الانفتاح: قصة التقدم الإنساني

التقدم الإنساني.jpg

جون نوربيرغ

محمد السماك

يروي كتاب الباحث السويدي الدكتور جون نوربيرغ قصة التطور الحضاري عبر التداخل بين الشعوب والثقافات.  ويدلّ عنوان كتابه :"الانفتاح"، على الفلسفة التي قامت على قواعدها مسيرة التطور كما عكستها الحضارات الإنسانية في الشرق والغرب على حدٍّ سواء .

يبدأ المؤلف مع البدايات الأولى المعروفة للحضارة الإنسانية، وهي الحضارة الرومانية قبل قرن من ولادة السيد المسيح. ويقول إن روما تمكّنت من فرض سيطرتها على كل حوض البحر الأبيض المتوسط شمالاً وجنوباً وشرقاً، وإن ما يعادل 90 بالمائة من شعب الإمبراطورية الرومانية كان يعيش على مسافة لا تبعد أكثر من 15 كيلومترا فقط عن ساحل البحر. كانت الإمبراطورية تستورد الذرة من مصر وزيت الزيتون من إسبانيا والدهانات (الأرجوانية) من قرطاجة الفينيقية –تونس اليوم- (والأرجوان هو صباغ للأنسجة أحمر اللون يستخرج من ثمار البحر. وكان الفينيقيون أول من استخرجه واستعمله في تلوين الملابس الزاهية).

ويبني المؤلف على ذلك قاعدة عامة يقول فيها إن سرّ نجاح وازدهار الإمبراطورية الرومانية يعود في الدرجة الأولى إلى انفتاحها على التجارة، والانفتاح على الشعوب الأخرى، وعلى الأفكار المتوالدة مع هذه الشعوب؛ حتى أن أسرى الحروب حملوا معهم المهن التي تعلّموها في بلادهم. لذلك فتحت الإمبراطورية أمام الغرباء الأبواب للعمل وتبوّؤا مناصب أساسية في الدولة . وكان يمكن أن يصبحوا مواطنين بعد فترة من الأسر . كذلك فإن ابن الأسير المستعبَد كان يمكن أن يعتلي مناصب عليا في الدولة والمجتمع حتى أنه يمكن أيضاً أن يصبح إمبراطوراً، وقد حدث ذلك بالفعل كما يؤكد المؤلف .

 

يقدم الكاتب الدكتور نوربيرغ صوراً عن مختلف الحضارات التي عرفها العالم في الشرق والغرب ليؤكد من خلالها النظرية التي يحاول أن يقدمها ويدافع عنها، والتي تقول إن التقدم يعتمد على الانفتاح . ومن هنا كان عنوان الكتاب . مع ذلك فإن المؤلف لا يتجاهل الحقيقة الواقعية التالية، وهي أن للانفتاح أعداءً وخصوماً أشدّاء، وأن هؤلاء يعملون على شد عقارب الساعة إلى الوراء، وأنهم لا يفشلون، ولكن فشلهم كان دائماً البوابة للتقدّم الحضاري. ولإثبات نظريته حول العلاقة بين الانفتاح والتقدم، يقود المؤلف القارئ في جولة شيّقة على حضارات العالم القديم في الشرق والغرب. وهو من خلال هذه الجولة يقدم مادة معرفية ثقافية يحتاج إليها كل باحث في الإنسانيات والشؤون الحضارية.

ويمكن بكثير من الجهد اختصار هذه الجولة في الوقائع التالية :

لم تتوقف الحضارة الرومانية عن التطور إلا بعد أن انغلقت على ذاتها . وكما يقول المؤلف، فإن سبب الإنغلاق يعود إلى اعتناق روما المسيحية ديناً للدولة، الأمر الذي أدى إلى إقصاء الرومان الذين بقوا على معتقداتهم الوثنية، وتعرّضوا بسبب ذلك إلى الاضطهاد والإقصاء؛ فانفجرت من جراء ذلك سلسلة من أعمال العنف والاضطهاد على خلفية دينية إلغائية لكل من هم خارج العقيدة المسيحية الجديدة. وعرفت روما صراعات وحروبا أهلية دموية .  أدى هذا الواقع الجديد إلى انضمام الوثنيين إلى أعداء الإمبراطورية الرومانية بعد أن كانوا من أبنائها ومن المدافعين عنها، وذهبوا في ذلك إلى حدّ تسهيل اقتحام البرابرة لروما باعتبار أولئك البرابرة مخلّصين لهم من الاضطهاد الديني.

قامت الحضارة العربية في العصر العباسي على عقول شعوب متعددة في الدولة الواحدة فازدهرت علوم الطبّ والحساب وأثمرت عن عطاءات إنسانية باهرة ؛ وكان لترجمة الكتب العلمية والفكرية إلى اللغة العربية دور أساسي في فتح آفاق المعارف في العلوم والرياضيات والفلك، وكذلك في الفلسفة . وما لم يشر إليه المؤلف هنا هو أنه في العهد الأموي كان المأمون يقدم للمترجم تعويضاً يبلغ وزن الكتاب ذهباً .

 

بعد سقوط الأندلس، عملت السلطة الإسبانية الجديدة، كما يقول المؤلف، على اضطهاد وإبعاد من أطلقت عليهم صفة "الهراطقة واليهود والمسلمين". وهم الذين جعلوا من إسبانيا الأندلسية منارة علمية وجسراً حضارياً إلى أوروبا . ويقول إنه نتيجة للابعاد والاضطهاد تقهقرت اسبانيا اقتصادياً واجتماعياً، ووصلت إلى القعر الحضاري بين عامي 1500 و 1750، بعد أن كانت في القمة .

لا يقتصر المؤلف في دراسته على حضارات أوروبا وحوض البحر المتوسط، ولكنه يقدم أمثلة عن حضارات شرق آسيا، وعلى رأسها الصين . فيقول إن أسرة "سونغ" التي رحّبت بالتجار المسلمين، وكذلك بالرهبان الهنود، تمكّنت من صناعة الورق، ومن ثم صكّت العملة الورقية، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الإنسانية . كما تمكنت من صناعة ماكنات النسيج التي تعمل بالقوة المائية . وحققت بذلك ما يمكن وصفه بأنه أول ثورة صناعية للإنسان، متقدّمة على الغرب بحوالي 400 عام على الأقل . وهنا أيضاً يؤكد المؤلف أن قرارات الانغلاق على الذات في الصين أدت إلى التخمّر والانحلال الداخليين، ومن ثم إلى التراجع ومن ثم إلى السقوط.

حتى أنه عندما تبوأت السلطة أسرة "مينغ"، عمدت إلى تحطيم الأجهزة الصناعية الذكية، وأقفلت حدودها البحرية مع العالم وانغلقت على ذاتها حتى الاختناق، وتوقفت عن التبادل التجاري وعن التعامل مع غير الصينيين تحت طائلة العقوبة بالموت. وعملت حتى على استئصال الحركات الصينية الانفتاحية باعتبارها حركات غير وطنية .

استمرّ هذا التراجع التقهقري مع أسرة " مانشو" التي ذهبت في الانغلاق إلى أبعد مما ذهبت إليه أسرة "مينغ"، فمنعت أي نوع من الاتصال أو التواصل مع الخارج . حتى أنه في عام 1661 فرضت على جميع الصينيين من سكان الشواطئ الجنوبية للبلاد الانتقال إلى الداخل، وإلى الابتعاد عن السواحل (حيث خطر التعامل أو حتى الاحتكاك مع الخارج) مسافة ثلاثين كيلومترا على الأقل. وبذلك تضمن السلطة قطع أي نوع من أنوع التعامل أو التواصل مع الخارج. 

 

استمرّ هذا الانقطاع الصيني الانغلاقي – الاختناقي عن الخارج ردحاً من الزمن، حتى أنه بعد قرن على قرار أسرة "مانشو" بالابتعاد عن السواحل، عمد الإمبراطور "كيانلوغ" إلى منع دخول الكتب من الخارج، وأمر في الوقت ذاته بإحراق جميع الكتب التي تتحدث عن الأسر الحاكمة السابقة وإنجازاتها العلمية أو الفكرية، اعتقاداً منه بأن قطع أي صلة عاطفية معها يقطع الطريق أمام أي نوع من أنواع الولاء لها. وكان من المؤلفات التي أُحرقت في ذلك الوقت، الموسوعة الاقتصادية وموسوعة العلوم التقنية .

يقول المؤلف إن جنكيز خان كان قائداً سفاحاً ومحارباً محترفاً. وهو حكم عام يجمع عليه المؤرخون، ولكن الدكتور نوربيرغ يخرج بنظرية يقول فيها إن سياسات جنكيز خان المحلية تثبت اليوم صحة نظرياته في الإدارة والحكم المحليين.

يقول المؤلف إن المغول تميزوا بالتسامح الديني والإثني (العنصري)، مما مكّنهم من أن يتركوا آثارهم في المجتمعات التي اقتحموها وسيطروا عليها . صحيح أنهم أصحاب مدرسة قتالية تميّزت بالعنف الشديد، إلا أنهم كانوا أيضاً أصحاب مدارس إدارية وعلمية من مختلف الاختصاصات. ويروي المؤلف هنا قصة مثيرة يقول فيها إنه من بين القوات المغولية (150 ألف رجل) التي غزت أوروبا في عام 1241، كان ثلث هذه القوات فقط من أصل مغولي، وإنه وجد بينهم جنود ألمان، ووجد بينهم أيضاً جندي انكليزي هرب من الاضطهاد في بلاده (انكلترا) لاتهامه بالهرطقة، ووجد مأوى له في المجتمع المغولي الأكثر تسامحاً وانفتاحاً.

من الصعب، وربما من المتعذر، إيجاد أي مجتمع ديني لم يعمل قادته على إغلاق أبوابه في وجه التدخلات الخارجية التي تستهدف ضرب الاستقرار الديني في هذا المجتمع .

كان هذا أيضاً شأن أوروبا –كما يقول المؤلف-. وهو يرى أن المجتمعات الأوروبية الحديثة المبكرة لم تكن أكثر تقدماً من المجتمع الصيني، غير أن القوة كانت موزعة في أوروبا بينما كانت متمركزة في الصين في شخص الإمبراطور. وهذا التوزّع مكّن علماء الاجتماع والفلاسفة الأوروبيين من الالتجاء إلى حاكم منفتح أو أقل انغلاقاً عندما كانوا يواجهون اضطهاد حاكم منغلق أو متشدد .

ويقدم المؤلف أمثلة على ذلك :

الفيلسوف "هوبس" كتب أطروحته الشهيرة "ليفياتن" وهو مهاجر إلى باريس .

الفيلسوفان "لوك" و"ديكارت" هاجرا إلى أمستردام – هولندا . وكان يمكن طبع كتبهم الفلسفية الجديدة في أي مكان من أوروبا، ومن ثم كانت أفكارهم تنتقل إلى الناس في كل أنحاء أوروبا متجاوزة إجراءات الحظر التي فُرضت عليهم في أوطانهم الأصلية .

هنا أيضاً يعترف المؤلف نوربيرغ بأن ردّ الفعل السلبي هو ظاهرة طبيعية إنسانية في مواجهة الانفتاح بما يحمله من تغيير في المفاهيم . فالعقل الإنساني في حالة تطور، وهو يواصل تطوّره منذ آلاف السنين على قاعدة الاعتقاد بأن التغيير الجذري أو التدميري كان يعني دائماً الموت . وأن تبادل المصالح مع الغرباء غالباً ما يكون حالة نادرة . ولو أن الثلاثمائة ألف عام الأخيرة من تاريخ الإنسانية يمكن ضغطها في يوم واحد لكان علينا –يقول المؤلف- انتظار اللحظة الأخيرة لإدراك أن التقدم المادي ما كان ليتحقق لولا الإشراقات المدمرة للأفكار السابقة. غير أن الناس محافظون بطبيعتهم . وعندما يتعرضون للتهديد يلجأون إلى قبيلتهم ويحتمون بها ويبحثون عن المأوى لديها، وهو ما يفسر الظاهرة التي تعيث فساداً في بعض المجتمعات الأوروبية اليوم والتي تجبر على السؤال التالي : لماذا يعمل الديماغوجيون على إخافة الناس من الآخر ؟ . فالخوف هو الوسيلة لتحقيق الفوز في الانتخابات للتخلص من مصدر الخوف الذي يمثله الآخر المختلف  !!

 

مع ذلك، تقدم خاتمة الكتاب صورة متفائلة . في هذه الصورة التي يرسمها المؤلف عن المجتمعات الغربية –في أوروبا والولايات المتحدة- يقول إن الشعبويين يخسرون السلطة لأنهم يفشلون في إدارة شؤون الحكم . ويقدّم إحصائية تقول إن أربعة من كل عشرة من زعماء هذه الحركات الشعبوية الرافضة للآخر أُدينوا بالفساد .

وفي المحصلة الأخيرة، فإن كتاب "الانفتاح" يشكل رحلة فكرية عبر الحضارات، على متن سفينة العقل الإنساني . في هذه الرحلة كثير من المتعة الفكرية .. وفيها أيضا كثير من أجراس الإنذار !!.

 

تفاصيل الكتاب:

الكتاب : الانفتاح : قصة التقدّم الإنساني Open : The Story of Human Progress

الكتاب : جون نوربيرغ John Norbeirg 

الناشر : أتلانتيك للكتاب Atlantic Books

الصفحات : 488

التاريخ : 2020

أخبار ذات صلة