الإقطاعية الجديدة

الاقطاعية الجديدة.jpg

ألكسندر ليجافا

فيكتوريا زاريتوفسكايا

يُعيدنا مؤلف الكتاب إلى أزمنة بعيدة نسبياً في التاريخ الروسي، وبالتحديد تلك التي شاع فيها نظام شبيه بالعبودية، وذلك من أجل المقارنة بين درجة الحرية والحقوق الاجتماعية في روسيا المعاصرة وما كانت عليه منذ مائتي سنة تقريبا. ويهدف البحث إلى إظهار موقع المواطن المعاصر لدى المؤسسات الدولية والقرارات المتخذة من قبلها كما يرسم آفاق وضع الفرد العادي في المستقبل القريب. 

يذكرنا الكاتب في أول الكتاب بحقيقة أن مجموعة القواعد القانونية التي عُمل بها في زمن الإقطاعية الروسية، حيث أُلزمت مجموعة من الناس على العمل ضمن قطعة أرض معينة بما يقترب في المعنى من مفهوم العبودية، إلا أنَّ ذلك الوضع كان مقيدا بخصائص وقواعد تقضي بمراعاة حقوق الإنسان الرئيسية. فمن المعروف أنه منذ عام 1649 وحتى إلغاء نظام القنانة في روسيا عام 1861 كان يُحظر على الفلاحين مُغادرة قطع الأراضي التي التزموا بالعمل فيها. كانت الأرض نفسها مملوكة للنبلاء وكان لهم دخل منها ولكن ليس أكثر من ذلك، فلم يكن مالك الأرض هو المالك القانوني للقن. أما التجاوزات الجائرة التي قد يقترفها صاحب الأرض على قنه، فاعتبرها القانون جريمة وكان يُنزل عقابه على الجاني بغض النظر عن ثرائه والطبقة النبيلة التي ينتمي إليها. فعلى إهانة أحد الأقنان يُجبر مالك الأرض على دفع غرامة كبيرة للضحية، وفي حالة القتل يودع السجن. وكان الفلاح يمتلك ثمار عمله وكان له دائمًا مُمتلكات أخرى. 

يشير الباحث إلى أننا نشهد في أيامنا الراهنة بعض سمات الحد من حرية المواطن الروسي على الرغم من أن تطور الرأسمالية والصناعات أدى إلى القضاء التام على وضع الأقنان وزيادة حادة في الأفراد الأحرار: عمال المصانع ورجال الأعمال والمثقفين. في السياق نفسه، ومن أجل ضمان التقدم العلمي والتكنولوجي والتكافؤ العسكري بين البلدان، كان لا بد من ارتفاع في مستوى التعليم يشمل مختلف طبقات المجتمع، فبدون ذلك يبقى من المستحيل تحقيق هذا الضمان. وبالمقابل أدت الحوسبة والأتمتة والروبوتات إلى وضع جديد حدَّ من المشاركة البشرية في عملية الإنتاج عموما، وبالتالي غدت مجموعة مُعتبرة من الأشخاص الذين يستهلكون الموارد، غير ضرورية للأوليغارشية المالية، بل أكثر من ذلك، إذ بدأوا يشكلون تهديدًا لأي طبقة اجتماعية تستولي على السلطة في البلاد. في هذا السياق، يصل المؤلف إلى خلاصة مفادها أن الأوساط الحاكمة تسعى إلى استعباد أكبر شريحة من السكان وجعلهم تابعين تمامًا من الوجهة الاجتماعية، وهنا يطرح السؤال نفسه: هل نحن أمام سيناريو أكثر جهامة مما كان عليه الحال منذ قرنين من الزمن؟

لا يقتصر الكاتب على مثال روسيا الراهنة فيتأمل في الصين ومستجداتها وابتكاراتها في مجال إدارة الحياة الاجتماعية وخاصة النظام المتّبع للتصنيف الاجتماعي العام. يعلق الكاتب قائلا: "لا بد أن تمنحنا هذه التجربة فكرة لما ينتظرنا في المستقبل القريب". ويوضح أن الحكومة الصينية تقوم بتقييم سلوك وموثوقية مواطنيها وتخصيص قائمة تقييمية لكل شخص تبدأ من الصفر حتى ألف نقطة. فمثلا إذا استمع الشخص إلى الموسيقى بصوت عالٍ جدًا، ولو أنه لم يدفع الضرائب والغرامات أو تم ضبطه وهو يعبر الشارع في المكان الخطأ، فقد يتم تقييد بعض حقوقه أو قد يفقد امتيازات معينة كإمكانية حجز تذاكر الطيران أو تحديد سرعة وصوله إلى الانترنت أو منعه من تربية حيوان أليف في منزله. ويصف المؤلف هذا النظام من الانضباط باعتباره تحقيقا لحلمٍ يصبو إليه أي عالم نفس سلوكي، أي مكافأة السلوك الاجتماعي الإيجابي ومعاقبة السلوك الاجتماعي السلبي. ولكن المؤلف - مع ذلك - يطرح سؤالا مختلفا: "أليس الهدف الضمني للحكومة الصينية فرض سيطرة كاملة على المجتمع وقمع أي معارضة لها، أي قمع الأفكار المخالفة لخط الحزب الحاكم؟".

 

في هذا الصدد يورد المؤلف ملاحظة تتعلق بمدى دقة التصنيف الصيني لسلوك الأفراد وكيف يمكن تطبيقه على تصرفات الفرد على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. يقول: "على سبيل المثال، قد ينتج عن انتقاد الحكومة في الإنترنت نقطة سلبية واحدة هذا الشهر وعشر نقاط في الشهر المقبل. وبوجه عام كيف يمكن للمواطنين الذين تم تصنيفهم عن طريق الخطأ أن يتجنبوا تجاوز الخط الأحمر إذا كانوا لا يعرفون كيف يُصنّف النظام فعليًا الانتهاكات المختلفة؟"

في هذه الحالة يحذر الكاتب من الضرر الذي يمكن أن ينجُم في حالة وقوع أي خطأ في حسابات النظام أو أي خلل في عمل القواعد الإلكترونية: "في عام 2018 صرحت السلطات الصينية بأنها ستقوم بتجميد أصول أي شخص غير موثوق به وذلك في إطار برنامج تصنيف المواطنين. وبإمكان المرء تخيل اختفاء جميع أصوله المالية فجأة لمجرد أن كاميرا المرور أخطأت في قراءة لوحة سيارته" ويضيف المؤلف مقارنا بين هذا النظام وما تفتق عن مخيلات بعض الروائيين المشاهير: "لم يعد الواقع ينتمي إلى خيال زامياتين أو هكسلي أو أورويل، بل ينتمي إلى عالم كافكا الذي تميز بسمتين رئيسيتين: الأولى أن القواعد التي تحكم النظام ليست هي نفسها لمن يشمله هذا النظام والثانية أنه لا يوجد أي مخرج لأولئك الذين يتعرضون للاضطهاد أو المدانين ظلما من قبل النظام".

على الرغم من كل ذلك فقد تأصل النظام في المجتمع الصيني كما أنه غير مرفوض من قبل المواطن الصيني، ويبدو أن الصينيين العاديين بحاجة إلى هذا النظام، بل إنهم يحبونه. والحال كذلك، يكتسب الرقم الذي يمتلكه المواطن في إطار النظام التقييمي الاجتماعي أهمية كبيرة، وكما يمكن أن نتخيل، فهو رمز مهم لمكانة الفرد وتطوره في المجتمع. إلى جانب ذلك، يشكّل هذا النظام ضربا من اللعب المثالي، وبالفعل فقد تحول إلى صنفٍ من الألعاب. فالصينيون متهورون بشكل عام، ولأجل مراقبة سلوكياتهم المحددة بنظام النقاط، فإن الناس العاديين يقومون طواعية بالانضمام إلى هذا النظام. ولأجل إضفاء صبغة المنافسة (الضرورية لكل لعبة) يتيح تطبيق Sesame Credit للمستخدمين مقارنة تصنيفاتهم بشكل مباشر مع تلك الخاصة بأصدقائهم. مع ذلك، وعلى الرغم من قبول الصينيين لنظام التصنيفات هذا، يستنتج المؤلف أنه نظام عقوبات صريح، لا يختلف كثيرًا عن عملية تعذيب قد تؤدي إلى الوفاة. إنها موت بألف جرح، أي عندما يكون الجرح الواحد غير قاتل، لكن النتيجة التي تؤدي إليها مجتمعة تفضي إلى الموت فقرا أو تشردا أو جوعا وذلك في حالة الحصول على تصنيف متدنٍ. 

 

في الفصل الثاني يتأمل الباحث تجربة اجتماعية أخرى وهي دفع المعاشات المضمونة للمواطنين انطلاقاً من الفكرة التي نشأت في فترة الرئيس الأمريكي ريغن، حيث قدمت السلطات الأمريكية عرضا تحفيزيًا للجميع يتضمن توفير مبالغ ضخمة على شكل إعانات بطالة لدرجة أن العاطل عن العمل كان يستفيد من إعانة كبيرة من دون الحاجة إلى الخروج من المنزل. بهذا تكون الحكومة قد دفعت للناس أموالا كي لا يعملوا، وفي حالات كثيرة جدا كانت تدفعهم إلى إغلاق مشاريعهم "غير الضرورية".

إلى جانب الاعتبارات الاقتصادية، يطرح الكاتب تأثير هذه الإجراءات على نفسية المواطنين فيقول: "يعتبر الخمول آفة تضر بالفرد والمجتمع ككل لدرجة أن الكثيرين يفضلون التواجد في مقار عملهم على زيادة رواتبهم وهم في المنزل. إن إنفاق النقود ليس عملاً سهلا بالمطلق في حياتنا المعاصرة، كما أن العمل ممتع بحد ذاته، والعديد من الوظائف تنطوي على مغاز اجتماعية. وحتى حين أصبح مستوى المعيشة أعلى بكثير مما كان عليه في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن غالبية العمال يفضلون القيام بعملهم في مقار العمل، وليس القعود في المنازل. جرّب أن تقضي بضعة أشهر في المنزل منشغلا بألعاب الفيديو وستجد أن الحياة بلا معنى. فإن طبقنا هذا النظام على عشرات ومئات الملايين من الناس فسنكون حينها أمام معضلة عظيمة". ووفقًا لتقديرات الخبراء، تعد البطالة غير الطوعية واحدة من أقوى الصدمات التي يمكن أن يواجهها الشخص. إنه أسوأ من الطلاق وله آثار نفسية مهلكة. "لا يمكن للجميع استخدام وقت فراغهم بكفاءة. علاوة على ذلك، فإن وقت الفراغ غير المنظم يعد أمرًا سيئًا لمن هم بين سن العشرين والسبعين. لقد سمعنا جميعًا قصصًا عن أشخاص حققوا حياة مهنية رائعة لكنهم توفوا بعد تقاعدهم بفترة وجيزة. لقد اختفى هدفهم في الحياة، ولم يعرفوا ماذا يفعلون في المنزل. إن لم يكن لديك هدف، فلن تلاقي تأثيرات نفسية فحسب، بل تأثيرات جسدية أيضًا" (ص:151) ويتساءل الكاتب عن الهدف من هكذا برامج اجتماعية: هل نريد منها تحويل الجزء الأكبر من الأفراد النشطين، وعلى رأسهم الطبقة الوسطى، إلى كتلة غير متبلورة وغير قادرة على القيام بعمل مستقل؟

يذكرنا هذا الكتاب ببعض الدراسات الاقتصادية الروسية المعاصرة التي تشير إلى ارتباط المواطن بصاحب العمل تماما كما كان حال الفلاحين منذ قرنين. فرغم تدني مستوى المعيشة نجد أن العامل لا يألو جهدا لإثبات ولائه لصاحب العمل، وهذا بالضبط ما كان قائما في أزمنة الإقطاعية. ولا تتوقف السمات التي تعيدنا إلى الخلف وتسمح لنا بالمقارنة بين اقطاعية الأمس واليوم (كما هو ظاهر من عنوان الكتاب) على المستوى العالي من غياب المساواة وحسب، بل أيضا طابعها المشوه وتكوين العوامل التي تؤثر على أجور العمال الروس، حيث تتراجع العوامل الداخلية التي تلعب دورًا رائدًا في النماذج الغربية كالتعليم والمؤهلات وخبرة العمل، في حين تكتسب العوامل الخارجية للعامل أهمية طاغية. كما تلعب الاختلافات الفئوية دوراً أكثر بروزاً مقارنة بالمؤهلات. ومن السمات المماثلة للقرون الوسطى هي أن تحديد قيمة العامل يتم حسب المكان الذي يعمل فيه (مؤسسة، مشروع معين) وليس وفقاً لمهاراته وخبراته. ومثلما كان الحال في القرن التاسع عشر، قد يأتي حظ العامل مع مالكٍ طيب فيسعد وقد يكون سيده شريرا فيتعس، والعواقب جرّاء هذا الوضع واضحة. فمثل هذا النظام يجبر العامل والموظف على إظهار الولاء لرئيسه، أولاً وقبل كل شيء، وذلك خشية فقدان العمل أو التعثر فيه. كما يصبح تغيير مكان العمل مغامرة غير مضمونة العواقب. ويكشف لنا هذا النظام سبب عدم فعالية جمعيات العمال الروسية (النقابات العمالية وغيرها). ففي هذا النظام الذي لا تعتمد فيه الأجور على المؤهلات وإنما على مكان العمل، تقع القوى العاملة ذات المؤهلات العالية في شرك منافسة السلبية بين بعضها البعض، ويكون الولاء للمسئول هو سلم الارتقاء في العمل وليس تطوير المؤهل وتنمية الخبرة. 

 

تفاصيل الكتاب:

الكتاب: الإقطاعية الجديدة 

المؤلف: ألكسندر ليجافا/  أكاديمية ومستعربة روسية

دار النشر: ريبول كلاسيك / موسكو/ 2021

اللغة: الروسية

عدد الصفحات: 384

أخبار ذات صلة