ماركو فينتورا
عزالدين عناية
تتردّد عبارة "بين يدي الله" على ألسنة كثير من المُؤمنين في العديد من الأديان. وتتضمّن المقولة إقرارًا وتسليمًا للقادر المقتدر، حين يعجز الفعل البشري عن بلوغ مراده. وليس اليهود والمسيحيون والمسلمون وحدهم من يسلّمون أمرهم إلى الله حين يعجز الفعل البشري، ويرفعون أيديهم بالتضرع والابتهال طلبًا للعون، بل منذ أربعين ألف سنة وُجدَت آثار يديْ الإنسان على جدران المعابد في كهوف البيرينيه وبورنيو (أندونيسيا)، وفي الصحارى، وفي بلاد الأناضول، في هيئة تضرّع وتقرّب لقوى خفية يَترجّى الإنسان منها العون. بهذه الإيحاءات الأنثروبولوجية يستهلّ الكاتب الإيطالي ماركو فينتورا مؤلفه "بين يدي الله.. الدين في المستقبل".
فالكتاب بأقسامه الأربعة، يتوجّه إلى القارئ بلغة مبسَّطة ومباشرة، بعيدا عن صرامة اللغة الأكاديمية، رغم أنّ مؤلّفَه اعتمد الإحالات والتوضيحات في جلّ ما أورده. يستعرض الكاتب أحداث القرن الفائت الكبرى ويبيّن آثارها على الوعي الديني في سائر الحضارات، مثل: تفجر الحربين العالميتين، ومعاهدة يالطا، وتشكل المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، وغليان العالم الإسلامي، وتفجر الثورة الإسلامية في إيران، وهزيمة السوفييت في أفغانستان. وهي أحداث ذات طابع ديني سياسي بامتياز شغلت الرأي العام العالمي طويلا. فقبل أربعين سنة تحدّى بابا الكنيسة الكاثوليكية يوحنا بولس الثاني (كارول ووجتيلا) الشيوعية، وسارت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر في ركب الليبرالية الاقتصادية، وجمع الرئيس الصيني دينغ شياو بينغ بين الكونفشيوسية والاشتراكية من أجل خلق النموذج الصيني الملائم للألفية الثالثة، وتسنّم الإمام آية الله الخميني ثورة دينية كانت الأكثر مشهدية في التاريخ المعاصر. ومنذ ذلك العهد تغيرت الأديان كثيرا، وبات أكثر من 85 بالمئة من سكان المعمورة يدينون بمعتقدات الأديان الكبرى في العالم. إلى حدّ أن أضحى يلوح في الأفق إقرارٌ ديني وخُلقٌ قِيمي جامع بين مختلف الأديان، وإن تباعدت الاعتقادات وتباينت الشرائع. يحفّزه سير المؤمنين اليوم نحو أهداف مشترَكة، لا سيما بخصوص مجابهة الفقر والعنف لاستشراء هاتين العاهتين، وبما يهدد أمن البشرية جمعاء. ولذلك يبدو الدين بمفهومه الواسع مدعوًّا لتوسيع مجالات خطابه لتشمل قضايا راهنة، ما كانت من ضمن انشغالات المؤمنين في ما مضى، مثل قضايا البيئة والطبيعة والمناخ والمديونية والبطالة.
في القسم الأول والثاني يحاول مؤلف الكتاب عرض جملة من الإشكاليات الجوهرية المطروحة بين الأديان، تتلخص في تصور كل دين القدرة على تقديم الخلاص الأخروي والفلاح الدنيوي للبشرية جمعاء. وصحيح سادت هذه الفكرة على مدى زمن طويل ولا زالت، ولكن هذا الإيمان بالاقتدار الذاتي على توفير هذا الفوز لا يلغي معطى أنّ كثيرا من الأديان وربما في مقدمتها الأديان العالمية، التوحيدية منها وغير التوحيدية، تقدّم خططًا في استيعاب الآخر، وفي احتضانه، وفي مراعاة معتقداته. فلا يمكن أن يُطلبَ من الأديان التخلّي عن معتقداتها الجوهرية في النظر لفلسفة الخلاص، وإنما أن يُنتظر من قادتها وأتباعها رسم خطط دينية في احترام الآخر ومراعاته، وتوفير مجال للعيش له بين ظهرانيها. وربما باتت الأديان في التاريخ المعاصر مدركة أكثر ممّا مضى لعبثية النزاعات والصراعات بين المؤمنين، لِما تخلّفه من أثر سلبي على الإيمان. صحيح هناك ترهيب يشتغل عليه العلمانيون واللادينيون بشكل عام من المخزون الديني، وهو تخويف نابع من أخطاء حادثة في التاريخ، ينبغي محاصرة فاعليها من أجل بثّ السكينة بين مختلف أتباع الأديان. لأنه لا يُعقل أن يكون جلّ سكان المعمورة من المؤمنين، ويتحوّل هذا الرصيد إلى مصدر للخوف والرعب من الإيمان ذاته.
فما من شك أنّ الأديان قد شهدت تغريرا دفع بالأتباع إلى الانجرار للعنف على مدى العقود الأخيرة، وقد أضرّت تلك الأفعال بالمخزون القِيمي وبسمعة الأديان. وقد كان دين الإسلام من أكثر الأديان تضرّرا من هذا الوضع المتفجّر، حتى باتت صورة الإسلام في الغرب تشكو شيئا من العتمة. لكن ينبغي أن نقرّ انّ العنف الذي أُلحق بالأديان، وإن أتاه بعض المنتمين إلى تلك الأديان، فهو في الواقع مرفوض من الأكثرية الساحقة، وهو لا يعبّر عن خيار جوهري، بل عن انحراف رؤيوي لدى بعض المنتمين. ومن هذا الباب وجب التمييز بين الأديان وأتباع تلك الأديان وعدم الخلط بينهما.
لقد شهدت العقود الأخيرة جملة من الأحداث العنيفة، توجّهت فيها التهمة إلى الأديان في الشرق أم في الغرب. ولكن المتأمّل في جلّ تلك الأحداث يلحظ ارتباطها بقضايا بعيدة عن جوهر الدين، وهي قضايا على علاقة بالقلاقل السياسية والتمايزات العرقية وبالصراع على الثروة. لكن الأديان بعد ذلك التورط اللاإرادي في الصراعات، يبدو أنها أدركت خطورة الانجرار إلى تلك الساحات لخطورة آثارها على المؤمنين وعلى السلم الأهلية بشكل عام. فهناك ما يشبه النضج في الخطاب الديني العالمي، يسير باتجاه بناء مشترك قِيمي ورابطة جامعة تعلو فوق الخلافات، من خلال التواضع على جملة من المبادئ المشتركة والأهداف العليا التي تؤسس للحفاظ على النوع البشري. وتشدّد على ضرورة الدفاع عن كرامة الإنسان، وعلى المراعاة للموروث الروحي العالمي، بوصف هذا الأخير دعامة أساسية للحفاظ على كيان الإنسان أمام موجات العبثية والعدمية والاستغلال الفاحش التي تتهدّد البشر.
ما يلاحظه المؤلف في القسم الثالث من الكتاب، أنّ هناك عقلنة بدأت تشيع بين أتباع التقاليد الدينية، تقطع مع الانغلاق الذي ساد في مراحل سابقة، إيمانا بأنّ الحفاظ على الرصيد الروحي العالمي هو مسؤولية مشتركة، ولا يمكن التعويل فيه على جانب أو طرف بمفرده. وبالتالي نحن اليوم، كما يرصد المؤلف، أمام صحوة روحية للأديان من خلال الاحتضان المتبادل، وهو مسار جديد خلّف مبادرات مشتركة وبحثًا عن مناهج جديدة في استيعاب الآخر. وقد ساهمت العولمة مساهمة فعالة في تطوير هذا التمشي والحثّ عليه. فعلى إثر تعزز التجاور الحاصل في المجتمعات بين مختلف التقاليد الدينية، بات المؤمنون أكثر حرصا على التعارف، ولا سيما على مستوى التفاعل الاجتماعي والتعايش المباشر. فبعد تجارب العنف المقيت الذي أَلحق ضررا بسماحة الأديان، يدخل الدين اليوم تجربة اللاعنف والسلم، وهي مرحلة متقدّمة يُشتَرط أن تُوفَّر لها الدعامات حتى تتطور. فالسلم الجماعية لا تُصنَع بمجرد إلقاء الخُطب، بل لا بد من توفر عمل مشترك، علمي ومعرفي، على مستوى عميق لتنقية الذاكرات وترشيد العقول لأجل صنع وعي روحي قادر على احتضان المغاير. يبدو دَور المفكرين، وعلماء الدين، والمؤمنين الحريصين، في هذا السياق محوريا، من أجل تنقية التراث الديني العالمي من بؤر التوتر، المعرفية واللاهوتية، ونشر أخلاق كونية جديدة بين البشر.
صحيح ثمة استفاقة في الهيئات الدينية العالمية، كما يبيّن الكاتب، على ضرورة ترسيخ السلم في الأوساط الاجتماعية، ولكن يبقى ذلك الأفق المنشود مرتهنا أساسا إلى سياسات عملية تهدف إلى تقليص الهوة بين الأغنياء والفقراء، وإلى العناية بالمهمَّشين والمعطَّلين، والعمل الدؤوب على تخفيف الضغط عن الطبقات الكادحة. فكلّ هذه المبادرات تصبّ في صالح ترسيخ قيمة السلم في المجتمعات. فلا يمكن الحديث عن سلم اجتماعية بدون مصالحة اجتماعية بين جملة من القطاعات الحيوية والأطراف المؤثرة، وهو ما يخلص إليه المؤلف. إذ يمكن للأديان أن تشتغل على نزع مشروعية العنف المتفشي في عالمنا، ويمكن لها أن تنجح إلى حدّ ما في تلك المهمّة، ولكن ليس باليسير إقناع الناس بالثبات على هذا النهج ما لم تجرِ مصالحة واسعة، وجبر للأضرار، واعتراف بالحقوق، على مستوى الجماعات والقطاعات. وهي مشاريع كبرى تتطلّب خططًا شاملة تتجاوز قدرة مجتمع أو دين بعينه. ومن هذا الباب فإنّ السلم اليوم هو مشروع عالمي ومنجَز جماعي، في ظلّ التحولات التي ألمّت بالعالم الراهن.
يُقرّ عديد الساسة والفاعلين الاجتماعيين، كما يرصد الكتاب، بضرورة تفعيل المخزون الروحي كضمانة لإنجاح السياسات والخطط ذات الطابع الكوني، وهو إقرار بقدرة الدين على تحريك الجماهير. إذ بات من غير الممكن التغاضي عن دور الدين في التاريخ المعاصر. فالتحديات الكبرى التي تواجه عالمنا متنوّعة: اقتصادية، وبيئية، ووجودية، والدين في هذا الجانب قادر أن يسهم مساهمة فعالة في هذا المجال. وهو بالحقيقة إقرارٌ يعبّر عن عودة إلى التعويل على الأديان ودورها في البناء الاجتماعي على نطاق وطني وعالمي. ولكن في ظلّ هذه الاستفاقة لدور الرصيد الروحي العالمي، ينبغي أن يبقى العاملون في القطاع الديني حذرين ممّا يجري، سيما وأنّنا نعيش حقبة تمدّد الرأسمالية الجشعة، الساعية إلى توظيف المتضادات والمتناقضات لغرض تحويل العالم إلى سوق محكوم بقانون العرض والطلب. إذ غالبا ما تكون السياسات براغماتية متحولة، وهو ما يدعو بحرص إلى إيجاد رابطة خُلُقية بين مختلف الأديان والتقاليد الروحية، بعيدا عن التقلبات والتبدلات التي تحصل في عالم السياسة.
في القسم الأخير من الكتاب يحاول ماركو فينتورا أن يستشرف مستقبل الأديان من خلال متابعة ما يشغل كل دين على حدة. إذ يلحظ الكاتب أنّ الدين ما عاد قابعا في المعابد والمصليات، وما عاد منزويًا بعيدا عن مشاغل الحياة. تطوّرت العلاقة العمودية بعالم القداسة، وبالمثل تطورت العلاقة الأفقية بعالم البشر. وتبعا لذلك نشهد تمظهرات جديدة للدين في كثير من الأعمال والأشغال، وتحالفات لقادته مع عوالم السياسة والاقتصاد، ومجاراة لبعض الخيارات المصيرية التي تهمّ البشرية جمعاء، وفي الواقع هو تحوّل خُلقيّ وقِيميّ واستراتيجيّ غدا يُميز الدين في العصر الحالي، يتميز بالحضور الفعلي للمخزون الروحي. فحين نتحدّث عن دور الدين في دعم السياسات التنموية، أو عن إسهامه في إنجاح بعض الخيارات البيئية، فهذا تحول في الوعي بالدين وفي عيش الدين. وعلى ذلك الأساس ظهرت أشكال جديدة من التدين ومن عيش الدين تميز فترتنا التاريخية.
حين كتب الفرنسي جيل كيبيل مؤلفه "ثأر الله" في مطلع تسعينيات القرن الماضي، بدا مضمون الكتاب حينها يحيل على عودة المخزون الروحي العالمي بعد طمس طويل، جرّاء العلمانيات المتطرّفة والنظم الاشتراكية المجحفة. حصل مرورٌ للدين من حالة اللامرئي إلى المرئي، ومن حالة الخمود إلى حالة الثوران. وشاع حراك جارف هزّ العديد من التقاليد الدينية في أواخر الألفية الثانية. كانت العودة عاصفة وثأرية بالفعل، وقد تابع العالم ذلك الحراك من خلال وقائع الثورة الإسلامية في إيران، ومن خلال أحداث الصراع بين الكنيسة والدولة في بولونيا الاشتراكية، ومن خلال عودة الدين بقوة في إسرائيل وتراجع الصهيونية العلمانية لفائدة الصهيونية المتدينة. بعد تلك الحالة الثأرية التي عبّر عنها كيبيل، وحاول رصدها في جملة من المؤلفات اللاحقة مثل "فتنة" (2004) و"الجهاد.. الصعود والانحدار" (2000) و"الشرق الأوسط.. الخروج من الفوضى" (2018) وإلى غاية كتابه الأخير "النبي والجائحة" الصادر خلال العام الجاري، شهد الدين تحولات جمّة. ويبدو الإشكال المطروح في المستقبل، وهو كيف الوصول إلى الوفاق بين مختلف التقاليد الروحية العالمية لغرض خدمة الإنسان. فهذا الشاغل يمثّل قاسما مشتركا بين جملة من القيادات الدينية العالمية. وقد تعزّز البحث عن ذلك الأفق المشترك بتطوّر ملحوظ للحرية الدينية وإقرار بالتعددية. إذ شهدت جملة من الفضاءات الدينية المنكفئة على ذاتها، في وقت سالف، نوعًا من الانفتاح على بعضها البعض، من حيث مراعاة الخصوصيات والشعائر والعقائد المتبادلة، وهو تطوّر بارز ضمن سياق بناء المؤتلف الجامع بين المؤمنين.
وكما يعرب ماركو فينتورا ينبغي أن تكون الحرية الدينية فعلية لا شكلية، سيما وأن "الحرية الدينية" التي يُفترض أن تراعى في الغرب بين مختلف التقاليد الدينية هي حرية منقوصة في ظل الاحتكار السائد للمجال الديني من قِبل بعض التقاليد الدينية. إذ لا تزال جملة من الكنائس في أوروبا تتصرف بوصفها الوصية على الذاكرة الجماعية والموكلة بالهوية الجماعية، وكأن الفضاءات الاجتماعية بمنأى عما يهزّها من موجات هجرة وتحولات دينية. ففي بلدان جنوب أوروبا لا تزال الهيمنة واضحة للكنيسة الكاثوليكية، وما فتئ الدين المنافِس سواء منه الوافد مع المهاجرين أو النابع من الواقع الغربي يعيش حالة تضييق وحصار على أنشطته. الأمر ذاته ينطبق على شمال أوروبا ذات الأكثرية البروتستانتية والأنغليكانية، إذ لا يزال الاحتكار سائدا من قِبل الكنائس المهيمِنة على الفضاء الديني، ولا يزال رأس السلطة السياسية متماهيا مع الموروث الديني للبلد دون فصل واضح.
تفاصيل الكتاب:
الكتاب: بين يديْ الله.. الدين في المستقبل.
تأليف: ماركو فينتورا.
الناشر: منشورات إيل مولينو (بولونيا- إيطاليا) 'باللغة الإيطالية'.
سنة النشر: 2021.
عدد الصفحات: 191 ص.
