الأخلاقيات الفكرية: علم معرفة الفضائل

الأخلاقيات الفكرية.jpg

روجي بويفي

محمد الشيخ

وكأنه نبي ضيعة قومه، يتقدم الفيلسوف الفرنسي المعاصر روجي بويفي (1958-   ) ـ المتخصص في علم معرفة الاعتقاد وفي فلسفة الجماليات، والمنتمي إلى التقليد الأنجلوسكسوني في عقر دار التقليد القاري تبكيتا على قومه وتغريدا خارج السرب ـ يتقدم عاري القدمين لكي يتهم الحياة الفكرية الفرنسية ـ من الناحية الأخلاقية ـ بتهمتين ثقيلتين: الافتراء والهراء. وكأنه الحكيم الإغريقي أفلاطون بين قوم من السوفسطائيين، يمشي روجي بويفي حافي القدمين ضد من يُسميهم باسم "سوفسطائيي اليوم" من المفترين والهرائيين. 

ينضوي هذا الكتاب بين دفتيه على نقد مر لاذع للحياة الفكرية الفرنسية، وعلى نبز شديد للمثقفين الفرنسيين الذي يعيب عليهم المؤلف "افتراءاتهم" و"هراءاتهم" بعد أن حوّلوا هم "الحق" إلى مجرد "بناء اجتماعي يبنى" باسم التفكيك ـ في غمز ضد دريدا وأتباعه من أهل ما بعد الحداثة ـ "بناء" يتأدى إلى "عدمية جذرية" لا تؤمن بالحق، بل تؤكد أن الحق محض وهم ـ في تلميح إلى أنصار نيتشه مما بعد الحداثيين ـ معلناً عن نشوء فكر ينعدم فيه الخُلُق. 

كان قد حكى ابن حزم الأندلسي ذات مرة حكاية، فقال: "ناظرتُ رجلا من أصحابنا في مسألة؛ فعلوته فيها لبكوء كان في لسانه، وانفصل المجلس على أني ظاهر، فلما أتيت منزلي حاك في نفسي منها شيء، فتطلبتها في بعض الكتب، فوجدت برهاناً صحيحاً يبين بطلان قولي وصحة قول خصمي، وكان معي أحد أصحابنا ممن شهد ذلك المجلس؛ فعرّفته بذلك، ثم رآني قد علّمت على المكان من الكتاب، فقال لي: ما تُريد؟ فقلت: أريد حمل هذا الكتاب وعرضه على فلان، وإعلامه بأنَّه المحق، وأني كنت المبطل، وأني راجع إلى قوله. فهجم عليه من ذلك أمر مبهت، وقال لي: وتسمح نفسك بهذا؟! فقلت له: نعم، ولو أمكنني ذلك في وقتي هذا لما أخّرته إلى غد". تُرى، ما الذي حرّك ابن حزم إلى الاعتراف بخطيئته وقد انتصر على خصمه باللجوء إلى آليات المناظرة؟ والجواب: حَرَّكَهُ إلى ذلك طلب الفضيلة المعرفية. وهذه الفضيلة المعرفية هي ما عاد بويفي لينبه إليه في كتابه هذا الذي بين أيدينا. والكتاب، برمته، يدور على فكرة أساس: إظهار أن الحياة الفكرية ما كانت مجرد مسألة معايير (قواعد منهجية وآليات حجاجية)، وإنما هي قضية قيم (محبة معرفة، وفاء للحقيقة، شغف بالإنصاف). ومن تم ما كان العلم الذي يتولى تقويم المعرفة ـ وهو المعروف باسم: الإبستمولوجيا ـ بمعرفة تقنية وصنعية بالبحث في مدى تسويغنا لما نعتقد أنه الحق، وإنما حقيقة الإبستمولوجيا أنها مبحث أخلاقي (آدابي) خاص بتقويم الحياة الفكرية التي تُحيى في الأوساط العلمية والأكاديمية والجامعية ... وهو مبحث أخلاقي يتعلق بالفضائل وضديدته الرذائل لا في مجال الأفعال والسلوكات، وإنما بالأساس في مجال الاعتقادات والمعارف. إذ المهم في الحياة الفكرية هو من نحن وليس ما الذي نفعله: أنحن أناس فضلاء معرفيا أم لا؟ وما كان هو ذاك الكم الهائل من "الحُجَج" ومن "الشُّبَهِ" التي نحشدها للدفاع عن افتراء معرفي أو هراء نعلم في قرارة أنفسنا أنه كذلك. إنما الفضائل الفكرية والخلقية هي طرق كينونة شخص معين بحسبانه كائنا عاقلا. وما كانت الحياة الفكرية "طَيِّبَةً" اللهم إلا بانجذابنا إلى "الخيرات المعرفية" ـ الحق، المعرفة، العاقلية ـ وذلك بمعنى أن الأصل في الباحث أن يكون مشغوفا عاشق محبا ولِهاً متعلقا بما يملك أكبر قيمة: الحق. 

عمليا، يعتبر المؤلف أن الحياة الفكرية الفرنسية ـ وما كانت وحدها ولا ينبغي لها أن تكون ـ باتت صيدا سهلا ونُهْزَة مستسهلة لرذيلتين معرفيتين خلقيتين ـ الافتراء والهراء ـ أمسيتا تَصِمان المثقف والأستاذ والصحافي والكاتب ومنشط برامج الإذاعة والتلفزة والناقد الفني والمعلق والقس والواعظ، لكنها أيضا باتت توجد لدى العالِم أكان من علماء العلوم الطبيعية أم من علماء العلوم الإنسانية والاجتماعية ـ فكل هؤلاء، في نظر المؤلف، الذين يتعيشون بالفكر والخطاب ونقل المعتقدات والمعارف صاروا عُرْضَةً لفساد في الفكر، بدي أم خفي، لازم لهم ومتعد إلى غيرهم. إذ ما بقي انعدام الخلق يخص الحياة العملية وحدها، بل بات منتشرا في الحياة النظرية الفكرية. 

وهكذا، ينطلق المؤلف من واقع الحال. وهو عالم الأفكار التي نتلقاها على مدار اليوم: ما نلتقطه من الجرائد، ما نسمعه أو نشاهده في برامج الإذاعة والتلفزة، ما نطلع عليه في مواقع الإنترنت، وما نتعلمه في الجامعة بمجلاتها وندواتها ومحاضراتها وتكويناتها. تُرى، هل تحضر في كل هذا قيم فكرية تَنِمُّ عن الإنسان العاقل؟ هل نحن فضلاء في معارفنا من الناحية الخلقية؟ وهل نرغب حقا في أن نكون كذلك؟ تلك هي القضية. لكن، دعنا نتساءل بداية: وماذا لو كان نظامنا التربوي يساعد، بالضد، على الخطابة الفارغة والقناعة استناداً إلى المعرفة الباطلة والألاعيب الفكرية والرذائل المعرفية؛ بما يشي عن احتقار الفضائل المعرفية، وذلك بتصيير الافتراء والهراء مؤسسة قائمة الأركان؟ أَوَ ليس دور التربية تثقيف النشء بالقيم الخلقية الضرورية للحياة الفكرية، لدى الأساتذة والطلاب والتلامذة سواء بسواء؛ وذلك بألا تصير هي مجرد "ترويض" و"استيلاف" و"سوس" لبهائم عالمة حسب قواعد اجتماعية معينة؟   

 

معنى الأخلاق وإشكالية الكتاب

يعرّف روجي بويفي "الأخلاق" Ethics على أنها ما تعلَّق بما نأتيه ـ أي بأفعالنا ـ إذ شأن الأفعال أن تقوَّم بالقول: هذا فعل محمود، وذاك فعل مذموم. على أنه في هذا الكتاب لا يتعلق الأمر بالأفعال وإنما بالاعتقادات. وتتعلق الأخلاق هنا بالنظر في اعتقاداتنا: تُرى، هل يمكن أن تكون هي اعتقادات حسنة أم اعتقادات قبيحة؟ ومعنى "الاعتقاد" عنده التصديق. ولا يتعلق "الاعتقاد" بمعناه الديني الضيق ـ شأن قولنا: "الله موجود" ـ وإنما بمعناه الواسع ـ نظير قولنا: "باريس عاصمة فرنسا". ويكمن إشكال الكتاب في التساؤل التالي: لَئِنْ كنا ندين بعض الأفعال ـ القتل، الاغتصاب، السرقة ـ على أنها مذمومة غير محمودة، فهل يمكن أن ندين بعض الاعتقادات الباطلة على أنها حسنة أو قبيحة؟ بمعنى آخر: هل الخطأ المعرفي المتعمد خطيئة؟ وهل الافتراء والهراء على نحو ما يرتكبه بعض الأكاديميين في أبحاثهم ومنشوراتهم ذنب؟ وحين نقول: فلان مُحِقٌّ في اعتقاده أو مُبْطِلٌ، فهل هذا حكم معرفي وحسب أم أنه إدانة أخلاقية أيضا؟ وهل تملك حياتنا الفكرية قيمة خلقية أم أن لا قيمة لها إلا القيمة المعرفية؟ ثمة مسألة الحق في الاعتقاد، وثمة مسألة قيمة الاعتقاد. لكن أليست قيمة الاعتقاد مسألة خلقية؟ وهل نحن طيبون أو سيئون أخلاقيا بالقياس إلى أن لنا دواع حسنة أو قبيحة لاعتقاد اعتقاد معين؟ أَوَ ليس "الافتراء المعرفي" "خطيئة" بالمعنى الخلقي؟ وأليس "الهراء المعرفي" "ذنبا"؟ ألا يدل الافتراء والهراء المعرفيان على أن انعدام الأخلاق لا يتعلق فقط بالأفعال والسلوكات، وإنما يسري أيضًا على المواقف الفكرية وطرق النظر؛ بما يشي أن للإبستمولوجيا ـ علم المعرفة ـ منحى أخلاقيا؟

معنى إبستمولوجيا الفضائل

يتساءل بويفي عن معنى "الإبستمولوجيا" ـ فلسفة المعرفة أو علم المعرفة ـ ويقدم الجواب عن هذا التساؤل سلبا وإيجابا. على جهة السلب؛ يستبعد تصورا رائجا للإبستمولوجيا باعتبارها "صنعة" شأنها النظر في التسويغ المعرفي للاعتقادات. وهو ينتقد التصور الأنجلوسكسوني الذي ضيّق واسعا حين حصر الإبستمولوجيا في الجانب المعرفي التقني الضيق، وحرمها من جانب التقويم الأخلاقي. وعلى جهة الإيجاب؛ يقترح تصورا "أنطلوجيا" ـ متعلقا بالوجود ـ للإبستمولوجيا؛ إذ يرى أنه ما كان شأن هذا المبحث أن ينظر فقط في تعليل الاعتقادات، وإنما الشأن فيه أن يطرح سؤال معنى الحياة الفكرية الطيبة: كيف يمكن أن نحيا حياة فكرية كريمة؟ أكثر من هذا؛ شأن الإبستمولوجيا أن تطرح السؤال: أتُراه من يكون الإنسان؟ ودعوى المؤلف بهذا الشأن أنه لَئِنْ نحن سلمنا أن الإنسان كائن "عاقل"، فإن سمة "العاقلية" هذه ما كان لها بُعْدٌ صنعي فحسب ـ تَوَخِّي الانضباط إلى قواعد المعرفة وتَوَقِّي خرقها ـ بقدر ما تكمن، بالأحرى والأولى والأجدر، في بُعْدها الفضائلي: ممارسة الفضائل المعرفية؛ شأن محبة الحق والشغف به والشجاعة الفكرية المطلوبة في المواقف القصية (قدوته في هذا استشهاد القديسة الفرنسية جان دارك دفاعا عن الحق ووفاء له). وما يسميه "إبستمولوجيا الفضائل" لا يتعلق بالاستعمال الناجع لملكاتنا المعرفية والفكرية، وإنما بالتزام الفضائل. وما كانت "إبستمولوجيا الفضائل" هذه التي يدعو إليها سعيا إلى تحقيق المعايير ـ بمعنى المبادئ والقواعد بمعناها الصنعي ـ التي تحكم عمليات الفكر المشروعة، لا ولا كانت هي وصف الطرائق الموثوقة التي تقود إلى نجاحات معرفية مبهرة. وإنما تتعلق هي بغاية حياتنا الفكرية بحسبانها اكتمالا لا انفصام فيه بين الشأن الفكري والأمر الخلقي. إذ تفكر هي في حياتنا الفكرية بوسمها مصيرا بشريا طيبا ـ ومن هنا أوبته الدائمة إلى أرسطوطاليس وإلى القديس توما الأكويني. من شأن المفتري والهَذِر ألا يفعل من أمر اللهم إلا أن يمكر بالمعايير الخلقية وأن يهزأ بها، فيخدع بذلك العالم، تماما مثلما يفعل أي كذاب. وذلك بحيث يسيء هو إلى نفسه ومستمعيه وقرائه وطلبته وتلامذته. ومن تم، يزري، في موقفه هذا، بالطبيعة البشرية. ذلك أن مدار الطبيعة البشرية على الخصائص التالية: ما يميز الإنسان إنما هو العاقلية، ومن شأن ممارسة الفضائل أن تحقق طبيعتنا هذه، ومن طبيعتنا أيضا السعي إلى تحصيل السعادة، والفضائل أمر يسعدنا، ودرك الأشياء على حقيقتها ـ بوصفه فضيلة ـ هو ما يجعلنا أسعد؛ لأنه مطلوب لذاته بصرف النظر عن كل غائية. وما كانت الحكمة سوى هذا ليس إلا. 

قد يكون صاحب الافتراء ومولى الهراء ـ ناشر الشعوذة وبائع الهذيان ـ من الناحية الفكرية حَذِقا ألمعيا فتّانا ـ وإلا لما انتبهنا إلى ما يختلقه ويرويه. وفي بعض الأحايين قد يكون إنسانا كفءا؛ بحيث يحترم العديد من المبادئ المعرفية؛ فلا يأتي كلامه متهافتا ينقض بعضه بعضا أنكاثا، ويكون كلامه مدللا عليه، وحجاجه بيّنا ... وقد يكون امرءا يحذق الجدل، ويحسن أن يورد الحجج ... فهو بهذا المعنى إنسان "عاقل"؛ بل و"عقلاني" بالمعنى الصنعي التقني الدائر على احترام قواعد المنطق ومطالب الحجاج ... لكنه في حقيقته امرؤ حُرِم الفضائل التي يقتضيها العقل السليم؛ أي ما يسميه المؤلف باسم "الخيرات المعرفية". فلا يتوفر على هذه الخيرات لكي يُعملها لغاية: المعرفة والحقيقة. 

وهنا يورد المؤلف ـ الذي بالنظر إلى خلفيته الدينية عادة ما يلجأ إلى عبارات دينية مُدَنْوَنَة ـ ما يسميه "اليوم الآخر المعرفي": في عشية حياة الإنسان يخلد هذا إلى نفسه ملقيا الضوء على سحابة حياته وقد قربت أن تنجلي ويقوّم حياته الفكرية ـ وقد رسمت هذه الحياة، حسب عبارة هيجل البديعة، "رماديا على رمادي"، في إشارة إلى الذبول ـ في ماذا أمضاها يا ترى؟ آنها تنجلي لكل ذي ضمير، حتى وإن هو استيقظ هذا الضمير في مساء حياته، الضلالات والأوهام والأغلاط والاختزالات وأنحاء عدم المسؤولية، بل والافتراءات والهراءات التي أتاها طيلة حياته. هكذا تُقَوَّم القيمة المعرفية لحياتنا الفكرية في نهاية المطاف. فعندما يرخي ليل الحياة سدوله، في الخاتمة، تُقَوَّم حياتنا المعرفية على قَدِّ توجهها نحو "الخيرات المعرفية". وليس يكفي هنا بأن نكون قد راعينا في إنجازاتنا المعرفية القواعد والقوانين والتقنيات الإجرائية المعرفية. إنما فيصل التفرقة بين أخلاقي المعرفة ولا أخلاقيها هو مدى التوق إلى "الخيرات المعرفية": تُرى، أكنا فضلاء أم كنا رذلاء؟  

 

دعوى الكتاب الرئيسة

أمام هول موجة "الافتراء" و"الهراء" المعرفيين التي اجتاحت حياتنا الفكرية وأفسدتها أيما إفساد، بات معيار "العاقلية" لا يكفي للتقويم، وإنما يحتاج الأمر إلى موقف أخلاقي صارم. وأمست المسألة الإبستمولوجية ـ المعرفية ـ الأساس تكمن في معرفة كيف يمكن أن ننفلت من "الفساد الفكري" السائد ـ المتمثل في الافتراء والهراء ـ الذي يتبين أنه بالأساس "فساد خلقي". وقد بات صاحبا الافتراء والهراء ـ الإنسان المفتري والإنسان الهُرَاء ـ أشبه شيء يكونا بسوفسطائيي الأمس: أناس غير أخلاقيون من جهة الاعتبار المعرفية. ومن هنا الحاجة إلى "أخلاقية معرفية" تقوم على ثلاثة دعاوى: 

أولا؛ الأخلاقية الفكرية أمر ممكن، بل مطلوب في هذا الزمان. وهي أخلاقية معيارية: تقول ما هو "خير" وما هو "شر" في حياتنا الفكرية. وما كانت هي مجرد وصف محايد لهذه الحياة، وإنما دعوى حول ما ينبغي أن يكون. 

ثانيا؛ يتنزل مفهوم "الفضيلة"، في هذه الأخلاقية، منزلة الأساس. ويتأسس على ما يدعوه بويفي: "أنتربولوجيا ميتافيزيقية"؛ أي على فلسفة في الإنسان. فالأخلاقية الفكرية إنما هي تفكير في ما يجعل البشر أفضل من حيث هم كائنات، بالأساس، عاقلة، وفي ما يمكنهم أن يزدهروا به بوسمهم كائنات عاقلة.

ثالثا؛ يضم المؤلف إلى دعواه ضميمة لاهوتية: فكرة "نِعَم الروح القدس". إذ بالنسبة إليه وسائل المعارف عطايا من الرب. والله ضامن أننا على السبيل السوي معرفيا. إذ من دون مدد رباني لا يمكن أن نأمل في حياة فكرية طيبة. وما الحياة الطيبة سوى العيش وفق الفضائل المعرفية أو الفكرية (عدم التحيز، اليقظة، التواضع، الشجاعة، الدقة، التوازن ...)، وما الحياة غير الطيبة سوى العيش وفق الرذائل المعرفية (اللامبالاة، ضيق العطن، الادعاء، الجبن، التشتت، الهوس ...). وليس يكفي الحجاج والصرامة والجدية والدقة، إذ الشر ملابس لنا، شأنه شأن الخطيئة الأصلية، ولا خلاص لنا منه إلا بمدد رباني ...  

 

خاتمة

يتساءل المؤلف في خاتمة كتابه: تُرى ما الذي شجع على انتشار الافتراء والهراء في الأوساط الأكاديمية؛ لا سيما في مجال الإنسانيات والاجتماعيات؟ ويجيب بكل بساطة: وسائل الاتصال ووسائطه. إذ أمسى المفكرون يهرولون إلى إِعمال هذه الوسائل والوسائط لتقويم أعمالهم بدل أن تعرض على الأكاديميين والجامعيين. وصار معيار التقويم هو الظهور الإعلامي طلبا للجاه. وهنا تكمن المفارقة: بات يُعَدُّ المفكر مفكرا بقدر ما يعترف به أولئك الذين لا مقدرة لهم على تقويم وجاهة فكرة. وبهذا، تَبَدَّى الجاه وتوارت الوجاهة. 

وبوفق بلاغة تمتح من التراث الديني، يؤكد المؤلف أننا ـ نحن معشر البشر ـ إنما نُذِرْنا إلى تحصيل "الخيرات المعرفية"؛ ومن تم إلى الصدع بالحق. ولَئِنْ نحن بتنا، في الكثير من الأحايين، "رذلين"، فإن بمكنتنا أن نمسي "فاضلين"؛ وبالتالي أن نستحق "الخيرات المعرفية". فنحن منذورون إليها بسبب ما يسميه المؤلف "طبيعتنا العاقلة". ومن هنا يرى أن الافتراء والهراء ـ اللذين ملآ العالم وأفسدا المعرفة ـ أمران مضادان للطبيعة. ولا سبيل إلى ما يسميه المؤلف "إنقاذ حياتنا الفكرية" اللهم إلا بالأوبة إلى أفلاطون وأرسطو والقديس توما الأكويني الذين يجعلون من الحياة الفكرية مساهمة في الحياة الربانية ـ هذه التي هي أبعد شيء يكون عن الحياة الحديثة ـ لا سيما بالقياس إلى المفكرين ما بعد الحداثيين من نيتشيين وفوكويين وعلماء اجتماع المعرفة.  

 

تفاصيل الكتاب:

عنوان الكتاب: الأخلاقيات الفكرية (علم معرفة الفضائل)

اسم المؤلف: روجي بويفي

دار النشر: مكتبة فران/ فرنسا

سنة النشر: 2020

أخبار ذات صلة