكومات الأوروبية سعت إلى إنشاء وتوسيع إمبراطورياتها، وذلك من خلال إصدار مواثيق لشركات التعهيد مما يمنحها امتيازات استثنائية وذلك من أجل جذب كميات هائلة من الاستثمارات طويلة الأجل. ولا ريب أن هذه الشركات كانت بارزة في ابتكاراتها سواء في مجال التمويل، أو شكل الملكية المشتركة، أو مفهوم المسؤولية المحدودة، وكذلك مجالس الإدارة. بالإضافة إلى ذلك، تم منحها حقوقا تجارية احتكارية. إن شركات مثل الهند الشرقية الهولندية والإنجليزية قد تمتعت بنجاح مبكر لعدة أسباب. أولها، أنها كانت قادرة على إبعاد نفسها عن الحروب في أوروبا، ويرجع ذلك بسبب استقلاليتها وبعدها عن مركز الأحداث. ثانيًا، كانت قادرة على معالجة المشاكل البيروقراطية المتوطنة في الإدارة الحكومية، مثل مشكلة الوكيل، إضافة إلى القدرة الداخلية على تنظيم العنف. كما أن الطبيعة الهجينة لشركات التعهيد السيادية (المؤسسات شبه العامة وشبه الخاصة)، سمحت للمسؤولين بإبرام مجموعة متنوعة من الصفقات مع الأنظمة السياسية المحلية. في حين يرى المؤلفان أن ملوك أوروبا لن يخضعوا أبدًا، ولو بشكل رمزي، للزعماء القبليين في إفريقيا وآسيا للوصول إلى تجارة التوابل أو امتيازات التعدين، ولم تواجه شركات التعهيد مثل هذه المشكلة، حيث تنطلق بحافز تعظيم الأرباح.
لاحظ المؤلفان أن شكل المساهمة بين الدولة وهيكل الشركة ذات المسؤولية المحدودة من السمات التي سمحت باستثمار مبالغ كبيرة من رأس المال في مشاريع خارجية محفوفة بالمخاطر. كما أن فصل شركات التعهيد بين الملكية والإدارة حفز القائمين على إعطاء الأولوية للنمو طويل المدى مقابل الربحية على المدى القصير. حافظت شركة هودسن باي، والتي تتمتع بصفة احتكارية على تجارة الفراء في المحيط الأطلسي، وعلى وجود مؤسسي مستمر من القرن السابع عشر حتى اليوم. وقد أعطى هذا الهيكل المؤسسي إلى جانب ميثاق الاحتكار المدعوم من الحكومة شركات التعهيد ميزة تنافسية هائلة مقابل التجار الآخرين.
كانت خطوط التجارة بين أوروبا وآسيا لها جاذبية خاصة في ذلك الوقت. ومع ذلك، أدت تكاليف الاتصالات والنقل المرتفعة إلى ظهور عدد لا يحصى من مشاكل الوكيل الرئيسي. حيث استغل الكثير من الوكلاء التجاريين، الذين كانوا بعيدين عن المسؤولين في أوروبا، الوضع للانخراط في مساعيهم التجارية الخاصة وتجاهل تعليمات أصحاب العمل. ولحل هذه المشاكل، استخدمت شركات التعهيد آليات مؤسسية لمواءمة حوافز أصحاب العمل وحوافز موظفيهم البعيدين. وقد نظم الحكام الأوروبيون احتكارات تجارية طويلة الأجل من خلال ميثاق ملكي وسع سلطاتهم السياسية وسن القوانين والحرب إلى عملائهم. وقد أعطى الحكام الجهات الفاعلة غير الحكومية امتيازات قسرية مقابل رأس المال المكتسب من التوسع التجاري.
كما أدارت شركات التعهيد السيادية قواتها المسلحة وشاركت في الحرب وإبرام المعاهدات. وقام البعض أيضًا بسك عملتهم الخاصة وإدارة العدالة المدنية والجنائية داخل أراضيهم.
يلخص المؤلفان نجاح شركات التعهيد السيادية بأنها مؤسسة قادرة على تمويل وتنسيق وإنشاء وإدارة الاحتكارات التجارية العسكرية على نطاق عابر للمحيطات. أدت هذه الخصائص، إلى جانب المناخ الجيوسياسي في ذلك الوقت، إلى نجاح هذه المؤسسات المبكرة. إن تاريخ هذه الشركات هو توازن بين القوة والربح، والتكلفة النهائية للحفاظ على قوتها المتنامية. طوال مناقشة صعود وسقوط شركات التعهيد، برز عاملان مهمان في صعود هذه الشركات. أولاً ، تم تشكيل هذه الشركات في أماكن وأوقات محددة لحل مشاكل مؤسسية معينة، لذلك استمرت بعض عناصرها، بينما أصبح البعض الآخر قديمًا. ثانيًا، أسهمت هذه الشركات في تعزيز العلاقات بين الثقافات حول العالم.
بعد النجاح الأولي لشركات الهند الشرقية الهولندية والإنجليزية، تم تعزيز شكل شركات التعهيد السيادية في جميع أنحاء أوروبا وإرسالها إلى جميع أنحاء العالم. في المقابل، كانت الشركات الجديدة من هذا النوع أقل نجاحًا، سواء في تراكم القوة أو تعظيم الثروة الاقتصادية. وفي النهاية ، جاء سقوط شركات التعهيد السيادية بسبب صعوبة موازنة القوة والأرباح. بالنسبة للمشاريع التي ركزت حصريًا على الربح من خلال تجنب التكاليف العسكرية، فقد تم إزاحتها جانبًا من قبل خصومها الأقوياء. ومن جهة الشركات التي ركزت بشكل أكبر على السلطة، فإن تكاليف الحفاظ على القلاع والجيوش التهمت عائداتها، مما أدى في النهاية إلى الإفلاس المالي. وفي كثير من الأحيان، لجأ بعض هذه الشركات إلى الحكومة الراعية لإنقاذها، مقابل فقدان استقلاليتها وشخصيتها شبه الحكومية. ومع فقدان الاستقلالية، غالبًا ما يتم خرطها في حروب أوروبية مكلفة، والتي تجنبوها بحكمة في الأوقات السابقة، الأمر الذي أدى إلى إرهاق الميزانيات العمومية بتكاليف عالية ، وإعاقتها في نهاية المطاف بالكثير من الديون. هناك استثناءان بارزان هما شركة الهند الشرقية الإنجليزية، التي أصبحت قوية للغاية من حيث القوة والمال لدرجة أن البرلمان البريطاني طالب بتأميمها، وشركة هيدسون باي، التي باعت امتيازاتها السيادية إلى الحكومة البريطانية بعد تعرضها لانتقادات بسبب عدم استعمار كندا بشكل كافٍ، ولكنها لاتزال باقية كشركة حتى يومنا هذا.
يشير فيليبس وشارمان إلى أنه بعيدًا عن الهيمنة، لم يكن بوسع الشركات في معظم الوقت العمل إلا من خلال معاناة الحكام المحليين. حيث كان بإمكان المغول طرد البريطانيين من الهند في أي وقت قبل حوالي منتصف القرن الثامن عشر. وفي الواقع، كان تراجع المغول هو الذي أجبر شركة الهند الشرقية على السيطرة على المنطقة المهمة، وهو الشيء الذي تجنبته بسبب التكاليف الباهظة التي ينطوي عليها ذلك. وفي سياق الأمريكيتين كان بإمكان الشركاء التجاريين من السكان الأصليين لشركة هودسون باي طردهم بسهولة من أمريكا الشمالية ولكنهم لم يفعلوا ذلك، فالفوائد قصيرة المدى لوجودهم تفوق الاعتبارات الإستراتيجية طويلة المدى.
من أكثر الأمور المثيرة للجدل في الكتاب، أن فيليبس وشارمان يعتقدان أن التفوق العسكري الغربي لم يكن القوة الدافعة للتوسع الأوروبي؛ حيث حفزت طبيعة الهيكل المؤسسي لشركات التعهيد السيادية على التعاون مع الشعوب الأصلية، وهو ما يتعارض مع الصورة المرسومة في العديد من الروايات حول هذه اللقاءات الحديثة المبكرة بين الثقافات. لاحظ فيليبس وشارمان أن مديري هذه الشركات سعوا إلى خفض التكاليف العسكرية والإدارية إلى أدنى حد حيثما أمكن ذلك. وبالنظر إلى هذه القيود، اعتمدت هذه الشركات على البراعة الدبلوماسية بدلا من البراعة العسكرية للفوز بالحلفاء المحليين. على سبيل المثال، تعلمت شركة الهند الشرقية الهولندية، المعروفة بوحشيتها، المفردات المحلية والتسلسلات الهرمية المحلية المحترمة في المجتمع. وقد حفزها الدافع الربحي على التعاون مع الأباطرة الآسيويين من أجل الحصول على المكانة والهيبة. وقد سمح رأس المال المعرفي والثقافي بإجراء الصفقات التجارية مع المسؤولين المحليين.
يقدم الكتاب تاريخا شاملا للبيئة التي مهدت لصعود وهبوط شركات التعهيد السيادية. ويشير المؤلفان، أن ظهور نظام عالمي من القانون الدولي الوضعي من أبرز القوى التي أدت إلى سقوط هذه الشركات. لسنين طويلة، قامت شركات التعهيد بترسيخ ترتيبات فريدة مع القادة المحليين والتجار في جميع أنحاء العالم من أجل زيادة سهولة ممارسة الأعمال التجارية. كانوا معروفين بأخذهم في الاعتبار عادات السكان الأصليين والتقاليد المحلية. وقد أدى ظهور القانون الدولي الوضعي إلى القضاء على هذه الترتيبات المخصصة بين الشركات والقادة المحليين. حيث لاحظ المؤلفان أن هذا النظام القانوني الجديد، لم يسمح بأي تنازلات ذات مغزى لعادات السكان الأصليين ومفاهيم الشرعية من النوع الذي دعم في السابق الصفقات المحلية بين الشركات والدول. في ظل هذا النظام العالمي، كان هناك أيضا تعصب متزايد للمؤسسات التي عكست الفجوة بين القطاعين العام والخاص. كما ساهمت صياغة علم الاقتصاد السياسي في تدهور شركات التعهيد، وبدأ الاقتصاديون السياسيون في شجب الفساد المرتبط بالاحتكارات لصالح اقتصاد يركز على التبادل الطوعي بين الفاعلين العقلانيين الفرديين.
يقدم الكتاب إضافة رائعة في الأدبيات المتعلقة بتفاعل الغرب وبقية العالم بعد الثورة الاستعمارية الأوروبية في آسيا والأمريكيتين؛ حيث يستفيض الكتاب في الدور الحاسم الذي تلعبه شركات التعهيد السيادية في إدارة العلاقات بين الثقافات في جميع أنحاء العالم. ومن المغري رؤية التناسخات الحديثة لشركات التعهيد السيادية في بعض الشركات متعددة الجنسيات الحديثة وكذلك الشركات الكبرى المملوكة للدول. وكما نرى، فالشركات الكبرى في قطاعات الغذاء والطاقة إلى التكنولوجيا اليوم، ظلت ولا تزال مندمجة مع سياسة الدولة.
تفاصيل الكتاب:
اسم الكتاب: إمبراطورية التعهيد: كيف صنعت الشركات السيادية العالم الحديث
المؤلف: J C Sharman , Andrew Phillips
الناشر: Princeton University Press
سنة النشر: 2020
عدد الصفحات: 272 صفحة
اللغة: الإنجليزية
